الأثاث في عصر النهضة الأوربية
استلهم عصر النهضة، الذي بدأ ظهوره في إيطالية منذ القرن الخامس عشر، عناصره من الفنون الكلاسيكية اليونانية والرومانية التي كانت آثارها تملأ شوارع رومة والمدن الإيطالية الأخرى، وقد استمد المعماريون والحرفيون من تلك الآثار مبادئ التصميم والتناسب والتناسق بين العناصر المعمارية وانعكس ذلك على صناعة الأثاث في أوربة كلها.
1- في إيطالية: كان للتبدلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المهمة التي شهدتها إيطالية في ذلك القرن أثر كبير في تبدل مفاهيم كثيرة. وأدى النشاط التجاري المتزايد إلى نمو عدد من المدن الإيطالية المهمة نمواً سريعاً فتضخمت ثرواتها وارتفع عدد الأثرياء فيها وظهرت فيها أسر حاكمة قوية نافست الكنيسة بثرواتها ونفوذها ورعايتها للفنون، كما نافستها في بناء القصور الفخمة واقتناء الأثاث الفاخر الذي بلغ درجة من الترف لم يبلغها أثاث آخر في العصور السابقة. ومع أن الانتقال من أثاث العصور الوسطى إلى أثاث عصر النهضة تم تدريجياً، فإن حرفيي عصر النهضة الإيطاليين بذلوا جهوداً كبيرة حتى توصلوا إلى إعطاء قطع الأثاث مظهرها المتناسق وخطوطها الدقيقة، وظهرت أولى علامات التغيير في تزيينات الأثاث.
ومع أن الأشكال المعمارية بقيت مفضلة في زخارف الأثاث المحفورة كما كانت في العهد القوطي فقد تبدلت موضوعاتها، وصارت تضم الأعمدة والقوصرات والأقواس وأشكالاً معمارية أخرى كتلك التي تشاهد في خرائب الآثار اليونانية والرومانية، أو تستلهم من الموضوعات الشعبية الأسطورية المجردة الموروثة من العهود الكلاسيكية كأبي الهول والغرفين والساتير satyr إضافة إلى الزخرفة العربية والحلية الدرجية scrolls وأوراق الأقنثوس والأطفال الملائكة وآلهة الحب (كيوبيد) والتماثيل الحاملة caryatid التي تقوم مقام الأعمدة.
وكانت زخارف الأثاث في بدء عصر النهضة محدودة وقليلة العمق جميلة التفاصيل، ثم ازدادت غنى مع مضي الزمن، وشاع معها التطعيم بالأخشاب الثمينة الملونة وبالعاج وبالأحجار الكريمة، ومنذ أواخر القرن الخامس عشر استعمل الجبس الممزوج بالغراء مادة متممة في الزخرفة النافرة والملونة. وأكثر الخشب استعمالاً في أثاث عصر النهضة خشب الجوز. وكانت القطع الكبيرة من الأثاث ترتكز إلى قواعد واطئة وتسند إلى الجدار عادة. وأجمل الأثاث ما كان يخصص لغرف النوم في القصور إذ لم تكن تلك الغرف مخصصة للنوم فقط بل كانت تستعمل للقاءات الحميمة ولاستقبال الأصدقاء والزائرين، وكان السرير يزود في زواياه بأعمدة مزخرفة وتعلوه ظلة فخمة وتحيط به من الجانبين أصونة متطاولة تسمى كاسون Cassone أو «صندوق الزواج» مطورة عن الصناديق المعروفة في العصور الوسطى. وكان الصوان منها يزخرف عادة بأفاريز محفورة ومدهونة أو مطعمة.
أما موضوعات زخارفها فتشتمل على مشاهد من احتفالات الأعراس ومن الأساطير الكلاسيكية. وكثيراً ما كان ينفذ هذه الزخارف فنانون مشهورون، ويعد ما بقي منها إلى اليوم تحفاً فنية لا مثيل لها. وهناك نمط آخر مطور عن الصندوق أيضاً يسمى «ردنزا» Redenza وهو خزانة مرتفعة ذات أبواب ودروج وتستعمل لحفظ الملابس والبياضات وأطباق الطعام والفضيات.
كذلك تنوعت الكراسي في عصر النهضة، فمنها الكرسي الكبير المسمى «سيديا» Sedia وهو كرسي ثقيل متطاول بذراعين يشبه كرسي العرش مقعده منجد ومغلف بالجلد أو المخمل. وهناك كرسي يدعى سافونارولا Savonarola وآخر يدعى دانتي Dante ولكل منهما ذراعان. وهما من الكراسي المعدة للاستعمال المنزلي ويتصفان برشاقة خطوطهما المنحنية وأطرهما المتقاطعة التي تشبه الكراسي القابلة للطي التي شاعت في العصر السابق، وثمة كرسي آخر خفيف يعرف باسم ساغابلو Sagabello على قاعدة تشبه الصندوق وظهر مرتفع ضيق نقش عليه شعار نبالة أو موضوع كلاسيكي ورصع بالعاج.
وفي القرن السادس عشر بدأ «الموزاييك» الخشبي والتطعيم بالخشب والترصيع بالعاج يزاحم الحفر النافر في تقنيات صناعة الأثاث الإيطالي. كما أصبح التنجيد بالجلد والمخمل أو بأقمشة مرقشة بالرسوم أو غيرها هو السائد. ومن مبتكرات عصر النهضة أيضاً الطاولة المنزلقة (التي يمكن زيادة طولها) والمكتبة الطويلة المزدوجة المزودة بغطاء متحرك يفتح إلى أسفل ولها أدراج وحجيرات متعددة.
2- في إسبانيا: اختصت إسبانية بنوع من الأثاث عرف باسم «مادخار» Madejar متأثر بالأسلوب المغربي العربي مع بقاء الظهر أوربياً إلا أن زخارفه شرقية الطابع.
وقد اقتبست إسبانية عن إيطالية الكثير من أنماط أثاث عصر النهضة وطورتها محلياً منذ القرن السادس عشر فجاءت أشكال الأثاث الإسباني بسيطة المظهر متينة مستقيمة الخطوط قليلة التفاصيل والزخارف مدعمة بأربطة من الحديد المضغوط. وكانت الطاولات والمقاعد والكراسي والصناديق تقوى بالحديد المشغول وتزين به، كما كان للسرر غالباً أعمدة من حديد ومساند من جهة الرأس مزينة بمسامير ذات طبقات تزيينية. وفي الأثاث الإسباني أثر واضح للفن الإسلامي يبدو جلياً في الأشكال الهندسية المعقدة والزخارف الزهرية المطعمة بالعظم وعرق اللؤلؤ والمعدن.وقد شاع في إسبانية استعمال الجلد المزخرف على نطاق واسع، ويعد الإسبان أول من استعمل خشب الماهوني (ماهوغاني Mahogani) في صناعة الأثاث الغربي. ولكن أخشاب الجوز والسنديان والزيتون كانت أكثر شيوعاً، وأكثر قطع الأثاث الإسباني شهرة خزانة تسمى «فارغوينو» Vargueno تستعمل لحفظ الأشياء الثمينة. ولها باب من خشب يفتح إلى أسفل ليستعمل طاولة للكتابة وخلف الباب حجيرات وكوات صغيرة مطعمة ومزخرفة بالنقش والرسم.
3- في فرنسا: كانت صناعة الأثاث الفرنسية أول من تأثر بعصر النهضة الإيطالي. فقط أولع لويس الثاني عشر (1462-1515) بمظهر الأثاث الإيطالي إبان زياراته المتكررة إلى إيطالية فاصطحب معه عدداً من الحرفيين الإيطاليين، وكذلك فعل كثير من أفراد حاشيته، ويمكن تقسيم أثاث عصر النهضة الفرنسي إلى مرحلتين، كانت المرحلة الأولى منهما مرحلة انتقال واقتباس. ففي عهد لويس الثاني عشر والقسم الأول من عهد فرانسوا الأول (1515-1547) كانت قطع الأثاث قوطية الشكل عموماً أما تزييناتها فمختلطة تجمع بين الزخارف القوطية وتماثيل آلهة الحب والزخارف الأخرى التي جاء بها عصر النهضة - وأما المرحلة الثانية فتبدأ من أواخر عهد فرانسوا الأول عندما حل الأسلوب الجديد محل الأسلوب القوطي نهائياً، وتخلت أشكال الزخرفة العربية arabesque المفعمة بالحيوية عن مكانتها إلى العناصر المعمارية الجديدة بعد أن كانت قد شاعت في أوائل عصر النهضة، وغلب خشب الجوز والأبنوس على السنديان. وتركزت صناعة الأثاث في فرنسة في هذه المرحلة في فونتنبلو التي أنزل فيها فرانسوا الأول حرفييه الإيطاليين، وكذلك في إيل دي فرانس وبرغندي.
اتصف الأثاث الفرنسي في القرن السادس عشر بأناقته ورشاقته وغناه بالتزيينات وخاصة التطعيم بصفائح المرمر المشكلة والأحجار النادرة والترصيع marquetry بالعاج وعرق اللؤلؤ والأخشاب الملونة الثمينة. وصار الكرسي أخف وزناً وأرشق مظهراً، ومسند الظهر فيه ضيقاً وحل محل المساند الجانبية والقاعدة المصنوعة من ألواح الخشب ذراعان مخروطان ومزخرفان بالحفر، وأما قوائم الكرسي فربطت مع القاعدة بعوارض.وظهر إلى الوجود كرسي خاص سمي «كرسي الهمس» أو النميمة Caquetoire منخفض المقعد عالي الظهر ضيقه محني الذراعين يقال إنه صمم لجلوس السيدات وتبادل الأحاديث الحميمة.
أما الطاولات فقد كانت متطاولة أنيقة المظهر محمولة على كتيفات مزخرفة consoles أو أعمدة مخددة يربط بينها عوارض وتتوجها أعمدة وقناطر. وأما الصناديق المزخرفة بالأسلوب الجديد فقد ظلت مستعملة على نطاق واسع، وقد تكون الخزائن العالية بديلاً عنها، وكانت هذه الخزائن تصنع أحياناً من طابقين يضم العلوي منهما عدداً كبيراً من الأدراج الصغيرة.
4- في الأراضي المنخفضة وألمانيا:
تبنى مصممو الشمال الأوربي في القرن السادس عشر زخارف عصر النهضة الإيطالي ونقلوها إلى بلادهم وطوروها حتى تحولت إلى نمط مستقل بذاته وخاصة في شمالي ألمانية والأراضي المنخفضة، وتميزت قطع الأثاث في هذه المناطق من غيرها بالحلية الشريطية المتداخلة أو المطوية وبالأطر المزخرفة والأقنعة المٌنزَّل فيها الخشب، وكان الفنانون الألمان والفلمنغ يتبادلون فيما بينهم «كتالوغات» مصورة تحمل هذه الزخارف، وتأثر بها المعدنون والنحاتون والفنانون التشكيليون وصانعو الأثاث في المناطق الشمالية. ومن أبرز مصنوعاتهم طاولة ثقيلة من خشب السنديان بأرجل وعوارض ضخمة. وهي قابلة للإطالة أحياناً drawtable. كذلك كان السرير ثقيلاً مزيناً بستائر كثيفة لتوفير العزلة، إذ إنه قد يوضع في أي غرفة من غرف المنزل. أما الكراسي فالغالب فيها الكرسي الخشبي القابل للطي والمقعد المنخفض المخروط القوائم، بالإضافة إلى نمط جديد من الكراسي بقواعد ومساند تشبه «الدرابزين» أو العمود الملتف، وظهرها قائم مرتفع.
5- في إنكلترا: لم يكن لعصر النهضة الإيطالي تأثير مباشر في إنكلترة حتى العام 1520 سواء من ناحية التصميم أو الزخرفة. ولكن مرحلة تطوير متدرج من الأسلوب القوطي شهدتها إنكلترة متأثرة في أول الأمر بالأسلوب الإيطالي ثم بأسلوب الأراضي المنخفضة اعتباراً من منتصف القرن السادس عشر، فقد ظل الأثاث في بدايات ذلك القرن قوطي الشكل ثم بدأت تطغى عليه ملامح الزخرفة الإيطالية شيئاً فشيئاً، وثمة قطع كثيرة من عصر النهضة الإنكليزي المبكر تجمع بين الألواح الخشبية الثقيلة المزينة بطيات على شكل القماش والرؤوس المنحوتة على هيئة ميداليات وآلهة الحب (الكيوبيدات)، ولكن منذ منتصف ذلك القرن، حلت محلها زخارف وأشكال جديدة، وخف تأثير الفن الإيطالي المباشر ليحل محله تأثير الأراضي المنخفضة عن طريق الكتب المصورة وهجرة الفنانين والمصممين من تلك المناطق إلى إنكلترة، وعن طريق استيراد قطع الأثاث المصنعة في ألمانية والأراضي المنخفضة، وليتحول هذا الأسلوب في خاتمة المطاف إلى أسلوب إنكليزي منفرد، وأهم مميزاته وفرة أعمال الحفر المتموج والخراطة والتطعيم والطلي التي تغطي كل جزء من سطوح قطع الأثاث، وهي الصفة الغالبة على عصر النهضة الإنكليزي. وفي عهد الملكة إليزابيث الأولى (1558-1603) ارتفع مستوى الرفاه لدى الشعب الإنكليزي ارتفاعاً كبيراً في المنزل وخارجه، فتحسنت صناعة الأثاث وازدادت تنوعاً. وظهرت البدايات التجريبية للأثاث المنجد، وهناك سلسلة من الصناديق المطعمة التي تحمل مشاهد معمارية اصطلح على تسميتها «الصناديق الفريدة من نوعها» none such chests كانت تستورد من ألمانية أو يتولى صنعها حرفيون ألمان في إنكلترة. وقد كان لهذه الصناديق أثرها في إحكام تقنيات التطعيم التي طبقت في نهاية القرن السادس عشر على كل أنماط الأثاث.
وبغض النظر عن هذا التحول في الزخرفة فقد شهدت إنكلترة تبدلات كثيرة في تصميم بعض أنماط الأثاث في القرن السادس عشر، إذ شاع استعمال الكراسي، مع أن المقاعد الخالية من المساند ظلت وسيلة الجلوس الأساسية حتى في قصور الملكة إليزابيث الأولى وجرى تطوير كرسي جديد من الكرسي الصندوقي فغدت مساند اليدين والقوائم فيه مخروطة خالية من الألواح التي تسدها، في حين ظلت مساند الظهر في الكراسي لوحية ومزخرفة بالحفر والتطعيم، كذلك كانت الكراسي القابلة للطي بأشكالها المختلفة شائعة الاستعمال. وفي أوائل القرن السابع عشر أحدث كرسي جديد منجد منخفض الظهر عريض المقعد ومن دون ذراعين سمي الكرسي المنتفخ farthingale chair لأنه يناسب «التنانير» العريضة المنتفخة التي كانت ترتديها النساء آنذاك. وكان القماش المستعمل غالباً من المخمل أو من المطرزات الشرقية.
وأما السرير فكان في أوائل القرن السادس عشر مرتفع الجانب الأيسر غنياً بالزخارف المحفورة وأكثر موضوعاتها تنزيل الخشب الثمين فيها والتماثيل الحاملة والزخرفة الشريطية والبصلية والدعامات المخروطة والمقنطرة والعقود المختلفة.
وأما الطاولات فقد حلت الطاولة الخفيفة Joyned Table محل الطاولة القوطية الثقيلة، وغدا ترسها مثبتاً بالإطار، كما أدخلت إلى إنكلترة الطاولات المنزلقة القابلة للإطالة بسحب لوحين مخفيين تحت الترس العلوي، وكانت قوائم الطاولات وجوانبها تزخرف بالحفر والتطعيم. كذلك أدخلت إلى البلاد في العهد اليعقوبي أنماط مختلفة من الخزائن وأغلبها من طابقين كما أدخل بدءاً من العام 1620 نوع جديد من الصناديق البسيطة المزودة بأدراج.