عادل هو شقيقى الأصغر ، ويصغرنى بعشر سنوات كاملة ، وحينما كان فى الخامسة من العمركنت أنا فى الخامسة عشرة ، والأطفال عادة يحبون الحكايات التى تسمى فى مصر "الحواديت" ، وكان عادل فى طفولته يطالبنى كثيرا بأن أقص عليه الحواديت ، وكنت لا أحفظ حواديت معينة وفى مقابل ذلك كان عندى القدرة على ارتجال الحواديت والاسترسال فيها مخترعا أحداثها لحظة بلحظة دون سابق إعداد ، وفى تلك الأثناء اخترعت شخصية أسميتها ديدبا ، وكان رجلا ولد وعاش فى الغابة وكان يمتاز بالشجاعة والقوة والحكمة ، وقد اخترعت هذا الاسم بصورة فورية أثناء الارتجال لأن مستمعى عادل لا يمكنه الانتظار حتى أفكر فى أسماء للشخصيات المستجدة ، كما أنه لا يتخيل أننى أخترع الأحداث ، إنه فى ذلك الوقت يعتقد أنها أحداثا حقيقية وإننى على علم بها من قبل.
وقد حكيت له عشرات القصص عن ديدبا وطبعا كنت أنسى تفاصيلها لأنها مخترعة ، وكلما طالبنى بحكاية كنت أحكى له حكاية جديدة ، وأحيانا كان يطالبنى بإحدى الحكايات السابقة فأحاول أن أتذكر أحداثها فأحكى له بحسبما تجود به الذاكرة ، وكان يصحح لى أحيانا ويذكرنى بالأحداث التى أنساها.
وكان عادل يلح عليّ أحيانا لأحكى له شيئا من الحواديت ، ولكنى قد لا أكون مستعدا للتفكير في حكايات جديدة فكنت أختار إحدى الحكايات القديمة حتى كثر استخدامى لإحدى حكايات ديدبا وكانت بعنوان : " ديدبا ينتقم من الزؤرد " ، حيث كان هذا الزؤرد إحدى الشخصيات المخترعة وكان عبارة عن لص خفي ظريف صغير الحجم فهو يستطيع أن يمر من تحت الباب أو من ثقب المفتاح أو ما شابه ، وكان عادل عندما يستشعر عدم رغبتى فى أن أحكى حواديت فكان يسهل عليّ المهمة بطلب هذه الحدوتة السهلة فيطلب منى أن أحكى له حكاية : " ديدبا ينتقم من الزؤرد " وكنت أحب أن أتسلى بمضايقته فأقول له لن أحكيها حتى تنطقها نطقا سليما فيحاول قدر جهده أن ينطقها بكل إتقان ولكننى أصدمه بأن نطقه غير صحيح فيعيد النطق عدة مرات وأنا أقول له نطقك خطأ فيقول لى كيف أنطقها إذن فأنطقها أمامه وقد أبدلت همزة الزؤرد قافا فتصير " الزقرد " وأنطقها مقلقلا حرفي القاف والدال ، فينطقها كما سمعها منى تماما فأقول له خطأ فيقول إذن كيف؟ فأقلقل الدال قلقلة شديدة فينطقها بقلقلة شديدة فأقول خطأ ، إذن كيف؟ فأقلقلها قلقلة عنيفة ، فينطقها بقلقلة عنيفة فأقول خطأ ، إذن كيف؟ فأقلقلها قلقلة فظيعة ، فينطقها بقلقلة فظيعة فأقول خطأ ، إذن كيف؟ فأقلقلها قلقلة شنيعة ، فينطقها بقلقلة شنيعة فأقول خطأ ، إذن كيف؟ فأبالغ فى قلقلتها أكثر مما سبق ، فيبالغ فى قلقلتها مثلى فأقول خطأ ، إذن كيف؟ فأضيف إليها همزة وهاء من شدة القلقلة فتصبح " الزقرد – إه " ، فيضيف إليها همزة وهاء من شدة القلقلة وينطقها : " الزقرد – إه " عند ذلك أشفق عليه وأقول له هكذا صار نطقك صحيحا ، فيتهلل فرحا ثم أبدأ أحكى له الحكاية.
وكلما تذكرت كم كنت أشقيه كل هذا الشقاء كلما طلب حدوته وكيف كان يتحمل كل هذا العناء من أجل سماع الحدوتة ؛ أدركت كم هى الحواديت شيقة ومحبوبة لدى الأطفال.
لكم طالما عانى عادل فى طفولته من أجل سماع الحواديت ، ولكن أجيال الأطفال التالية له مثل أبناء أختى كانوا أوفر حظا فقد سمعوا منى هذه الحواديت بأقل من المعاناة الكبيرة التى عاناها خالهم عادل.
أما أطفالي فحينما كنت أقول لهم : انطقوها نطقا سليما حتى أحكيها لكم فكان ابنى يصرخ محتجا : لن أنطقها إلا هكذا ، فهل ستحكي أم لا؟ فأقول لا ، فيقفز فوق صدري من جهة وتقلده أخته الأصغر فتقفز من الجهة الأخرى ، ويحاولان خنقي بأيديهما الصغيرة ويكرران : هل ستحكي أم لا؟ فأقول لا ، فيزيدون من الضغط واللكمات هنا وهناك مكررين : هل ستحكي أم لا ، فأقول حسنا حسنا سأحكي.
وهكذا كنت أحكي لهم تحت وطأة التهديد واستخدام القوة ، وكان الطفلان وقتئذ دون سن المدرسة.
ساحة النقاش