عدم اعتدادهم بشروط التكفير وموانعه
وردت نصوص الشريعة بوجوب التحري والتثبت فدلت الآية على أنه يجب الكف عن المشرك إذا أظهر الإسلام، ولو ظن أنه إنما قال ذلك خوفا من السيف، ولهذا قال تعالى:{ فَتَبَيَّنُوا} والتبين هو: التثبت، والتأني، حتى يتبين حقيقة الأمر ، وورد بمعنى هذا حديث أسامة بن زيد بن حارثة t ، قال: بعثنا رسول الله r إلى الحرقة من جهينة فصبحنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم فلما غشيناه ، قال: لا إله إلا الله، فكف عنه الأنصاري وطعنته برمحي حتى قتلته، قال فلما قدمنا بلغ ذلك النبي r فقال لي { يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله }، قال قلت يا رسول الله إنما كان متعوذا، قال فقال { أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله }، قال فمازال يكررها على حتى تمنيت أنى لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم ، وفي لفظ قال : { فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة }، قال يا رسول الله استغفر لي، قال { وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة }، قال فجعل لا يزيده على أن يقول { كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة } ( 1 ) .
كما جاءت الأحاديث عن النبي r بالتحذير من تكفير المسلم كما في حديث أبي ذر عن النبي أنه قال: { ومن دعا رجلاً بالكفر، أو قال: عدو الله! وليس كذلك، إلاَّ حار عليه } ( 2 ) .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله r :{ أيُّما امرئ قال لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلاَّ رجعت عليه } ( 3 ) .
قال ابن عبد البر رحمه الله : (أن كل من ثبت له عقد الإسلام في وقت بإجماع من المسلمين ثم أذنب ذنبا أو تأول تأويلا فاختلفوا بعد في خروجه من الإسلام لم يكن لاختلافهم بعد إجماعهم معنى يوجب حجة ولا يخرج من الإسلام المتفق عليه إلا باتفاق آخر أو سنة ثابتة لا معارض لها) ( 1 ) .
وقال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله :
(واعلم - رحمك الله وإيانا - أن باب التكفير وعدم التكفير، باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتتت فيه الأهواء والآراء،).
وقال أيضا : ( وأما الشخص المعين، إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر ؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة، فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت ، ولهذا ذكر أبو داود في سننه في كتاب الأدب: "باب النهي عن البغي" ، وذكر فيه عن أبي هريرة t ، قال: سمعت رسول الله r يقول: { كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول: أقصر، فوجده يوما على ذنب، فقال له: أقصر. فقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيبا ؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك [الله] الجنة، فقبض أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالما ؟ أو كنت على ما في يدي قادرا ؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار. وقال أبو هريرة: (والذي نفسي بيده، لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته)}...
ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهدا مخطئا مغفورا له، أو يمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله، كما غفر للذي قال: إذا مت فاسحقوني ثم ذروني، ثم غفر الله له لخشيته، وكان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته، أو شك في ذلك. لكن هذا التوقف في أمر الآخرة لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا، لمنع بدعته، وأن نستتيبه، فإن تاب وإلا قتلناه.
ثم إذا كان القول في نفسه كفرا قيل: إنه كفر، والقائل له يكفر بشروط وانتفاء موانع، ولا يكون ذلك إلا إذا صار منافقا زنديقا) ( 2 ).
فالخوارج ضلوا في هذا الباب؛ قال ابن عبد البر : (وقد ضلت جماعة من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة في هذا الباب فاحتجوا بهذه الآثار ومثلها في تكفير المذنبين)( 1 ).
ونقل قوام السنة في كتابه الحجة في بيان المحجة عن بعض العلماء أنه قال: ( المتأول إذا أخطأ وكان من أهل عقد الإيمان نُظِرَ في تأويله فإن كان قد تعلق بأمر يفضي به إلى خلاف بعض كتاب الله، أو سنة يقطع بها العذر ، أو إجماع فإنه يكفر ولا يعذر . لأن الشبهة التي يتعلق بها من هذا ضعيفة لا يقوى قوة يعذر بها لأن ما شهد له أصل من هذه الأصول فإنه في غاية الوضوح والبيان فلما كان صاحب هذه المقالة لا يصعب عليه درك الحق ، ولا يغمض عنده بعض موضع الحجة لم يعذر في الذهاب عن الحق ، بل عمل خلافه في ذلك على أنه عناد وإصرار ، ومن تعمد خلاف أصل من هذه الأصول وكان جاهلا لم يقصد إليه من طريق العناد فإنه لا يكفر ، لأنه لم يقصد اختيار الكفر ولا رضي به وقد بلغ جهده فلم يقع له غير ذلك ، وقد أعلم الله سبحانه أنه لا يؤاخذ إلا بعد البيان ، ولا يعاقب إلا بعد الإنذار ﭧ ﭨ ﭽ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﭼ التوبة: ١١٥ فكل من هداه الله عز وجل ودخل في عقد الإسلام فإنه لا يخرج إلى الكفر إلا بعد البيان ، قال : ومشايخ أهل الحديث قد أطلقوا القول بتكفير القدرية ، وكفروا من قال : بخلق القرآن .
وقال جماعة من العلماء : قد نطلق الكلمة على الشيء لنوع من التمثيل ولا يحكم بحقيقتها عند التفصيل ) ( 2 )
قال ابن تيمية رحمه الله : (ولهذا يجب الاحتراز من تكفير المسلمين بالذنوب والخطايا فإنه أول بدعة ظهرت في الإسلام فكفر أهلها المسلمين واستحلوا دماءهم وأموالهم) ( 3 ) ،وقال أيضا : (وليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك ؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة) ( 4 ).
وقد بيّن علماء أهل السنة والجماعة خطورة التكفير ، ووجوب التحري والدقة في الكلام فيه ، وفرقوا بين تكفير المعين وبين التكفير المطلق ،وبينوا وجوب مراعاة الشروط المعتبرة في باب التكفير ، والموانع التي تدرأ الكفر( 1 ).
قال ابن تيمية رحمه الله : ( فلهذا كان أهل العلم و السنة لا يكفرون من خالفهم و إن كان ذلك المخالف يكفرهم لأن الكفر حكم شرعي فليس للإنسان أن يعاقب بمثله كمن كذب عليك وزنى بأهلك ليس لك أن تكذب عليه و تزني بأهله لأن الكذب و الزنا حرام لحق الله تعالى و كذلك التكفير حق لله فلا يكفر إلا من كفره الله و رسوله .
و أيضا فإن تكفير الشخص المعين و جواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها و إلا فليس كل من جهل شيئا من الدين يكفر .
ولهذا لما استحل طائفة من الصحابة و التابعين كقدامة بن مظعون و أصحابه شرب الخمر وظنوا أنها تباح لمن عمل صالحا على ما فهموه من آية المائدة اتفق علماء الصحابة كعمر و علي و غيرهما على أنهم يستتابون فإن أصروا على الاستحلال كفروا و إن أقروا به جلدوا فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء لأجل الشبهة التي عرضت لهم حتى يتبين لهم الحق فإذا أصروا على الجحود كفروا ... و لهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية و النفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم أنا لو وافقتكم كنت كافرا لأني أعلم أن قولكم كفر وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال وكان هذا خطابا لعلمائهم و قضاتهم و شيوخهم وأمرائهم) ( 2 ).
والخوارج في تعديهم في باب التكفير لم يراعوا شروط التكفير وموانعه ، بل وقعوا في الاعتداء على الناس وظلمهم ، حتى لم يسلم منهم أهل العلم ؛ قال ابن تيمية رحمه الله :(فإن تسليط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات ؛ وإنما أصل هذا من الخوارج والروافض الذين يكفرون أئمة المسلمين ؛ لما يعتقدون أنهم أخطئوا فيه من الدين وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض ) ( 3 ).
ومن ظلم الخوارج في هذا الباب أنهم جعلوا من خالف القرآن ـ في ظنهم ـ بعلم أو برأي أخطأ فيه فهو كافر ، فلم يجعلوا الخطأ عذرا للمجتهد( 1 ).
وغالب الخوارج المعاصرين لا يعتدون في تكفيرهم للمعيّن - حتى على تقدير صحة ما زعموه - بموانع التكفير من الجهل والإكراه والخطأ والعجز والتأويل .
ومن ذلك تكفيرهم لعموم المسلمين كقول بعضهم : (إن جميع المجتمعات الإسلامية التي تزعم الانتساب للإسلام اليوم هي مجتمعات جاهلية لا يُستثنى منه أحد) ( 2 ) .
وقول بعض من تأثر بهم : (إنه ليس على وجه الأرض اليوم دولة مسلمة ولا مجتمع مسلم ، قاعدة التعامل فيه هي شريعة الله والفقه الإسلامي) ( 3 ) ويقول : (لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية؛ وعادت البشرية إلى مثل الموقف الذي كانت فيه يوم تنزل هذا القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويوم جاءها الإسلام مبنياً على قاعدته الكبرى : « شهادة أن لا إله إلا الله » ...لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية بلا إله إلا الله . فقد ارتدت البشرية إلى عبادة العباد ، وإلى جور الأديان؛ ونكصت عن لا إله إلا الله ، وإن ظل فريق منها يردد على المآذن : « لا إله إلا الله »؛ دون أن يدرك مدلولها ، ودون أن يعني هذا المدلول وهو يرددها...البشرية بجملتها ، بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات : « لا إله إلا الله » بلا مدلول ولا واقع . . وهؤلاء أثقل إثماً وأشد عذاباً يوم القيامة ، لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد - من بعدما تبين لهم الهدى - ومن بعد أن كانوا في دين الله!) ( 4 )
وقد تقدم كلام الشيخ العلامة عبد اللطيف آل الشيخ رحمه الله :(... وأما : التكفير بهذه الأمور، التي ظننتموها، من مكفرات أهل الإسلام فهذا : مذهب، الحرورية، المارقين، الخارجين على علي بن أبي طالب، أمير المؤمنين، ومن معه من الصحابة)
وقال أيضا : (والتجاسر على تكفير من ظاهره الإسلام، من غير مستند شرعي ولا برهان مرضي، يخالف ما عليه أئمة العلم من أهل السنة والجماعة; وهذه الطريقة، هي طريقة أهل البدع والضلال، ومن عُدم الخشية والتقوى، فيما يصدر عنه من الأقوال والأفعال...) ( 1 ).
ومن ذلك تعقب أحد الخوارج المعاصرين لابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره للمراد بالتولي المذكور وفي قوله تعالى : ﭽ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭼ المائدة: ٥١ .
فقال هذا الخارجي المعاصر منتقدا ابن جرير رحمه الله : "وهذا التعليل قاله من عند نفسه، وهو مصادم للنص الذي أثبت أن من نزلت فيهم الآيات كان باعثهم على موالاة الكفار، الخوف من دائرة الدهر والرضا بما عليه الكفار، وقول الطبري هنا يشبه قول مرجئة الفقهاء والمتكلمين، إن من أتى عملاً من أعمال الكفر فهو علامة على أنه مكذب بقلبه فقال الطبري، من تولَّى الكفار فلا بد أن يكون راضياً بدينهم وكلا القولين فاسد ترده النصوص" ( 2 ) ، ويلحظ أن الإمام ابن جرير وهو شيخ المفسرين لم يسلم من طعن الخوارج ، وتشبيه قوله بقول المرجئة ، وهذا يدل على عدم اعتدادهم بالشروط والقيود التي يذكرها أهل العلم.
وكذلك تفسيرهم الباطل للاستحلال وذلك أنهم جعلوا مجرد حماية المعصية أو الإذن فيها استحلالا .
ومن ذلك أنهم لا يرون النظر في الشروط والموانع في التكفير في قتال الطائفة الممتنعة وهم يجعلون المسلمين دولا وحكاما من الطوائف الممتنعة ويرون تكفيرهم وقتالهم.
فيقول أحد منظري الخوارج المتأخرين المسمي نفسه بأبي محمد المقدسي في رسالة له سماها الثلاثينية في التحذير من الغلو في التكفير: (فالممتنع عن شرائع الإسلام والممتنع عن النزول على حكم الله ، والمحارب للمسلمين الخارج عن قدرتهم وحكمهم ، سواء امتنع بدولة الكفر أو بقوانينها أو بجيوشها ومحاكمها ، هذا قد جمع بين نوعي الامتناع، فلا يجب تبين الشروط والموانع في حقه قبل التكفير والقتال .. إذ هو لم يسلم نفسه للمسلمين، ولا سلم بشرعهم وحكمهم حتى ينظر له في ذلك .. فلا يقال في حق من كانوا كذلك ، أنهم لم تقم عليهم الحجة ، كما يهذر به بعض من يهرف بما لا يعرف ، خصوصاً إذا كانوا محاربين مقاتلين لنا في الدين ، وقد تسلطوا على ديار الإسلام وامتنعوا بشوكتهم عن شرائعه ، وأقاموا وفرضوا شرائع الكفر والطاغوت) ( 1 ).
فصار ذكره قبل ذلك لشروط التكفير وموانعه غير مفيد إذ إن مخالفيهم لا يجب فيهم تبين الشروط والموانع في حقهم ، وقد جعل دول المسلمين من الطوائف الممتنعة( 2 ).
ومعلوم أن قتال الطائفة الممتنعة الذي ذكره أهل العلم إنما يكون من ولي أمر المسلمين ، وأمر القتال وكذلك دعوة الطائفة الممتنعة إلى التوبة والرجوع إلى الجماعة منوط بولي الأمر كما حدث في خلافة أبي بكر t ، لا كما يعتقد خوارج العصر ، الذين عكسوا الأمر واجتمع شذّاذ منهم وخرجوا على المسلمين وجعلوا من لم يوافقهم طائفة ممتنعة !! .
ساحة النقاش