اعتبار الخوارج ما ليس بذنب ذنبا وتكفيرهم مرتكبه بناء عليه
مفهوم الذنب إنما يؤخذ من الشرع فما جعله الشرع ذنبا فهو ذنب وما لا فلا ، وأما الخوارج فلم يتقيدوا بنصوص الشرع في حقيقة المذنب وغير المذنب ، وغالب فرق الخوارج غلوا في تكفير المسلم بارتكابه كبيرة في كبائر الذنوب كما تقدم ذكره ، وربما كفروا المسلم لأجل قيامه بعمل صالح كقسمة العطاء ومراعاة التأليف لبعض الناس أو يجتهد في أمر من الأمور كالإصلاح بين المسلمين ونحوه، وهم يخالفونه في الرأي جهلاً أو هوىً فيجعلون عمله ذنباً ثم يرتبون على ذلك الحكم بكفره ، ومن هنا كفروا عثمان وعليا وأصحاب الجمل والحكمين ومن صوبهما أو صوب أحدهما أو رضي بالتحكيم. فهؤلاء لم يرتكبوا ذنبا من زنا أو سرقة أو شرب خمر ، ولكن الخوارج كفروهم بناء على اعتقادهم أن ما قاموا به من الأعمال كتولية القرابة بعض الولايات أو قبول التحكيم والصلح ذنب ثم اعتقدوا أن أفعالهم هذه كفر ، وبنوا على ذلك أن كفروا عثمان وعليا وأصحاب الجمل ومن كان معهم.
وعن معمر عن أبي إسحاق قال: لما حكمت الحرورية، قال علي : ما يقولون؟ قيل يقولون لا حكم إلا لله قال:(الحكم لله، وفي الأرض حكام، ولكنهم يقولون لا إمارة، ولا بد للناس من إمارة يعمل فيها المؤمن ويستمتع فيها الفاجر والكافر ويبلغ الله فيها الأجل)( وعن معمر عن قتادة قال لما سمع علي المحكمة قال من هؤلاء قيل له القراء قال بل هم الخيابون العيابون قيل إنهم يقولون لا حكم إلا لله قال كلمة حق عزي بها باطل قال فلما قتلهم قال رجل الحمد لله الذي أبادهم وأراحنا منهم فقال علي كلا والذي نفسي بيده إن منهم لمن في أصلاب الرجال لم تحمله النساء بعد وليكونن آخرهم ألصاصا جرادين) ( 1 ).
والشاهد من ذلك أنهم أرادوا باطلا بكلام حق ، أوهموا فيه أن علي بن أبي طالب ارتكب ذنبا بالتحكيم ، فتفطن أمير المؤمنين علي لهم ، ورد عليهم .
وقد ثبت في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ما يدل على أنهم يعدون ذنبا ما ليس بذنب .
فيقول البخاري في صحيحه في باب: قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم.
وكان ابن عمر يراهم شرار خلق الله، وقال: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار، فجعلوها على المؤمنين( 2 )
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (وهم أول من كفر أهل القبلة بالذنوب، بل بما يرونه هم من الذنوب، واستحلوا دماء أهل القبلة بذلك، فكانوا كما نعتهم النبي r :{ يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان } ، وكفروا علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان ومن والاهما، وقتلوا علي ابن أبي طالب مستحلين لقتله، قتله عبد الرحمن بن مِلْجَم المرادي منهم، وكان هو وغيره من الخوارج مجتهدين في العبادة، لكن كانوا جهالاً فارقوا السنة والجماعة) ( 1 ).
وقال أيضا :(وإذا عرف أصل البدع فأصل قول الخوارج أنهم يكفرون بالذنب ، ويعتقدون ذنبا ما ليس بذنب ، ويرون اتباع الكتاب دون السنة التي تخالف ظاهر الكتاب - وإن كانت متواترة - ويكفرون من خالفهم ويستحلون منه لارتداده عندهم ما لا يستحلونه من الكافر الأصلي كما قال النبي r فيهم { يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان }ولهذا كفروا عثمان وعليا وشيعتهما ؛ وكفروا أهل صفين - الطائفتين - في نحو ذلك من المقالات الخبيثة) ( 2 ) .
وقال رحمه الله: " فهؤلاء أصل ضلالهم اعتقادهم في أئمة الهدى وجماعة المسلمين أنهم خارجون عن العدل وأنهم ضالون وهذا مأخذ الخارجين عن السنة من الرافضة ونحوهم ثم يعدون ما يرون أنه ظلم عندهم كفراً ثم يرتبون على الكفر أحكاماً ابتدعوها ، فهذه ثلاث مقامات للمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم في كل مقام تركوا بعض أصول دين الإسلام حتى مرقوا منه كما مرق السهم من الرمية "( 3 )
فالصلح الذي فعله علي ومعاوية رضي الله عنهما أمر محمود في الشرع؛ ولكن الخوارج لسوء مقاصدهم وفهمهم جعلوه ذنبا ثم كفرا .
وهكذا يفعل الخوارج المعاصرون فإنهم يكفرون الحكام بناء على وجود المقابلات الرسمية مع الكفار أو قبول الهدايا منهم أو المكاتبات وإقامة السفارات فيما بينهم وبين المسلمين أو عقد الهدنة والصلح مع الكفار أو دفع المال ضرورة للكفار اتقاء لشرهم، أو يكفرون الولاة لوجود التنظيمات الإدارية والترتيبات القانونية التي لا تخالف الشريعة،وقد يكفرون ولاة أمور المسلمين لأجل الالتزام بالمواثيق والعهود الدولية ، أو أن ذلك طاعة للكفار ، ويجعلون هذا من التحاكم إلى الطاغوت ، ولا يخفى أن ما جرى بين النبي r مع كفار قريش في الحديبية أصل في جواز هذه الاتفاقيات والمواثيق ( 1 ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ في استطراد له في موضوع العطاء ـ:
(وبمثل هذا طعن الخوارج على النبي r ،{ وقال له أولهم : يا محمد اعدل فإنك لم تعدل وقال: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله تعالى . حتى قال النبي r ، ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل لقد خبت وخسرت إن لم أعدل فقال له بعض الصحابة : دعني أضرب عنق هذا . فقال : إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم . يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة } وفي رواية : { لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد } ، وهؤلاء خرجوا على عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب t فقتل الذين قاتلوه جميعهم مع كثرة صومهم وصلاتهم وقراءتهم . فأخرجوا عن السنة والجماعة. وهم قوم لهم عبادة وورع وزهد ؛ لكن بغير علم ، فاقتضى ذلك عندهم أن العطاء لا يكون إلا لذوي الحاجات وأن إعطاء السادة المطاعين الأغنياء لا يصلح لغير الله بزعمهم . وهذا من جهلهم ؛ فإن العطاء إنما هو بحسب مصلحة دين الله . فكلما كان لله أطوع ولدين الله أنفع كان العطاء فيه أولى . وعطاء محتاج إليه في إقامة الدين وقمع أعدائه وإظهاره وإعلائه أعظم من إعطاء من لا يكون كذلك وإن كان الثاني أحوج ) ( 2 ).
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ـ في معرض رده على بعض الغلاة:
(وبلغنا عنهم : تكفير أئمة المسلمين، بمكاتبة الملوك المصريين ؛ بل كفروا : من خالط من كاتبهم من مشائخ المسلمين، نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى والحور بعد الكور .
وقد بلغنا : عنكم نحو من هذا وخضتم في مسائل من هذا الباب كالكلام في الموالاة، والمعاداة والمصالحة والمكاتبات وبذل الأموال والهدايا ونحو ذلك من مقالة أهل الشرك بالله، والضلالات والحكم بغير ما انزل الله عند البوادى، ونحوهم من الجفاة، لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب ومن رزق الفهم عن الله وأوتي الحكمة وفصل الخطاب .
والكلام في هذا : يتوقف على معرفة ما قدمناه، ومعرفة أصول عامة، كلية، لا يجوز الكلام في هذا الباب وفي غيره لمن جهلها و أعرض عنها وعن تفاصيلها فإن الإجمال ،والإطلاق ،وعدم العلم،بمعرفة مواقع الخطاب، وتفاصيله، يحصل به من اللبس، والخطأ، وعدم الفقه عن الله، ما يفسد الأديان، ويشتت الأذهان، ويحول بينها، وبين فهم السنة والقرآن ؛ قال : ابن القيم، في كافيته، رحمه الله تعالى :
فعليك بالتفصيل والتبيين فالـ ... ... إطلاق والإجمال دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الـ ... ... أذهان والآراء كل زمان
وأما : التكفير بهذه الأمور، التي ظننتموها، من مكفرات أهل الإسلام فهذا : مذهب، الحرورية، المارقين، الخارجين على علي بن أبي طالب، أمير المؤمنين، ومن معه من الصحابة، فإنهم : أنكروا عليه، تحكيم أبي موسى الأشعري، وعمرو بن العاص، في الفتنة التي وقعت، بينه وبين معاوية، وأهل الشام ؛ فأنكرت الخوارج عليه ذلك، وهم في الأصل من أصحابه، من قراء الكوفة، والبصرة، وقالوا : حكّمت الرجال في دين الله، وواليت معاوية، وعمراً، وتوليتهما، وضربت المدة بينك وبينهم، وقد قطع الله هذه الموادعة والمهادنة، منذ أنزلت : براءة .
فهذا يدل على أن متأخري الخوارج وافقوا المتقدمين منهم في التكفير بما ليس بذنب ، وقد يكفرون بذنب لا يخرج من الملة كما تقدم .
ساحة النقاش