حقيقة مذهب أصحاب التفويض
هم طائفة من المنتسبين إلى السنة واتباع السلف، تعارض عندهم المعقول والمنقول فأعرضوا عنهما جميعاً، بقلوبهم وعقولهم، بعد أن هالهم ما عليه أصحاب التأويل من تحريف للنصوص، وجناية على الدين، فقالوا في أسماء الله وصفاته، وما جاء في ذكر الجنة والنار، والوعد والوعيد، إنها نصوص متشابهة، لا يعلم معناها إلا الله تعالى وجعلوا الوقف في آية آل عمران عند لفظ الجلالة . .
وهم طائفتان من حيث إثبات ظواهر النصوص ونفيها . :
الأولى: تقول: المراد بهذه النصوص خلاف مدلولها الظاهر، ولا يعرف أحد من الأنبياء, ولا الملائكة, ولا الصحابة، ولا أحد من الأمة ما أراد الله بها، كما لا يعلمون وقت الساعة.
الثانية: تقول: بل تجرى على ظاهرها، وتحمل عليه، ومع هذا، فلا يعلم تأويلها إلا الله تعالى فتناقضوا: حيث أثبتوا لها تأويلاً يخالف ظاهرها، وقالوا -مع هذا-: إنها تحمل على ظاهرها.
وهم –أيضاً- طائفتان من حيث علم الرسول صلى الله عليه وسلم بمعاني النصوص وعدمه: .
الأولى: تقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم معاني هذه النصوص المتشابهة، لكنه لم يبين للناس المراد منها، ولا أوضحه إيضاحاً يقطع النزاع، وهذا هو المشهور بينهم.
الثانية: تقول: -وهم الأكابر منهم-: إن معاني هذه النصوص المتشابهة لا يعلمه إلا الله، لا الرسول, ولا جبريل, ولا أحد من الصحابة, والتابعين, وعلماء الأمة.
وعند الطائفتين، أن هذه النصوص إنما أنزلت للابتلاء، والمقصود منها تحصيل الثواب بتلاوتها وقراءتها من غير فقه ولا فهم . .
فأصحاب التفويض بنوا مذهبهم على أصلين:
الأول: أن هذه النصوص – نصوص الصفات, والقدر, والوعد, والوعيد, والمعاد – من المتشابه، و... دحض هذه الدعوى، ...أنه لا يعلم أحد من السلف جعل شيئاً من هذه النصوص من المتشابه الذي لا يعلم معناه أحد من الناس.
الثاني: أن المتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى, واستدلوا على ذلك بالوقف على لفظ الجلالة في آية آل عمران، والوقف صحيح، وهو قول جمهور العلماء، لكن لم يقل واحد منهم إن معاني هذه النصوص وغيرها لا يعلمه إلا الله: لا الرسول صلى الله عليه وسلم, ولا أحد من الأمة. فهم لم يفرقوا بين معنى الكلام وتفسيره, والذي يعلمه الرسول والراسخون في العلم، وبين التأويل الذي اختص الله بعلمه، من العلم بوقت الساعة, وحقائق الأسماء والصفات، ومسائل اليوم الآخر ونحو ذلك، ومع ذلك فنحن نفهم ما خوطبنا به من هذه المسائل من جهة المعنى، وإن كنا نجهلها: كيفية وقدراً...
الفرق بين التفويض والإثبات:
تباين السلف وأصحاب التفويض في مسائل أهمها:
الأولى: أن السلف أثبتوا اللفظ وما دل عليه من المعاني، مع فهمهم المعنى المراد من حيث الوضع اللغوي، ومن حيث معرفة مراد المتكلم، فيعلمون معنى السمع والبصر، والوجه واليدين، والصراط والميزان، ونحو ذلك.
أما أصحاب التفويض فهم وإن كانوا قد أثبتوا اللفظ، وفهموه من حيث وضع اللغة؛ لكنهم توقفوا في تعيين المراد به في حق الله تعالى, بل يمنعون أن يكون ظاهره مراداً.
الثانية: السلف فوضوا العلم بالكيفية دون العلم بالمعنى؛ فيعلمون معنى السمع والبصر, والوجه, واليدين، ويعلمون معاني ما أخبر الله به من مسائل اليوم الآخر من أنواع النعيم, وصنوف العذاب، ولكنهم يجهلون كيفية ذلك وحقيقته التي هو عليها.
أما أصحاب التفويض فقد فوضوا العلم بالكيفية والمعنى جميعاً، فلا يعلمون معاني نصوص الصفات، ولا معاني نصوص المعاد، بل يقولون: لا ندري ما أراد الله بها.
الثالثة: أصحاب التفويض وافقوا السلف – أو كثيراً منهم – في الوقف على لفظ الجلالة، لكنهم خالفوهم في جعلهم التأويل المنفي في الآية هو تفسير اللفظ ومعرفة معناه، أو هو التأويل بالاصطلاح الحادث عند المتأخرين . . والسلف يقولون: التأويل المنفي هو الحقيقة التي يؤول إليها الأمر, وهو غالب استعمال القرآن، كما مر..
المطلب الثاني: الأدلة على بطلان مذهب التفويض
- تواتر الآيات والأحاديث على إثبات صفة معينة وذلك بأساليب متعددة، ودلالات متعاضدة، يؤكد أن هذا الظاهر هو المطلوب فهمه، فصرف العقول والقلوب عن إدراك هذا المعنى – والذي احتشدت النصوص لتأكيده – هو غاية في الاستبلاه.
- لقد فسر أئمة السلف كثيراً من آيات الصفات كقولهم في الاستواء إنه: العلو, والاستقرار, والارتفاع . ، مما يدل على أنهم فهموا معناها.
- قول عبد الله بن المبارك وقد سئل: كيف نعرف ربنا؟ فقال: (نعرف ربنا: فوق سبع سموات على العرش استوى، بائن من خلقه)، وفي رواية، قال: (على السماء السابعة على عرشه) . وهذا الذي قاله هو مقتضى النصوص، وهو الذي فهمه منها.
- تفريق السلف بين إدراك المعنى وإدراك الكيف: وقد تقدم كلام الإمام مالك رحمه الله في ذلك، وقال الذهبي عقب كلام مالك رحمه الله: (وهو قول أهل السنة قاطبة: أن كيفية الاستواء لا نعقلها، بل نجهلها، وأن استواءه معلوم كما أخبر في كتابه، وأنه كما يليق به) . .
- يلزم من مذهب التفويض لوازم باطلة، منها:
أ- القدح في الرب جل وعلا, وفي القرآن الكريم, وفي الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك بأن يكون الله تعالى أنزل كلاماً لا يفهم، وأمر بتدبر ما لا يتدبر، وبعقل مالا يعقل، وأن يكون القرآن الذي هو النور المبين والذكر الكريم سبباً لأنواع الاختلافات والضلالات، بل يكون بينهم وكأنه بغير لغتهم، وأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ البلاغ المبين، ولا بين للناس ما نزل إليهم، وبهذا تكون قد فسدت الرسالة، وبطلت الحجة، وهو الذي لم يتجرأ عليه صناديد الكفر . .
ب- أن يتسلط المتأولة على المفوضة فينسبون هذه الطريقة إلى السلف، فيكون السلف من الصحابة وخيار التابعين بمنزلة الأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، شغلهم الجهاد وفتح البلاد عن التدبر في كلام الله تعالى وعقله وفهمه، فقال المتأخرون قولتهم المشئومة: طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم، بل طريقة السلف أسلم وأعلم وأحكم، وما أمتاز عنهم المتأخرون إلا بالتكلف والاشتغال بالأطراف التي كانت همة القوم مراعاة أصولها وضبط قواعدها، وشد معاقدها، وهممهم مشمرة إلى المطالب العالية في كل شيء فالمتأخرون في شأن، والقوم في شأن آخر، وقد جعل الله لكل شيء قدراً . .
ج- استطالة نفاة المعاد – وغيرهم من الملاحدة – على المفوضة فيقول الواحد منهم: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك، لأن تلك النصوص مشكلة ومتشابهة لا يعلم أحد معناها، وما لا يعلم معناه لا يجوز الاستدلال به، فيبقى هذا المذهب (التفويض) سداً لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحاً لباب من يعارضهم من أهل الضلالات من الفلاسفة, والملاحدة الباطنية، وأصحاب الأذواق والمواجيد والتأويلات الشنيعة . .
المنطق الأرسطي
يزعم أصحاب المنطق أن المنطق نوعان: ظاهر وباطن، والظاهر هو الألفاظ والكلام، وتقويمه إنما يكون بالنحو في النثر، وبالعروض في الشعر، وأما الباطن فهو عمل العقل، وفكره، وتقويمه إنما يكون بالمنطق الاصطلاحي . :
والمشهور عندهم أنه: (آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر، أو أن يزل في تفكيره) .
قد يظن البعض أن المسلمين رفضوا المنطق الأرسطي لمجرد اشتغال الأمم الكافرة به، وهذا ظن خاطئ لأنه يستلزم أن يرفض المسلمون كل ما أتى من غيرهم من علوم صحيحة كالطب, والحساب, والهندسة ونحوها. وإنما رفض المسلمون المنطق الأرسطي لأسباب شرعية وعقلية
المسألة الأولى: الأسباب الشرعية لرفض المنطق الأرسطي
1- أنه لم يؤثر عن الصدر الأول من الصحابة والتابعين التكلم بالمنطق؛ إما لكونه لم يكن موجوداً في زمانهم، أو كان موجوداً ثم أعرضوا عنه . وشريعة الإسلام ليست موقوفة على شيء يتعلم من غير المسلمين أصلاً . ، وإن كان طريقاً صحيحاً، فكيف إذا كان فاسداً أو متضمناً للفساد، بل الكفر والإلحاد.
2- أن المنطق نشأ في بيئة فلسفية، كان أصحابها أهل شرك وإلحاد، بل ما عند مشركي العرب من الكفر والشرك خير مما عند الفلاسفة . . قال ابن تيمية في الفلاسفة: (وضلالهم في الإلهيات ظاهر لأكثر الناس؛ ولهذا كفرهم فيها نظار المسلمين قاطبة) . . ولهذا كان أبو القاسم السهلي وغيره يقول: (نعوذ بالله من قياس فلسفي وخيال صوفي) . .
فلم يأخذ المسلمون بالمنطق الأرسطي لملابسته العلوم الفلسفية المباينة للعقائد الصحيحة . .
3- خشية اغترار بعض المسلمين بالمنطق لما يرى من صدق قضاياه، فيظن أنها كلها صادقة، وأن ما يتعلق منها بالعقائد مبرهن بمثل تلك البراهين، يقول الغزالي - في معرض نقده للمنطق في أواخر كتبه - . : (وربما ينظر في المنطق – أيضاً – من يستحسنه ويراه واضحاً فيظن أن ما ينقل عنهم من الكفريات مؤيدة بمثل تلك البراهين، فاستعجل بالكفر قبل الانتهاء إلى العلوم الإلهية) ويشير ابن تيمية إلى هذا المعنى في أول كتابه: الرد على المنطقيين . ، فيقول: (كنت أحسب أن قضاياه – أي المنطق – صادقة لما رأيت من صدق كثير منها, ثم تبين لي فيما بعد خطأ طائفة من قضاياه... وتبين لي أن كثيراً مما ذكروه في أصولهم في الإلهيات و في المنطق هو من أصول فساد قولهم في الإلهيات).
4- قصور البرهان الفلسفي عن الوصول بالإنسان إلى اليقين، وذلك عند تطبيقه في الإلهيات؛ يقول الغزالي: (لهم نوع من الظلم في هذا العلم، وهو أنهم يجمعون للبرهان شروطاً يعلم أنها تورث اليقين لا محالة، لكنهم عند الانتهاء إلى المقاصد الدينية ما أمكنهم الوفاء بتلك الشروط، بل تساهلوا غاية التساهل) . .
5- ما يسببه المنطق الأرسطي من التفرق والاختلاف والتنابذ، ومازال أهله والمشتغلون به على هذه الحال، بل لا تكاد تجد اثنين منهم يتفقان على مسألة، حتى التي يسمونها بديهيات أو يقينيات . . وقد مر قول من قال: (فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلا أفسدتها وأوقعت بين علمائها) . .
6- ما يلزم منه من لوازم فاسدة، تناقض العلم والإيمان, وتفضي إلى أنواع من الجهل, والكفر, والضلال . ... ومن ذلك:
أ- القول بقدم العالم، وذلك لأن الإله لا يسبق العالم في الوجود الزمني، وإن كان يسبقه في الوجود الفكري، مثلما تسبق المقدمة النتيجة في الوجود الفكري . .
وهذا مما أنكره الغزالي على الفلاسفة وكفرهم به في كتابه: (تهافت الفلاسفة) . .
ومن فساد هذا المذهب ما يلزمه من تضمن المخلوقات في الخالق منذ البداية، كتضمن النتيجة في المقدمة منذ البداية، فيكون الخالق مخلوقاً، والمخلوق خالقاً، والصانع مصنوعاً، والمصنوع صانعاً، والعلة معلولاً، والمعلول علة... إلى غير ذلك من التناقضات . .
ب- إنكار الصفات الثبوتية لله تعالى، بل يصفونه بالسلوب المحض، أو بما لا يتضمن إلا السلب، ولهذا قالوا: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد؛ لأنه لو صدر عنه اثنان لكان ذلك مخالفاً للوحدة، وبهذا نفوا أن يكون الله فاعلاً مختاراً، فنفوا الصفات عن الله تعالى هروباً من تشبيهه بالنفوس الفلكية أو الإنسانية، ثم شبهوه بالجمادات . .
ج- إنكار علم الله تعالى بالجزئيات، وهذا هو المشهور عنهم وهو مما أنكره الغزالي -أيضاً- في كتابه: (التهافت) وغيره . ، فالله تعالى عندهم يعلم الأمور الكلية دون أفرادها وجزئياتها، وذلك لأن هذه الجزئيات في تغير وتجدد، فلو تعلق علم الله تعالى بها للزمه التغير والتجدد بتغير المعلوم وتجدده، فيلزم من ذلك التغير في ذات الله تعالى، وهو الواحد الأحد . . وهذا تكذيب صريح للقرآن الكريم وصحيح العقل، وفيه فتح لباب الفساد في العالم، والخروج على الشريعة جملة وتفصيلاً، وأعظم منه إساءة الظن برب العالمين.
د- إنكار النبوات: لما رأى الفلاسفة اشتراك النفوس في كثير من الأحوال عادة، جعلوا ذلك أمراً عاماً وكلياً وملزماً لكل النفوس، ورأوا لبعض النفوس قوة حدسية، وتأثيرا في بعض الأمور، وأمورا متخيلة، فلما بلغهم من أمر الأنبياء كالمعجزات, ونزول الوحي, ورؤية الملائكة وغير ذلك، جعلوا ما يحدث للأنبياء على نحو ما يكون لتلك النفوس، فليست النبوة – عندهم – هبة الله، ومنته على بعض عباده، بل هي أمر مكتسب تستعد له النفوس بأنواع الرياضات ..
هـ- إنكار الأخبار المتواترة: وذلك أن الأمور المعلومة بالتواتر والتجربة والحدس -عند المناطقة- احتمالية الصدق، ويختص بها من علمها فلا تكون حجة على غيره، كما أن صدقها قاصر على الجزئية التي جربت, أو سمعت, أو شوهدت، فهي جزئية من جهة نفسها، ومن جهة العلم بها؛ وعليه، فما يتواتر عن الأنبياء من أمر المعجزات وغيرها من أحوالهم وشرائعهم لا تقوم به حجة، وهذا من أصول الإلحاد والزندقة، وبناء على هذا يقول من يقول من أهل الإلحاد: هذا لم يتواتر عندي فلا تقوم به الحجة علي. فيقال له: اسمع كما سمع غيرك، وحينئذ يحصل لك العلم. وإنما هذا كقول من يقول: رؤية الهلال أو غيره لا تحصل إلا بالحس، وأنا لم أره، فيقال له: انظر إليه كما نظر غيرك فستراه، إذا كنت لم تصدق المخبرين.
ثم إنه ليس من شرط قيام حجة الله تعالى علم المدعوين بها، ولهذا لم يكن إعراض الكفار عن استماع القرآن وتدبره مانعاً من قيام الحجة عليهم، وأيضاً، فإن عدم العلم ليس علماً بالعدم، فهم إذا لم يعلموا ذلك لم يكن هذا علماً منهم بعدم ذلك، ولا بعدم علم غيرهم به، بل هم كما قال تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ... [يونس: 39] . .
المسألة الثانية: الأسباب العقلية لرفض المنطق الأرسطي
1- المنطق الأرسطي تجريدي، لا صلة له بالواقع، فهو يبحث في عالم الكليات، وهذا العالم ليس له وجود في الخارج، بل وجوده في الذهن، فالمنطق يتجاهل البحث في الجزئيات والأعيان المشخصة . .
2- أننا نرى كثيراً من العلوم – كالهندسة, والطب, والفلك – تتقدم تقدماً كبيراً دون أن يكون كبار الباحثين فيها ممن تخرجوا على منطق أرسطو . ؛ يقول ابن تيمية: (إننا لا نجد أحداً من أهل الأرض حقق علماً من العلوم وصار إماما فيه بفضل المنطق، لا من العلوم الدينية ولا غيرها، فالأطباء والمهندسون وغيرهم يحققون ما يحققون من علومهم بغير صناعة المنطق، وقد صنف في الإسلام علوم النحو, والعروض, والفقه وأصوله وغير ذلك، وليس في أئمة هذه الفنون من كان يلتفت إلى المنطق، بل عامتهم كانوا قبل أن يعرف المنطق اليوناني) . .
3- أن محاولة فرض المنطق على كل العلوم – العقلية والتطبيقية، بل والشرعية – وجعله مقدمة لها، وشرطاً في تعلمها، ضرب من الخيال، بل المنطق نمط فكري انتهى عهده، وقد كان يناسب الفكر اليوناني في حقبة من التاريخ، حيث الفكرة المجردة، والجدل المثالي؛ يقول الدكتور عبد اللطيف محمد العبد: (ظن أنصار المنطق أنه العلم الذي لا علم قبله، ولا علم بعده، لأنه معيار الحقائق كلها، وميزان العلوم، ولم يكن هؤلاء يتخيلون مجرد تخيل أن هذا المنطق القياسي لن يكون علم العلوم، بل إنه سيصبح مرحلة تاريخية مضى أوانها) . .
4- أن هذا المنطق كان له أكبر الأثر في تخلف اليونان عن ركب المدنية، حيث انزوى بالفكر والجهود العلمية نحو عالم الميتافيزيقا – عالم ما وراء الطبيعة – معرضاً عن الحياة المدنية، والعلوم التطبيقية الواقعية:
يقول الأستاذ علي لبن: (يكاد يتفق مؤرخوا الفلسفة على أن العلم لم ينهض في مطلع العصر الأوربي الحديث إلا بعد الثورة المزدوجة على السلطة العلمية ممثلة في المنطق الأرسطي، والسلطة الدينية ممثلة في رجال الكنيسة)) . .
ولهذا كان ظهور المنطق الحديث على يد فرانسيس بيكون وغيره والذي استفادوه من علماء الإسلام وخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية، كان ظهوره ضربة قاضية للمنطق الأرسطي في أوربا، وعاملاً كبيراً في التقدم العلمي والحضاري فيها . ..
المسألة الثانية: الأسباب العقلية لرفض المنطق الأرسطي
1- المنطق الأرسطي تجريدي، لا صلة له بالواقع، فهو يبحث في عالم الكليات، وهذا العالم ليس له وجود في الخارج، بل وجوده في الذهن، فالمنطق يتجاهل البحث في الجزئيات والأعيان المشخصة . .
2- أننا نرى كثيراً من العلوم – كالهندسة, والطب, والفلك – تتقدم تقدماً كبيراً دون أن يكون كبار الباحثين فيها ممن تخرجوا على منطق أرسطو . ؛ يقول ابن تيمية: (إننا لا نجد أحداً من أهل الأرض حقق علماً من العلوم وصار إماما فيه بفضل المنطق، لا من العلوم الدينية ولا غيرها، فالأطباء والمهندسون وغيرهم يحققون ما يحققون من علومهم بغير صناعة المنطق، وقد صنف في الإسلام علوم النحو, والعروض, والفقه وأصوله وغير ذلك، وليس في أئمة هذه الفنون من كان يلتفت إلى المنطق، بل عامتهم كانوا قبل أن يعرف المنطق اليوناني) . .
3- أن محاولة فرض المنطق على كل العلوم – العقلية والتطبيقية، بل والشرعية – وجعله مقدمة لها، وشرطاً في تعلمها، ضرب من الخيال، بل المنطق نمط فكري انتهى عهده، وقد كان يناسب الفكر اليوناني في حقبة من التاريخ، حيث الفكرة المجردة، والجدل المثالي؛ يقول الدكتور عبد اللطيف محمد العبد: (ظن أنصار المنطق أنه العلم الذي لا علم قبله، ولا علم بعده، لأنه معيار الحقائق كلها، وميزان العلوم، ولم يكن هؤلاء يتخيلون مجرد تخيل أن هذا المنطق القياسي لن يكون علم العلوم، بل إنه سيصبح مرحلة تاريخية مضى أوانها) . .
4- أن هذا المنطق كان له أكبر الأثر في تخلف اليونان عن ركب المدنية، حيث انزوى بالفكر والجهود العلمية نحو عالم الميتافيزيقا – عالم ما وراء الطبيعة – معرضاً عن الحياة المدنية، والعلوم التطبيقية الواقعية:
يقول الأستاذ علي لبن: (يكاد يتفق مؤرخوا الفلسفة على أن العلم لم ينهض في مطلع العصر الأوربي الحديث إلا بعد الثورة المزدوجة على السلطة العلمية ممثلة في المنطق الأرسطي، والسلطة الدينية ممثلة في رجال الكنيسة)) . .
ولهذا كان ظهور المنطق الحديث على يد فرانسيس بيكون وغيره والذي استفادوه من علماء الإسلام وخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية، كان ظهوره ضربة قاضية للمنطق الأرسطي في أوربا، وعاملاً كبيراً في التقدم العلمي والحضاري فيها . ..
المطلب الثالث: حكم الاشتغال بالمنطق الأرسطي
قال ابن تيمية: (ما زال علماء المسلمين وأئمة الدين يذمونه, ويذمون أهله, وينهون عنه وعن أهله، حتى رأيت للمتأخرين فتيا فيها خطوط جماعة من أعيان زمانهم من أئمة الشافعية والحنفية وغيرهم فيها كلام عظيم في تحريمه، وعقوبة أهله) . .
وقال ابن الصلاح: (سمعت الشيخ العماد بن يونس يحكي عن يوسف الدمشقي مدرس النظامية ببغداد – وكان من النظار المعروفين -: أنه كان ينكر هذا الكلام (وجوب تعلم المنطق) ويقول: فأبو بكر وعمر وفلان وفلان، يعني أن أولئك السادة عظمت حظوظهم من الثلج واليقين، ولم يحيطوا بهذه المقدمة وأسبابها) . .
وفتوى ابن الصلاح في تحريم المنطق مشهورة، وكان قد سئل عمن اشتغل بالمنطق والفلسفة تعلماً وتعليماً، وهل المنطق مما أباح الشارع تعلمه وتعليمه؟، وهل نقل عن الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين إباحته أو الاشتغال به؟ وهل يجوز أن يستعمل في إثبات الأحكام الشرعية الاصطلاحات المنطقية، أم لا؟. . إلى آخر الفتوى . : فأجاب رحمه الله تعالى بما ملخصه:
الفلسفة أس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال. . ثم بالغ في ذم الفلسفة وازدرائها. . ثم قال: (وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة, ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع، ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين، والأئمة المجتهدين، والسلف الصالحين، وسائر من يقتدى به من أعلام الأمة وسادتها).. ثم ذكر أن استعمال الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية من الأمور المستحدثة والمنكرات المستبشعة، وليس بالأحكام الشرعية – والحمد لله – افتقار إلى المنطق أصلاً. . إلى آخر الجواب . .
فهل يقال بعد ذلك إن الصحيح المشهور جوازه بشرط المكنة من العلوم الشرعية، فضلاً عن جوازه مطلقاً، فضلاً عن وجوبه على الأعيان أو الكفاية، سبحانك هذا بهتان عظيم!
لكن قد يقال يجوز حكايته لبيان عوره، وإثبات فساده، وعديم فائدته، مثله في ذلك مثل الأحاديث الموضوعة، تحكى لبيان وضعها وفسادها..
المطلب الأول: التعريف بالكشف والرؤى
أولاً: الكشف:
وهو الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الخفية وجوداً أو شهودا . ...
وللمتصوفة بعض المصطلحات التي تحمل معنى الكشف، وقد يكون بينها وبينه عموم وخصوص، ... فمثلاً:
1- الخاطر عندهم: ما يرد على القلب والضمير من الخطاب، ربانياً كان أو ملكياً أو نفسياً أو شيطانياً، من غير إقامة، وقد يكون كل وارد لا تعمل لك فيه . .
2- الوارد: وهو ما يرد على القلب من الخواطر المحمودة من غير تَعَمُّل . , وقد قيل للخاطر الرباني: أول الخاطر، وهو لا يخطئ أبداً، وقد يعرف بالقوة والتسلط وعدم الاندفاع، والخاطر الملكي يسمى إلهاماً، وهو إلقاء الشيء في الروح.
والخاطر النفساني يسمى هاجساً، وهو ما فيه حظ النفس. أما الخاطر الشيطاني فهو ما يدعو إلى مخالفة الحق . .
3- التجلي: وهو ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب . .
4- المحادثة: وهي خطاب الحق للعارفين من عالم الملك والشهادة كالنداء من الشجرة لموسى (عليه السلام) . .
5- المسامرة: وهي خطاب الحق للعارفين من عالم الأسرار والغيوب نزل به الروح الأمين على قلوبهم
المطلب الثاني: موقف أهل السنة والجماعة من ذلك
إن علوم المتصوفة – كما يزعم أصحابها – تستفاد من غير طريق الشرع، ولا يجوز أن توزن به، كيف وقد أخذوها من الله تعالى إما كفاحاً، أو إلهاماً، أو من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته يقظة، فحالهم مع الشرع كحال الخضر مع موسى، هكذا يزعمون.
وفي هذا المبحث...... بيان موقف أهل السنة والجماعة من هذا المذهب الخطير، والذي حاول أعداء الإسلام أن يبطلوا به أحكام الشرع, ويدكوا حصونه،..... وهذا الموقف في مقامات:
المقام الأول: الميزان الصحيح
لا ريب عند المؤمنين أن الحق الذي لا يشوبه باطل: الكتاب, والسنة, وإجماع الأمة، وبإزاء ذلك الإلهامات, والمنامات, والإسرائيليات, والحكايات ونحو ذلك، ففيها الحق والباطل، ويعرف ذلك بعد عرضها على الوحي (الكتاب والسنة), فما زكاه منها قبل، وإلا رد على صاحبه مهما كان القائل به. . . .
فالمؤمن هو الذي يستغني بالرسالة، ويكتفي بالنبي صلى الله عليه وسلم فيتبعه اتباعاً عاماً مطلقاً غير مشروط، وأما غيره فيتبع بشرط موافقته للشرع؛ ولهذا وجب عند التنازع والاختلاف: الرد إلى الله ورسوله (الكتاب والسنة)، وكذلك يجب رد الأحوال, والأذواق, والمكاشفات ونحوها إلى الكتاب والسنة، ووزنها بميزان الشرع، فمن لمن يبن على هذا الأصل العظيم، عمله, وعلمه, وسلوكه, وجميع أمره، فليس من الدين في شيء . ، فالله تعالى يقول: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 65] وقال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران: 31] ويقول:فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59].
وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله أن منشأ ضلال من ضل من المتصوفة جعلهم الذوق, والوجد, والحال, ونحو ذلك حاكماً يتحاكمون إليه فيما يسوغ ويمتنع، وفيما هو صحيح وفاسد، فجعلوه محكاً للحق والباطل، حتى نبذوا لذلك موجب العلم والنصوص، فعظم وتفاقم الفساد والشر، وطمست معالم الإيمان والسلوك المستقيم، وانعكس السير؛ فكان إلى الله، فصيروه إلى النفوس؛ فالمحجوبون عن أذواقهم ومواجيدهم يعبدون الله، وهؤلاء المدعون الكشف والذوق يعبدون أنفسهم... . .
فالشريعة حاكم، لا محكوم عليها، ولو كان ما يقع من الخوارق والمكاشفات والأحوال ونحوها حاكماً عليها بتخصيص عام، أو تقييد مطلق، أو تأويل ظاهر، أو نحو ذلك، لكان غيرها حاكماً عليها، وصارت هي محكوماً عليها بغيرها، وذلك باطل باتفاق . .
بل اتفق أولياء الله تعالى على أن الرجل لو طار في الهواء, أو مشى على الماء لا نغتر به حتى ننظر متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وموافقته لأمره ونهيه . .
وقال أبو حفص الحداد: (من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة، ولم يتهم خواطره فلا تعدوه في ديوان الرجال) . .
والمقصود هنا بيان أن الشرع هو الحاكم والميزان والمزكي، وأن كل الأقوال, والاعتقادات, والأحوال مردودة مرفوضة إلا ما قبله الشرع منها وزكاه، ومن عكس انعكس قلبه وانتكس إيمانه...
المقام الثاني: المتابعة الصحيحة للشريعة تقتضي إلهامات وأحوالاً صادقة:
إن المؤمن إذا صحت معرفته بالله, ورسوله, ودينه، وصدقت متابعته للشرع ظاهراً وباطناً، يفتح الله عليه بما لا يفتح على غيره، من إلهامات صحيحة، وفراسات صائبة، وأحوال صادقة:
قال تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [النساء: 66] وقال تعالى: وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 282] . .
وجاء في صفة الدجال: (مكتوب بين عينيه: كافر، يقرؤه كل مؤمن؛ كاتب وغير كاتب) . قال ابن تيمية رحمه الله: (فدل على أن المؤمن يتبين له ما لا يتبين لغيره، ولا سيما في الفتن، وينكشف له حال الكذاب الوضاع على الله ورسوله. . وكلما قوي الإيمان في القلب قوي انكشاف الأمور له، وعرف حقائقها من بواطلها، وكلما ضعف الإيمان ضعف الكشف...) . .
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (اقتربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون, فإنه تتجلى لهم أمور صادقة) . .
وقال أبو عثمان النيسابوري: (من أمر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة؛ لأن الله تعالى يقول في كلامه القديم: وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النــور: 54]) . .
وقال شاه الكرماني: (من غض بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشبهات، وعمر باطنه بدوام المراقبة، وظاهره باتباع السنة، وعود نفسه أكل الحلال لم تخطئ له فراسة) . .
المقام الثالث: خرق العادة لا يدل على الولاية
قد يظهر شيء – مما يظن أنه كرامة – على يد أهل الرياضة، وترك الاستكثار من الطعام والشراب، والملازمين للسهر والخلوات، وذلك على ترتيب معلوم، وقانون معروف لديهم.. فيحصل للواحد منهم نوع صفاء من الكدورات البشرية، حتى يدرك ما لا يدركه غيره، فيخبر بموت فلان الغائب، أو بقدومه في وقت كذا، ونحو ذلك، وليس في هذا ما يدل على أنه كرامة، أو أنه ولي الله، بل يتفق ذلك لكثير من المرتاضين، من كفرة الهند وغيرهم . .
بل قد يحصل على لسان بعض المجانين شيء من ذلك، فيأتي في بعض الأحيان بمكاشفات صحيحة، وهو مع ذلك متلوث بالنجاسات، مخالط للقاذورات، فيغتر به من جهل حاله، فينسبه إلى أولياء الله المقربين، وهو في الحقيقة معذور قد رفع عنه قلم التكليف، فليس هو ولياً لله ولا عدواً له . .
وقال ابن سينا: (إذا بلغك أن عارفاً أطاق بقوته فعلاً, أو تحريكاً, أو حركة تخرج عن وسع مثله؛ فلا تتلقه بكل ذلك الاستنكار، فلقد تجد إلى سببه سبيلاً في اعتبارك مذاهب الطبيعة) . .
وقال – أيضاً – (إذا بلغك أن عارفاً حدث عن غيب فأصاب متقدماً ببشرى أو نذير، فصدق، ولا يتعسرن عليك الإيمان به، فإن لذلك في مذاهب الطبيعة أسباباً معلومة) . .
فهذا مما يؤكد أن تلك الخوارق قد ينالها الكافر بأسباب طبيعية، لا تدل على ولاية ولا كرامة. وقد قسم أهل العلم الفراسة إلى ثلاثة أقسام . ، وذكروا منها الفراسة الرياضية، وأنها تحصل بالجوع, والسهر, والتخلي، وأنها مشتركة بين المؤمن والكافر، لا تدل على ولاية، ولا تكشف عن حق نافع، ولا عن طريق مستقيم.
فإذا كانت هذه الخوارق تقع من المسلم ومن الكافر، وتتعدد أسبابها، وتختلف مصادرها: فقد تكون من الله، أو من نفس الإنسان، أو من الشيطان، لم يكن في وقوعها من شخص ما دليل على ولايته وصلاحه، كما أنه لا يضر المسلم عدمها، فمن لم تنكشف له شيء من المغيبات، أو لم تسخر له شيء من الكونيات لا ينقص ذلك في مرتبته عند الله، بل قد يكون عدم ذلك أنفع له في دنياه وآخرته . .
لكن الدين إذا صح علماً وعملاً فإنه يوجب خرق العادة – كما مر – إذا احتاج إلى ذلك صاحبه، كما قال تعالى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس: 62-63] فلم يذكر لهم شيئاً أحسن من الوصف بالإيمان والتقوى.
قال أبو علي الجوزجاني: (كن طالباً للاستقامة لا طالباً للكرامة، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطلب منك الاستقامة) . .
وقال أبو العباس بن عطاء: (من ألزم نفسه آداب الله نور الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب -عليه الصلاة والسلام- في أوامره، وأفعاله، وأخلاقه) . .
ويقول الشعراني: (أكمل الإلهام أن يلهم الرجل أتباع الشرع، والنظر في الكتب الإلهية، ويقف عند حدودها وأوامرها...) . .
ثم إن الخارق – المكاشفة – قد يقع للمؤمن لنقصان درجته وضعف يقينه، أما من كوشف بصدق اليقين – يقين المعرفة الشرعية – ورفع عن قلبه حجاب الشبهة والشهوة، أغناه ذلك عن معاينة الخوارق، بل الحكمة لا تقتضي حصولها لمن هذا حاله، إنما تحصل للأول لحاجته إليها . .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة، فهي كل الكرامة، ثم إذا وقع في طريقه شيء خارق كان كأن لم يقع، فما يبالي، ولا ينقص بذلك، وإنما ينقص بالإخلال بواجب حق الاستقامة) . .
وقال تليمذه ابن القيم رحمه الله: (الكشف الصحيح أن يعرف الحق الذي بعث الله به رسله, وأنزل به كتبه، معاينة لقلبه، ويجرد إرادة القلب له، فيدور معه وجوداً وعدماً، هذا هو التحقيق الصحيح، وما خالفه فغرور قبيح) . .
المقام الخامس: مرتبة الوحي أعظم وأشرف من مرتبة الكشف والإلهام ونحوهما:
عدد ابن القيم رحمه الله مراتب الهداية، وأوصلها إلى عشر مراتب، ذكر في مقدمتها: التكليم، والوحي، وإرسال الملك، وجعل هذه الثلاث خاصة بالأنبياء لا يشركهم فيها أحد من الأولياء. ثم ذكر في المرتبة الرابعة: مرتبة التحديث، وفي المرتبة التاسعة: الإلهام، والرؤية في المرتبة العاشرة... . .
فهذا يبين أن مرتبة الوحي وعلم الشريعة – التي مصدرها الوحي – أفضل وأشرف من مرتبة التحديث والإلهام وغيرها من مصادر العلم، ويتضح ذلك بوجوه . :
الأول: أن علم الشريعة خبراً وطلباً لا ينال إلا من جهة الوحي الذي طريقه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما العلم بالمكاشفات ونحوها فأسبابه كثيرة، ومعلوم أن ما اختص به الرسول وورثته أفضل مما يشركهم فيه بقية الناس.
الثاني: أن الشريعة لا يعمل بها إلا المؤمنون الصالحون الذين هم أهل الجنة وأحباب الله وصفوته وأولياؤه، ولا يأمر بها إلا هم، وأما المكاشفات ونحوها فقد تقع من كافر, ومنافق, وفاجر، فما كان من العلم مختصاً بالصالحين فهو أفضل مما يشترك فيه المصلحون والمفسدون.
الثالث: العلم بالشريعة والعمل به ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة، ويدفع عنه مضرة الدنيا والآخرة من غير حاجة معه إلى الكشف ونحوه، وأما العلم بالكشف وغيره إن لم يقترن به الدين وإلا هلك صاحبه في الدنيا والآخرة؛ أما في الآخرة فلعدم الدين؛ وأما في الدنيا فلأن الإنسان يعرض نفسه، ودينه، وجسمه، وقلبه، وعقله، وأهله وماله لمخاطرات، لا يضمن حسن العاقبة معها، فكم منهم من ذهب عقله وماله، وأشقى نفسه من غير حصول مطلوبه.
الرابع: إن الدين إذا صح علماً وعملاً فلابد أن يوجب خرق العادة إذا احتاج إلى ذلك صاحبه، كما قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطَّلاق:2-3] وليس العكس، أعني أن خرق العادة لا يدل على صحة الدين علماً وعملاً.
الخامس: أن المقصود من الوحي والشرع مراعاة حق العبودية وإقامتها, وقد أمر بذلك الشارع، ومقصود المتصوفة من الكشف ونحوه مشاهدة الربوبية، ولم يأمر بها الشارع، ومن المعلوم أن مراعاة ما أمر به الشارع أولى من مراعاة ما لم يأمر به..
الدرر السنية
ساحة النقاش