الإيمان بالمتشابه والعمل بالمحكم
وصف الله تعالى القرآن بأنه كله محكم، وأنه كله متشابه، و في موضع ثالث جعل منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه. و على هذا فينبغي أن يعرف الإحكام والتشابه الذي يعمه، والإحكام والتشابه الذي يخص بعضه
المطلب الأول: ذكر إجماع الصحابة, والتابعين, وأهل السنة, وأصحاب الحديث, والفقهاء على نبذ التأويل
أولا: إجماع الصحابة والتابعين:
- ذكر ما قاله محمد بن إسحاق بن خزيمة رحمه الله:
قال: (إن الأخبار في صفات الله موافقة لكتاب الله تعالى، نقلها الخلف عن السلف: قرناً بعد قرن، من لدن الصحابة والتابعين إلى عصرنا هذا، على سبيل الصفات لله تعالى، والمعرفة والإيمان به، والتسليم لما أخبر الله تعالى في تنزيله، ونبيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن كتابه، مع اجتناب التأويل، والجحود، وترك التمثيل والتكييف) . .
- ذكر ما قاله القاضي أبو يعلى رحمه الله:
قال: (ويدل على إبطال التأويل: أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين حملوها على ظاهرها، ولم يتعرضوا لتأويلها، ولا صرفوها عن ظاهرها، فلو كان التأويل سائغاً لكانوا أسبق، لما فيه من إزالة التشبيه، ودفع الشبهة، بل قد روي عنهم ما دل على إبطاله...)...
- ذكر ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
قال: (إن جميع ما في القرآن من آيات الصفات، فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها؛ وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة، وما رووه من الحديث، ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير، فلم أجد -إلى ساعتي هذه- عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئاً من آيات الصفات, أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاه المفهوم المعروف، بل عنهم من تقرير ذلك وتثبيته، وبيان أن ذلك من صفات الله ما يخالف كلام المتأولين ما لا يحصيه إلا الله...) . .
- ذكر ما قاله الأوزاعي إمام الشام رحمه الله:
قال: (كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت السنة به من صفاته جل وعلا) . .
ثانيا: إجماع أهل السنة وأصحاب الحديث:
- ذكر ما قاله أبو عيسى الترمذي رحمه الله:
وذلك عقب روايته لحديث في فضل الصدقة، فيه ذكر صفة اليمين للرحمن جل ذكره، قال أبو عيسى: (وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات من الصفات، ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا. قالوا: قد ثبتت الروايات في هذا، ويؤمن بها، ولا يتوهم، ولا يقال كيف؟ هكذا روي عن مالك بن أنس, وسفيان بن عيينة, وعبد الله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أمروها بلا كيف، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة...) . .
- ذكر ما قاله أبو عمر يوسف بن عبد البر رحمه الله:
قال: (أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة.
وأما أهل البدع, والجهمية, والمعتزلة كلها، والخوارج: فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أئمة الجماعة) . .
- ذكر ما قاله أبو عثمان الصابوني رحمه الله:
قال: (إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة... يعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد له بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت به الأخبار الصحاح، ونقلته العدول الثقات عنه، ويثبتون له (جل جلاله) منها ما أثبته لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم... ولا يحرفون الكلم عن مواضعه... تحريف المعتزلة والجهمية... وقد أعاذ الله أهل السنة من التحريف, والتكييف, والتشبيه...) . .
- ذكر ما قاله محيي السنة البغوي (رحمه الله):
وذلك عند تفسيره لقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ [الأعراف: 54] قال رحمه الله: (أولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء, فأما أهل السنة يقولون: الاستواء على العرش صفة لله تعالى بلا كيف، يجب على الرجل الإيمان به، ويكل العلم فيه إلى الله عز وجل) . .
ثالثا: إجماع الفقهاء وأئمة العلم:
- ذكر ما قاله محمد بن الحسن – صاحب أبي حنيفة – رحمهما الله تعالى قال: (اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل من غير تفسير, ولا وصف, ولا تشبيه، فمن فسر شيئاً من ذلك خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة، لأنه وصفه بصفة لا شيء) . .
- ذكر ما قاله محمد بن إسحاق بن خزيمة رحمه الله:
قال: (فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز, وتهامة, واليمن, والعراق, والشام, ومصر مذهبنا: أنا نثبت لله ما أثبته لنفسه؛ نقر بذلك بألسنتنا، ونصدق بذلك بقلوبنا من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين، وعز ربنا عن أن نشبهه بالمخلوقين، وجل ربنا عن مقالة المعطلين، وعز أن يكون عدماً كما قاله المبطلون؛ لأنه ما لا صفة له، تعالى الله عما يقول الجهميون الذين ينكرون صفات خالقنا، الذي وصف الله بها نفسه في محكم تنزيله، وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم) . ....
- ذكر ما قاله أبو عمر بن عبد البر رحمه الله:
قال: (روينا عن مالك بن أنس، والأوزاعي، وسفيان بن سعيد، وسفيان ابن عيينة، ومعمر بن راشد، في الأحاديث في الصفات أنهم كلهم قال: أمروها كما جاءت) . .
- ذكر ما قاله أبو عبد الله محمد بن الخضر الجد الأعلى لابن تيمية رحمهما الله:
قال: (أما الإتيان المنسوب إلى الله فلا يختلف قول أئمة السلف: كمكحول، والزهري، والأوزاعي، وابن المبارك، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد، وأتباعهم أنه يمر كما جاء، وكذلك ما شاكل ذلك مما جاء في القرآن، أو وردت به السنة؛ كأحاديث النزول ونحوها، وهي طريقة السلامة، ومنهج أهل السنة والجماعة، يؤمنون بظاهرها ويكلون علمها إلى الله تعالى, ويعتقدون أن الله منزه عن سمات الحدث، على ذلك مضت الأئمة خلفاً بعد سلف) . .
- ذكر ما قاله ابن قدامة رحمه الله:
قال: (ولا خلاف بين أهل النقل سنيهم وبدعيهم في أن مذهب السلف رضي الله عنهم في صفات الله سبحانه وتعالى الإقرار بها، والإمرار لها، والتسليم لقائلها، وترك التعرض لتفسيرها، بذلك جاءت الأخبار عنهم مجملة ومفصلة) . ثم ذكر طرفاً من ذلك.
وقال في موضع آخر: (ومذهب السلف رحمة الله عليهم: الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه التي وصف بها نفسه في آياته وتنزيله، أو على لسان رسوله من غير زيادة عليها، ولا نقص منها، ولا تجاوز لها، ولا تفسير لها، ولا تأويل لها بما يخالف ظاهرها...) . .
- ذكر ما قاله ابن كثير رحمه الله:
وذلك عند تفسيره لقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ [الأعراف: 54].
قال رحمه الله: (فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جداً، ليس هذا موضع بسطها، وإنما يسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح: مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم من أئمة المسلمين قديماً وحديثاً، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف, ولا تشبيه, ولا تعطيل...)
المطلب الثاني: أقوال بعض العلماء في التأويل
- قال الأوزاعي رحمه الله: (كان الزهري ومكحول يقولان: أمروا هذه الأحاديث كما جاءت) . .
وقراءتها: تفسيرها، كما قال سفيان بن عيينة: (كل ما وصف الله به نفسه في القرآن، فقراءته تفسيره، لا كيف، ولا مثل) . .
- وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: (فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه، واليد، والنفس، فهو له صفات بلا كيف، ولا يقال إن يده قدرته أو نعمته، لأن فيه إبطال الصفة، وهو قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفة بلا كيف، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته (تعالى) بلا كيف) . .
- وقال محمد بن الحسن رحمه الله في أحاديث الصفات كالنزول ونحوه: (إن هذه الأحاديث قد روتها الثقات، فنحن نرويها، ونؤمن بها، ولا نفسرها) . .
- وقال الوليد بن مسلم: (سألت مالك بن أنس، وسفيان الثوري، والليث ابن سعد، والأوزاعي عن الأخبار التي في الصفات، فقالوا: أمروها كما جاءت) . .
- وقال أبو محمد الجويني – والد إمام الحرمين رحمهما الله: (وأثبتنا علو ربنا سبحانه، وفوقيته، واستواءه على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته، والحق واضح في ذلك، والصدور تنشرح له، فإن التحريف تأباه العقول الصحيحة، مثل تحريف الاستواء بالاستيلاء وغيره...) . .
- وقال القاضي أبو يعلى رحمه الله: (لا يجوز رد هذه الأخبار – على ما ذهب إليه جماعة من المعتزلة – ولا التشاغل بتأويلها – على ما ذهب إليه الأشعرية – والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله تعالى، لا تشبه سائر الموصوفين بها من الخلق، ولا نعتقد التشبيه فيها، لكن على ما روي عن شيخنا وإمامنا أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، وغيره من أئمة أصحاب الحديث) . .
- وقال أبو بكر الخطيب البغدادي رحمه الله: (أما الكلام في الصفات، فإن ما روي عنها في السنن الصحاح، مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها... ولا نقول: معنى اليد: القدرة، ولا إن معنى السمع والبصر: العلم، ولا أن نقول إنها جوارح... ونقول: إنما وجب إثباتها لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 4]..
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح الواسطية: وأهل السنة والجماعة إيمانهم بما وصف الله به نفسه خال من التحريف، يعني: تغيير اللفظ أو المعنى.
وتغيير المعنى يسميه القائلون به تأويلاً, ويسمون أنفسهم بأهل التأويل، لأجل أن يصبغوا هذا الكلام صبغة القبول، لأن التأويل لا تنفر منه النفوس ولا تكرهه، لكن ما ذهبوا إليه في الحقيقة تحريف، لأنه ليس عليه دليل صحيح، إلا أنهم لا يستطيعون أن يقولوا: تحريفاً! ولو قالوا: هذا تحريف، لأعلنوا على أنفسهم برفض كلامهم.
ولهذا عبر المؤلف - يعني ابن تيمية - رحمه الله بالتحريف دون التأويل مع أن كثيراً ممن يتكلمون في هذا الباب يعبرون بنفي التأويل، يقولون: من غير تأويل، لكن ما عبر به المؤلف أولى لوجوه أربعة:
الوجه الأول: أنه اللفظ الذي جاء به القرآن، فإن الله تعالى قال: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ [النساء: 46]، والتعبير الذي عبر به القرآن أولى من غيره، لأنه أدل على المعنى.
الوجه الثاني: أنه أدل على الحال، وأقرب إلى العدل، فالمؤول بغير دليل ليس من العدل أن تسميه مؤولاً، بل العدل أن نصفه بما يستحق وهو أن يكون محرفاً.
الوجه الثالث: أن التأويل بغير دليل باطل، يجب البعد عنه والتنفير منه، واستعمال التحريف فيه أبلغ تنفيراً من التأويل، لأن التحريف لا يقبله أحد، لكن التأويل لين، تقبله النفس، وتستفصل عن معناه، أما التحريف، بمجرد ما نقول: هذا تحريف. ينفر الإنسان منه، إذا كان كذلك، فإن استعمال التحريف فيمن خالفوا طريق السلف أليق من استعمال التأويل.
الوجه الرابع: أن التأويل ليس مذموماً كله، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ))اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل)) .، وقال الله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران: 7]، فامتدحهم بأنهم يعلمون التأويل.
والتأويل ليس كله مذموماً، لأن التأويل له معان متعددة، يكون بمعنى التفسير, ويكون بمعنى العاقبة والمآل، ويكون بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره.
(أ) يكون بمعنى التفسير، كثير من المفسرين عندما يفسرون الآية، يقولون: تأويل قوله تعالى كذا وكذا. ثم يذكرون المعنى. وسمي التفسير تأويلاً، لأننا أوّلنا الكلام، أي: جعلناه يؤول إلى معناه المراد به.
(ب) تأويل بمعنى: عاقبة الشيء، وهذا إن ورد في طلب، فتأويله فعله إن كان أمراً وتركه إن كان نهياً، وإن ورد في خبر، فتأويله وقوعه.
مثاله في الخبر قوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف: 53]، فالمعنى: ما ينتظر هؤلاء إلا عاقبة ومآل ما أخبروا به، يوم يأتي ذلك المخبر به، يقول الذين نسوه من قبل: قد جاءت رسل ربنا بالحق.
ومنه قول يوسف لما خرَّ له أبواه وإخوته سجداً قال: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ [يوسف: 100]: هذا وقوع رؤياي، لأنه قال ذلك بعد أن سجدوا له.
ومثاله في الطلب قول عائشة رضي الله عنها: ))كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده بعد أن أنزل عليه قوله تعالى: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر: 1]، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن)) . . أي: يعمل به.
(جـ) المعنى الثالث للتأويل: صرف اللفظ عن ظاهره, وهذا النوع ينقسم إلى محمود ومذموم، فإن دل عليه دليل، فهو محمود النوع ويكون من القسم الأول، وهو التفسير، وإن لم يدل عليه دليل، فهو مذموم، ويكون من باب التحريف، وليس من باب التأويل.
وهذا الثاني هو الذي درج عليه أهل التحريف في صفات الله عز وجل.
مثاله قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]: ظاهر اللفظ أن الله تعالى استوى على العرش: استقر عليه، وعلا عليه، فإذا قال قائل: معنى (اسْتَوَى): استولى على العرش، فنقول: هذا تأويل عندك لأنك صرفت اللفظ عن ظاهره، لكن هذا تحريف في الحقيقة، لأنه ما دل عليه دليل، بل الدليل على خلافه، كما سيأتي إن شاء الله.
فأما قوله تعالى: أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: 1]، فمعنى: أَتَى أَمْرُ اللّهِ، أي: سيأتي أمر الله، فهذا مخالف لظاهر اللفظ لكن عليه دليل وهو قوله: فَلا تَسْتَعْجِلُوه.
وكذلك قوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل: 98]، أي: إذا أردت أن تقرأ، وليس المعنى: إذا أكملت القراءة، قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لأننا علمنا من السنة أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا أرد أن يقرأ، استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، لا إذا أكمل القراءة، فالتأويل صحيح.
وكذلك قول أنس بن مالك: ))كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء، قال: أعوذ بالله من الخبث والخبائث)) .، فمعنى (إذا دخل): إذا أراد أن يدخل، لأن ذكر الله لا يليق داخل هذا المكان، فلهذا حملنا قوله: (إذا دخل) على إذا أراد أن يدخل: هذا التأويل الذي دل عليه صحيح، ولا يعدو أن يكون تفسيراً.
ولذلك قلنا: إن التعبير بالتحريف عن التأويل الذي ليس عليه دليل صحيح أولى، لأنه الذي جاء به القرآن، ولأنه ألصق بطريق المحرف، ولأنه أشد تنفيراً عن هذه الطريقة المخالفة لطريق السلف، ولأن التحريف كله مذموم، بخلاف التأويل، فإن منه ما يكون مذموماً ومحموداً، فيكون التعبير بالتحريف أولى من التعبير بالتأويل من أربعة أوجه. .
(ينظر الفصل الخامس، من الباب الثالث، في الكتاب الثاني من الموسوعة)
ly:�.2e ����","serif";mso-fareast-font-family:"Times New Roman"; mso-bidi-font-family:"Simplified Arabic";color:black'> . .
أما النوع الثاني – من نوعي الشريعة – فهو الأمر، والنهي منه؛ لأنه أمر بالترك. ويدخل في ذلك العبادات: أصولها وفروعها، وجميع المعاملات، وكذا فضائل الأخلاق.
والأمر وإن كان النسخ يدخله في الجملة، لكن تستثنى منه كليات الشريعة، من الضروريات والحاجيات والتحسينات، فالشريعة مبنية على حفظ هذه الكليات . ، فأصول العبادات: كالصلاة والصوم، والزكاة، والحج، وما يحفظ الضروريات الخمس، وما يحقق العدل والإحسان، وما يجلب الفضيلة، ويدفع الرذيلة، كل ذلك لا يقع فيه النسخ، وإنما يقع في تفاصيل هذه المسائل، وهو ما يتعلق بالهيئات، والكيفيات، والأمكنة، والأزمنة، والأعداد، وهو جزء يسير إذا ما قورن بكليات الشريعة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (كتاب الله نوعان: خبر وأمر، أما الخبر فلا يجوز أن يتناقض، ولكن قد يفسر أحد الخبرين الآخر، ويبين معناه، وأما الأمر فيدخله النسخ، ولا ينسخ ما أنزل الله إلا بما أنزله الله، فمن أراد أن ينسخ شرع الله الذي أنزله برأيه وهواه كان ملحدا، وكذلك من دفع خبر الله برأيه ونظره كان ملحدا) . ..
المبحث الثاني عشر: رد التنازع إلى الكتاب والسنة
إن كل ما تنازعت واختلفت فيه الأمة من أصول الدين وفروعه، يجب رده إلى الكتاب والسنة؛ طلبا لرفع التنازع، ودفع الاختلاف ومعرفة الحق والصواب.
لقد وقع الاختلاف والتنازع في الدين بين هذه الأمة، - أسوة بالأمم قبلها من اليهود والنصارى - في أصول الدين وفروعه، وذلك على ما أخبر به الوحي كما في قوله تعالى: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 118-119]وقوله تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105] وقوله صلى الله عليه وسلم: ))تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)) . ، وفي رواية: ))كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي)) . .
والاختلاف المذكور في القرآن الكريم قسمان: من جهة مدحه أو ذمه، ومن جهة ذاته . :
أولا: من جهة مدحه أو ذمه، وهو نوعان:
الأول: أنه تعالى يذم الطائفتين المختلفتين جميعا، كما في قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة: 176] وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [الأنعام: 159] الثاني: اختلاف حمد الله تعالى فيه إحدى الطائفتين، وذم الأخرى كما في قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة: 253] فقوله: وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ حمد لإحدى الطائفتين، وهم المؤمنون، وذم للأخرى.
والاختلاف الذي تذم فيه جميع الطوائف المتنازعة، يكون سببه:
تارة، فساد النية؛ بسبب البغي والحسد؛ وإرادة العلو في الأرض بالفساد، ونحوه، كما قال تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [البقرة: 213].
وتارة يكون بسبب جهل المختلفين بحقيقة الأمر الذي يتنازعون فيه أو الجهل بدليله، أو دلالته.
ثانيا: من جهة ذاته: وهو – أيضا – نوعان . :
الأول: اختلاف تنوع: وهو على وجوه:
أ- أن يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقا مشروعا، كالاختلاف في القراءات التي اختلف فيها الصحابة، فزجرهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف وقال: ))كلاكما محسن)) . .
ومن ذلك – أيضا – الاختلاف في صفة الأذان والإقامة، والتشهدات وصلاة الخوف، إلى غير ذلك مما شرع جميعه، وقد يقال: إن بعض أنواعه أفضل من بعض.
ب – أن يتفق القولان في المعنى والحكم، ويختلفان في اللفظ والعبارة، كالاختلاف في الحدود (التعريفات)، والتعبير عن المسميات، وتقسيم الأحكام، وغير ذلك.
ج – أن يكون المعنيان مختلفين، لكنهما لا يتنافيان، فهذا قول صحيح وهذا قول صحيح، كاختلاف الصحابة في صلاة العصر أثناء سيرهم إلى بني قريظة . .
د – ما يكون طريقتين مشروعتين، ورجل أو قوم قد سلكوا هذه الطريق، وآخرون قد سلكوا الأخرى، كلاهما محسن في الدين، ثم الجهل أو الظلم يحمل على ذم إحداهما، أو تفضيلها بلا قصد صالح، أو بلا نية، وبلا علم.
وهذا النوع من أنواع الاختلاف، يكون فيه كل واحد من المختلفين مصيبا، لكن الذم إنما يقع على من بغى على صاحبه، وظلمه.
الثاني: اختلاف تضاد:
وهو القولان المتنافيان، فالخطب فيه أشد؛ لتنافي القولين، وقد يكون مع أحد المتنازعين بعض الحق، أو دليل يقتضي حقا، فرد ذلك من الباطل؛ كالاختلاف بين المشبهة والمعطلة في الصفات، فمع المشبهة بعض الحق وهو أصل الإثبات، ومع المعطلة بعض الحق وهو أصل التنزيه والصواب والنجاة في ضم الحقين، والجمع بينهما.
وهذا النوعان (التنوع والتضاد) إنما يكون المخرج منهما بالرد إلى الله ورسوله، فيظهر ما خفي من الدليل أو الدلالة، فيرتفع التنازع، ويندفع البغي، ويتبين وجه الحق والصواب، ثم يطالب المبطل بالإذعان والانقياد.
فإن الرجل إذا تكلم بكلام؛ إما أن يكون كلامه ظاهر الصواب، موافقا للأدلة؛ فيقبل كلامه، أو أن يكون ظاهر البطلان مخالفا للأدلة؛ فيرد كلامه، أو أن يكون في كلامه إجمال؛ فيطالب بالتفسير والبيان، فيقبل ما وافق الحق، ويرد ما سواه، وكل هذا يتبين بالرد إلى الله ورسوله. قال شارح الطحاوية: (والأمور التي تتنازع فيها الأمة في الأصول والفروع، إذا لم ترد إلى الله والرسول لم يتبين فيها الحق، بل يصير فيها المتنازعون على غير بينة من أمرهم... )..
المبحث الثالث عشر: ظواهر النصوص مفهومة لدى المخاطبين
كلام الله وكلام رسوله عربي مبين، وظاهره غاية في البيان، وهو مفهوم لدى المخاطبين من أهل اللسان العربي، ولاسيما ما يتعلق من ذلك بأصول الدين والإيمان، والتي كثر فيها خوض المتأخرين واختلافهم....،
ومن المعلوم أن القرآن عربي، وأنزل على رسول عربي، وخوطبت به - أول الأمر- أمة عربية، وأن القرآن مقصود به الهداية والإرشاد، فلزم أن يكون بينا للأمة المخاطبة به، ولا يكون كذلك حتى تفهمه وتعقله، ولا يتم ذلك حتى يكون جاريا على معهودها في الخطاب، وعادتها في الكلام، وهكذا كان القرآن الكريم.
وقد كانت سنة الله في خلقه أن يرسل كل رسول بلسان قومه حتى يحصل المقصود من الرسالة، فيكون الرسول مبينا في كلامه وبلاغه، ويكون المخاطب قادرا على الفهم، متمكنا من الإدراك، وبهذا تقوم الحجة وتنقطع المعذرة: بالبيان من الرسول والفهم من المرسل إليه، ولهذا قال موسى- في تعليل سؤاله الله أن يرسل معه أخاه هارون وزيرا -: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ [القصص: 34]. فلو أن الله تعالى خاطب أمة بغير لسانها، لما فهمت خطابه لها، ومن ثم لم تقم الحجة عليها بذلك الخطاب، وقد قال تعالى: مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15] قال أبو جعفر الطبري رحمه الله تعالى: (... كان معلوما أنه غير جائز أن يخاطب الله جل ذكره أحدا من خلقه إلا بما يفهمه المخاطب، ولا يرسل إلى أحد منهم رسولا برسالة إلا بلسان وبيان يفهمه المرسل إليه، لأن المخاطب المرسل إليه إن لم يفهم ما خوطب به وأنزل إليه، فحاله قبل الخطاب وقبل مجيء الرسالة وبعده سواء، إذا لم يفده الخطاب والرسالة شيئا كان به قبل ذلك جاهلا) . .
فمعاني كتاب الله تعالى موافقة لمعاني كلام العرب، كما أن ألفاظه موافقة لألفاظها، ولهذا كان لا يمكن لأحد أن يفهم كلام الله ورسوله إلا من هذه الجهة، جهة كونه عربيا: في ألفاظه وتراكيب تلك الألفاظ، عربيا في أساليبه ومعانيه، قال الشاطبي رحمه الله: (فعلى الناظر في الشريعة والمتكلم فيها: أصولا وفروعا، أمران: أحدهما: أن لا يتكلم في شيء من ذلك حتى يكون عربيا، أو كالعربي في كونه عارفا بلسان العرب، بالغا فيه مبالغ العرب، أو مبالغ الأئمة المتقدمين كالخليل وسيبويه والكسائي والفراء ومن أشبههم وداناهم، وليس المراد أن يكون حافظا كحفظهم، وجامعا كجمعهم، وإنما المراد أن يصير فهمه عربيا في الجملة...) . .
فلابد في فهم معاني نصوص الكتاب والسنة من مراعاة معهود العرب في خطابها، فلا يصح العدول عن عرفها في كلامها، كما لا يصح أن يفهم كلام الله ورسوله على نحو لا تعرفه العرب من لغتها وأسلوبها . .
وقد ذكر الإمام الشافعي رحمه الله تعالى . بعض معهود العرب في خطابها، وأنها تخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا تريد به العام الظاهر، ومثاله من القرآن الكريم: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى [الحجرات: 13]فهذا يعم جميع الناس . .
وتخاطب بالشيء عاما ظاهرا تريد به العام ويدخله الخصوص، ومثاله من القرآن الكريم: قوله تعالى: وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا [النساء: 75] فكل أهل القرية لم يكن ظالما، وإنما كان فيهم المسلم، لكنهم كانوا مغلوبين على أمرهم . .
وتخاطب بالشيء عاما ظاهرا تريد به الخاص، مثاله: قوله تعالى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6] ودل القرآن على أن وقودها إنما هو بعض الناس، لا كلهم، كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء: 101] . .
وتخاطب بالشيء ظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره، مثاله: قوله تعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [يوسف: 82] والمراد: أهل القرية، وأهل العير .
الدرر السنية
ساحة النقاش