جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
<!--<!--<!--
عزيزى القارىء حكاية المعزة المباركة التي دارت وقائعـها سنة 1793هـ ، وأكيد أنك - - سمعت عن المشهد النفيسي في القاهرة ، الذي دفنت به السيدة المباركة نفيسة بنت ابن زيد بن الحسين بن علي ، من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً .
والحكاية يا سيدي الفاضل أنه قد حصل في العام المذكور أن أظهر خُدّام المشهد النفيسي عنزاً صغيرة مُدرّة ، زعمـوا لها من البركات والكرامات ما لم تنله معزةٌ في تاريخ المعـيز ، وأصل هذه العـز من بلاد الصالحين ، فقد أبلغت "العصفورة" بعض الأسرى من الفرنجـة الذين يبحثون عن الخـلاص ، عن بركات السيدة نفيسة فاجتمعوا ليقيموا حلقة ذكر ، ويتوسلوا بالنفيسة لتفك أسرهم ، وكانت معهم معزة أرادوا ذبحها ليتعشوا بها ، فقام آسرهم - وهو كافر أيضاً - فنهرهم وسبّهم ، وسفّههم ، ومنعهم من ذبح المعزة ، وفيما هو نائم رأى كوابيس وبلاوي زرقاء، اعتقد جزماً أنها بسبب السيدة نفيسة والمعزة، فاعتذر للأسرى الإفرنج ، وفـك أسرهم ، واسترضاهم ، وأعطاهم أموالاً ، فما كان منهم إلا أن استأجروا مركباً ، وعلى بركة الله أبحروا إلى صر المحروسة ليقيموا قريباً من المشهد النفيسي ، حيث ستظهر بركات المعزة العجيبة ! وبدأت الاختراعات والتآليف :
- لقد رأيت المعزة جالسة فوق منارة السيدة النفيسة !
- لقد عاينتها تصلي عند المقام ، والنور يشع من جبهتها ومنبت قرنيها .
- لقد نادتني بالاسم وقالت : يا حسن يا بن فاطنة انت هتحج السنادي !
- وايم الحق لقد سمعت الست النفيسة - من داخل المقام - توصيني بالعنزة خيراً ، وتقول : يا عبد اللطيف : استوص بها فإنها من معيز الجنة !!
وعينك ما تشوف إلا كـل خير ، بدأ الخـلق منك حدب ينسلون ، يدفعـهم الشوق ، وتحدوهم اللهفة ، للتبرك بالشيخة معزة ، يحملون النذور ، والهدايـا ، والعلف " السوبر " الذي يتمناه الأمراء لا المعيز .
" وهاص " الشيخ عبداللطيف ، وجرى الدم في وجهه ، بعد أن أعـلم المريدين والأحباب أن الست المعزة المباركة لا تأكل - بحكم كونها خوجاية - إلا قلب اللوز والفستق ، ولا تشرب إلا المـاء المشعشع بماء الورد المزيج بالسكر، ولا تنام إلا على الحرير والذهب .
وتزداد الطلبات ، ويزداد تعلق الناس بالشيخة المعزة ، وتنافست نساء الأمراء في التقرب منها ، والتبرك بها والتغال فيما يهدين إليها - كل بحسب غنى زوجها - ففصّلن لها قلائد الذهب ، والأطواق والحلي ، وشددن الرحال لزيارتها ، ومدد يا ست يا معزة ، وشيء لله مبروكة ، والفاتحة لك يا طاهرة !!
وكانت يا سيدي الكريم فتنة مضحكة مبكية ، ولّدها الجهل بدين الله تعالى ، ومكر الرجل ( الحَلَنجي ) ولو يحسمها إلا الحزم الذي تحرك به رجل جريء قويٌّ مكين :
شاعت أخبـار البركات والفيوضات المعزاوية حتى وصلت لعبد الرحمن كتخـدا - من كبار القواد بمصر المحروسة - فحلف ثلاثين يميناً بالطلاق من نسائه ، وبعتق جواريه ، إن لم يأته مولانا الشي عبلطيف بالمعزة إلى قصره العامر ، ليلتمس من بركاتهـا ، وتطوف حولها نساؤه وبناته ، ويداعب شعرهـا المبارك أبناؤه الكتاخيد ، وليسألها هو عن نجم سعده ، وعن أعدائه في كتخديته .
ولأن مولانا الشيخ عبد اللطيف رجل يهتبل الفرص - ويصنعها إن لم تواته - فلم يرد أن " يكسف " خاطر كتخدا الذي يستطيع أن ينغنغه والمعزة في نعمة وبلهنية ، فركب بغلته ، ووضع المعزة في حجره ، وسار بها في موكب عظيم ، تتقدمه أشاير وبيارق الطريقة البِلزية والفوسية والمكّاوية والبريقعية والمعزاوية ، وتعزف حوله المزامير ، وتدق الطبول ، وينغّمالفقراء أبيات البردة ، ويصرخ المجاذيب متواجدين وتزغرد النسـاء مستبشرات ، وكان يوماً حافلاً مشهوداً " يوم طلعة المعزة "!!
دخل الشيخ عبد اللطيف قصر الكتخدا في خطوة عسكرية بطيـئة ، كأنه ياوران كبـير ، يحمل بين يديه المعزة المجللة بالذهب والحرير ، فلما رآها الكتخدا وثب في خشوع وتهيب ، فقبل رأسها ، ومس ضرعها ، ومسح شعرهـا، ثم مسح بعد ذلك وجهه ورقبته وثيابه ، كي تعمه البركة ، وتنزل عليه الولاية المعزاوية ، بعدها التفت صارخاً في أحد الأغوات : يا ولد خذ الست ، وامض بها إلى الحريم ، حتى ينلن بركة الشيخة معز ، وليملّسن على الأولاد الصغار بعد ذلك ، فيـبرأ المحصوب ، ويسكن الممغوص ، بسرعة يا آغا .
وبسرعة أخذ الآغا المعزة الميمونة ، ودلف بهـا من باب جانبي ، ليس إلى الحرملك بل إلى المطبـخ ، حيث ينتظرها الكلارجي ، وكان ماهـراً في الذبح ، وباسم الله والله أكبر أجهز الرجل على المعزة ، وسلخها ، وطبخها مع غيرها من الذبائح، وأقيمت وليمة عامرة باذخة على شرف الشيخ عبد اللطيف ، الذي جلس على رأس المائدة بجانب الكتخدا العفريت ، ووضع المعـزة أمام الشيخ الذي تحلّب فـوه قبل أن يسـمع الكتخدا وهو يرجوه :
- بالهنا ولشفا ، كلْ يا مولانا الشيخ ، خذ مني هذه القطعة اللذيذة .
ودي عشان خاطري ، طيب … وعشان خاطر المبروكة خد دي .
- خوش لحم … لا تقوللي استرالي ولا صومالي .
- ما رأيك بهذا الرميس السمين ؟!
- اللا اااه يا كتخدا ، إنه طيب ومستوٍ ونفيس ، لحمه غاية في الطعامة ..
- وينظر الكتخدا لمن حوله ممن يعرفون " الفولة " وهم يتغـامزون ويضحكون ، ويظن الشيخ أن الجماعة في حالة أُنس وتجلًّ بوجوده ، ويعتقد أن الشيخة هنـاك في الحرملك ترفل في الدمقس وفي المهلبية ، وتأكل العلف الكتخداوي الذي هو خليط من عين الجمل واجوز واللوز ، فيهز رأسه في رضاً واطمئنانًا ، وانتـهى الطعام ، ودارت القهوة ، وتجشأ الشيخ عبد اللطيف بعد أمنامتـلأ كرشه فأخذ يهتف :
- يجعله عامر يا كتخدا ، أنعم الله عليك ، فين الشيخة معزة ؟
- الشيخة معزة ؟ الله يرحمها إنها الآن في بطنك ، ألم تأكلها كلها الآن ؟ ألم تقل قبل قليل إنها سمينة ولذيذة ؟
- جحظت عينا عبد اللطيف ، وبُهت فلم يستطع أن ينطق ، واصفّر لونه بعد أن أيقن أن حيلته انكشفت وأكذوبته افتضحت ، وأخذ يهمهم ويتباله، ويضطرب في حركاته وكلماته .
وعاد عبد الرحمن كتخدا ليحلف ثلاثين يمينا بالطلاق " بالثلاثة " من نسائه ، ويعـتق جواريه ، إن لم يعـد الشيخ النصاب بموكب كالذي جاء به : وعلى رأسه - بـدل العمامة - جلد المعزة - أقصد الشيخة معزة - وتتقدمه بيـارق واشـاير البلزية والمكاوية والبريقعية والمعـزاوية ، والمشايخ ينغمون كلمات الـبردة ، والطبلجية يدقون طبولهم ، والمجاذيب يصرخون تواجداً ، والنساء يتفجّرن بالزغاريد ، والجند حول الموكب كله ، ليتأكدوا ألا يحنث الكتـخدا في يمينه ، كيلا تطـلق نساؤه ، وتعتق جواريه .
ويدور الموكب في شوارع مصر المحروسة بالشيخ النصاب في فضيحة مدوية، أفاق بعها عددٌ من العـامة ليكتشفوا أن الشيخ عبد اللطيف لم يصل إلى ما وصل إليه بذكائه ، بل بغبائهم ، وإيمانهم بالجهالات والفشر، حتى اعتقدوا في ولاية معزة !!
المصدر: مضايف شمر
ساحة النقاش