طلبة علم المكتبات والعلوم الوثائقية " سيدي بلعباس"

يهتم بكل ما يهم طالب التخصص من محاضرات ودروس وتوجيهات.......؟.

تمهيد :

"ديمتريوس الفاليري"، أبو مكتبة الإسكندرية والمؤسس الأول لها، سياسي وفيلسوف أثيني كان زميلا للإسكندر الأكبر خلال سنوات تعلمه على يد مربيه الفيلسوف الأغريقيي الشهير "أرسطو". ترك "ديمتريوس" أثينا هاربا عام 300 ق . م إلى المدينة التي أنشأها الإسكندر لتكون عاصمة ملكه الواسع الذي أسفرت عنه فتوحاته التي وحدت الشرق والغرب وشملت أرجاء العالم القديم المعروف وقتذاك. لقد كان الفاتح الأغريقي هو منشأ هذه الإمبراطورية الواسعة التي وحدت الشرق والغرب، والتي سريعا ما تعرضت للإنقسام والزوال عقب موته، أما "ديمتريوس فاليري" فهو منشأ مكتبة الإسكندرية التي ظلت توحد لقرون طويلة بين روح الشرق وثقافته ومعتقداته وروح الغرب وثقافته وفلسفته، توحيدا ظلت أثاره الملموسة إلى اليوم شاهدا على وحدة الحضارة الإنسانية وعظمتها وثرائها.
كانت أول مهام "ديمتريوس"، بتكليف من حاكم مصر "بطليموس الأول"، جمع كل ما يمكن الوصول إليه من الكتب وترجمة كل ما يمكن ترجمته منها. ولم تكن مكتبة الإسكندرية، منذ التفكير في إنشائها، مجرد خزانة كتب بل كانت منارة عالمية للإشعاع الثقافي والحضاري تطل على حوض البحر الأبيض المتوسط الذي كان يشكل محيطه مركز العالم المعروف آنذاك. فأنشأ بجوار مبنى المكتبة مبنى علمي آخر هو "الموسيون" والذي كان، على طريقة العصور القديمة، بمثابة جامعة أو مدرسة أو دار علم أو معهد علمي. وقد قسم "الموسيون" إلى جناحين : جناح للعلوم وجناح للأداب. وقد ترأسه فيلسوف أغريقي شهير آخر، كان بدوره تلميذ "أرسطو"، هو الفيلسوف "ستراتون اللامبساكي"، وكان حاكم مصر البطلمي قد استدعاه إلى مصر حوالي عام 300 ق.م ليقوم بالتدريس لابنه وولي عهده. وقد بلغ عدد العلماء والفلاسفة والأدباء والحكماء الذين التحقوا بالمكتبة المائة، وهو عدد مهول بمقاييس هذا العصر. وانقسم هؤلاء الحكماء إلى طائفتين: "الفيلولوجيون" الذين يقومون بدارسة النصوص والمخطوطات دراسة تاريخية مقارنة تشمل كل أنواع العلوم والفنون والفلسفات، ثم "الفلاسفة والعلماء" الذين ازدهرت على أيديهم علوم الدين والفلك والجغرافيا والفيزياء والكيمياء والطب والتشريح والتاريخ والفلسفة والشعر والفنون والآداب. ويأتي الكتاب في فصله الثاني على ذكر ملخصات مركزة لسير بعض علماء مكتبة الإسكندرية ونبذ مهمة عن حياتهم العلمية وابتكاراتهم.
كان للمكتبة طابع علمي موسوعي يلائم ما حملته على عاتقها من مهام حضارية "فلو أحضر أي إنسان غريب عن مصر أي كتاب حتى ولو كان غير معروف كان لزاما عليه أن يقدمه لينسخ منه الناسخون نسخة تضاف إلى مجموعة الكتب الموجودة بالمكتبة". وكانت المكتبة واحدة من ثلاثة معالم ثقافية عالمية بارزة اشتهرت بها مدينة الإسكندرية وانتشرت بها ثقافيا عبر العالم. الأول هو ضريح الإسكندر الذي حرص "بطليموس الأول" على نقل جثمانه إلى الإسكندرية. وقد كان الضريح كعبة يحج إليها كل سكان العالم المتأغرق حيث عبد الإسكندر كإله. والثاني هو المركز الرئيس للإله "سرابيس" الذي انتشرت عبادته خارج مصر وفي أنحاء العالم الأغريقي بشكل واسع. ثم "مكتبة الإسكندرية" التي نجحت في أن تكون كعبة العلم والفلسفة ومركز الانتشار الحضاري والثقافي لعصور وحقب متوالية بعد إنشائها. وقد تعهدها بالاهتمام صاحب فكرة إنشائها "بطليموس الأول" وواصل رعايتها خلفه "بطليموس الثاني" ثم من تلاهم من الأباطرة الرومان، لتنمو قدراتها وتتأكد أهميتها وتتسع شهرتها عبر القرون. وكان من مظاهر اهتمام أباطرة الرومان بتوسعتها وتزويدها بأحدث التجهيزات العلمية والمعمارية ما زودت به من نظام تدفئة مركزية يمد بأنيب عبر الحوائط للحفاظ على جفاف الجو داخل مستودعات الكتب. إذ "لم تكن المكتبة القديمة بالإسكندرية تقل أهمية عن نهر النيل بحال من الأحوال".
وبين يدي تقديمه لمكتبة الإسكندرية وأهم علمائها يؤكد الكتاب فكرة تواصل الحضارات. فلم تكن مكتبة الإسكندرية هي الأولى من نوعها عبر تاريخ الحضارة البشرية فقد سبقتها مكتبة أو معهد أو جامعة "أون" الفرعونية القديمة بقرون طويلة و"كانت موطنا لتعلم الكثير من فلاسفة اليونان القدامى أمثال طاليس وفيثاغورس وديموقريطس وأفلاطون". لكن مكتبة "أون" الفرعونية القديمة كانت مخصصة للكهنة فقط الذين أتقنوا وحدهم فن الكتابة والقراءة وأسرار العلوم والفنون والبناء. أما مكتبة الإسكندرية فقد جسدت، تجسيدا تاريخيا وبصورة عملية، في وجودها وطريقة عملها وأساليب التعليم والتعلم فيها، كل معاني وحدة الإنسانية. فجمعت ما بين الشرق والغرب في تناغم حي وجميل. وانصهرت من خلال ما قدمته من ثقافة راقية ونظريات فلسفية ومكتشفات علمية ثقافة الغرب الأغريقية (الهلينية) وثقافة الشرق الفرعونية. وقد استأثر هذا المزيج الحضاري الفريد تاريخيا باسم الثقافة "الهلنستية". ويقصد بالمصطلح هذا الحصاد الإنساني الثر من العلوم والمعارف الذي تولد على ضفاف المتوسط حيث ربضت مكتبة الإسكندرية، وحيث "فرض على كل عالم يدرس بها أن يدع بها نسخة من مؤلفاته ولأنها أيضا كانت في معقل العلم ومعقل البردي وأدوات الكتابة (مصر) حيث جمع بها ما كان في مكتبات المعابد المصرية وما حوت من علم "أون". وكان تحرر علمائها من تابو السياسة والدين والجنس والعرق والتفرقة من أجل البشرية، فالعالم الزائر لها أو الدارس بها لا يسأل إلا عن علمه لا عن دينه ولا قوميته".
وعلى هذا النحو المكثف المتتابع، المبسط، تحشد حكاية "حسام الحداد" عن مكتبة الإسكندرية معلوماتها التاريخية الثرية القيمة، وتؤكد تخلق "مكتبة الإسكندرية" من رحم الحضارة الإنسانية الواحدة والتي مثلت حلما بشريا، لا شرقيا ولا غربيا. حلم من الامتزاج والتوحد الحضاري الإنساني الفريد.

معجزات العلم في مكتبة الإسكندرية
يستعرض الفصل الثاني سير بعض العلماء الذين تلقوا العلم ودرسوا في "جامعة/مكتبة" الإسكندرية. وهو استعراض لا يدع مجالا للشك في أنه لو لم يوجد هذا الكيان العلمي الحضاري المهيب، خلال هذه الفترة من عمر التطور الحضاري البشري، ما كان ممكنا أن تصل البشرية إلى ما وصلت إليه اليوم من تقدم فكري وعلمي وتقني. فكل جذور العلم الغربي المتقدم الحديث وأصول الفلسفة والدين والعقائد يمكن العثور عليها هناك كما سوف تمتد فيما بعد وتتطور وتزدهر بصورتها الباذخة التي نعهدها فيها اليوم.
فمن بين مشاهير علماء المكتبة الجليلة "إقليدس" (325 – 265 ق.م) وكان "محبا لكل من يرغب في تطوير الرياضيات وحريصا على عدم إغضاب أحد منه". وهو واحد من أهم علماء الرياضيات عبر العصور، وضع في كتابه عن "الأوليات" أسس علم الرياضة والهندسة والمنطق الرياضي، وقد ظلت "هندسة إقليدس" المنسوبة إليه تدرس في المدارس والجامعات طيلة ألفي عام. أما الهندسة الأخرى الجديدة التي اكتشفت بعده (الهندسة غير الإقليدية) فقد نسبت أيضا إليه.
ومن هؤلاء العلماء الأفذاذ "هيروفيلوس" (335 – 280 ق.م) وهو الذي تمكن عبر عمليات التحنيط وتشريح الثدييات من وضع أسس علم التشريح والتشريح المقارن، وأثبت أن المخ، وليس الكبد أو القلب، هو مقر العواطف والذكاء. كما أسس علم أمراض النساء وكان أول من قال بأن المرأة ليست مخلوقا ناقصا يقل عن الرجل ولكنها تشابهه تماما من الناحية الفسيولوجية. ووصف حيض المرأة باعتباره عملية جسمية وليس ظاهرة مرضية.
أما "اريستاركوس" (310 – 230 ق.م) فقد سبق باستخدام رياضة إقليدس إلى إثبات مركزية الشمس ودوران الأرض وبقية الكواكب حولها في هذا الوقت الباكر من عمر العقل الإنساني. وقد واضطهد بسبب نظريته – كما اضطهد جاليلو بعده بنحو ألفي عام – وعوقب بتهمة الكفر بسبب اكتشافه.
أما "أرشميدس" (287 – 212 ق.م)، وهو عالم الرياضيات الشهير عبر التاريخ ومكتشف النظريات الأساسية لمركز الثقل للأسطح المستوية والأجسام الصلبة واستخدام الروافع. كما أنه "من أبرز القوانين التي اكتشفها قانون طفو الأجسام داخل المياه والذي صار يعرف بقانون أرشميدس". وقصة اكتشاف هذا القانون هي قصة شهيرة حيث طلب الملك اليوناني "هيرون" منه أن يحدد له نسبة الفضة في تاجه الذي يحمله فوق رأسه. ومن خلال اجتهاده في تحديد هذه النسبة، التي كانت مستحيلة التحديد طبقا لمعارف عصره، أكتشف العالم "أن الفرق بين وزن جسم في الماء ووزنه في الهواء يعادل وزن الماء المزاح، ولما كان وزن الماء يعادل حجمه فإنه بذلك قد استطاع أن يحدد حجم الأجسام بوزنها في الماء والهواء، وبهذا يمكن تحديد الكثافة النوعية للأشياء".
ويأتي الرياضي الفيلسوف "ايراتوسثينوس" (275 – 195 ق.م) ليتمكن من إثبات كروية الأرض رياضيا ويقوم بقياس دقيق لمحيطها. في البداية اكتشف "ايراتوسيثنوس" أن أشعة الشمس تتعامد تماما على الأرض في أسوان في ظهر يوم 21 يونيو من كل عام بواسطة ملاحظته اختفاء ظلال المسلات كما أنه تمكن من رؤية انعكاس صورة الشمس على سطح المياه في الآبار العميقة "وهي ملحوظات سهلة يمكن أن تمر على أي إنسان، لكن ايراتوسيثنوس لم يكن عاديا. وضع عصا طويلة رأسية في الإسكندرية في نفس اللحظة من يوم 21 يونيو ولكنه وجد للعصا ظلا وتعجب أن أشعة الشمس، لبعدها عن الأرض، تسقط عليها متوازية. فإذا كانت الأرض مسطحة فلابد، وفقا لهندسة إقليدس، أن يكون للعصا الرأسية نفس الظل على الأرض في أي مكان وهكذا أثبت كروية الأرض". ولم يتوقف الأمر به عند هذا الاكتشاف الهندسي المدهش بل تمكن "ايراتوسيثنوس" عبر قياس زاوية سقوط أشعة الشمس على العصا الرأسية في الاسكندرية وأسوان في ظهر يوم 21 يونيو وقياس المساحة ما بين أسوان والإسكندرية، وتعادل 800 كم، من قياس محيط الأرض. وكان قياسه لا يختلف إلا بنسبة 1% عن أدق القياسات الحديثة.
ويأتي على رأس مشاهير علماء مكتبة الإسكندرية الفيلسوف المسيحي "أفلوطين" (204 – 270م)، وهو رأس مدرسة الأفلاطونية الجديدة أو المحدثة التي مزجت فلسفة الإغريق المثالية والأخلاقية بعقائد الشرق وروحانيته وتطلعه لعبادة الإله الواحد. وقد انطلقت فلسفة "أفلوطين" من فكرته عن وجود يتجاوز العالم الحسي ويقوم على أقانيم ثلاثة هي الواحد الذي هو أعلى من الجميع، الكامل الذي يتجاوز كل الفضائل، الأب الكلي الذي لا يمكن وصفه واللاوجود معا. ثم، الأقنوم الثاني، وهو العقل أو الذكاء الذي يعي ذاته ويعرفها ويتوحد مع الأفكار والملموسات فلا ينفصل عنها حيث أنه "كائن متعدد جذريا". والأقنوم الثالث وهو الروح "تلك التي لا تهدأ، والتواقة إلى الفعل، وهي عامل تناغم لأنها لم تنس وقائع ما في الأعالي". والروح الإنسانية يمكنها الاهتداء إلى الروح الكونية ومشاركتها عبر التغلب على عواطفها وغرائز ورغبات الجسد، كان الفيلسوف "يخجل من كونه في جسد".
وعلى العكس من "أفلوطين" الذي أهتم بتدوين نظرياته يأتي أستاذه الفيلسوف "أمونيوس ساكاس" (توفي بين 240 و 245م) والذي يؤكد مؤرخون أنه تنكر لمسيحيته فيما يؤكد آخرون أنه بقى مؤمنا بها. كانت حياة "أمونيوس" غامضة كتعاليمه التي شاء لها أن تكون سرية، وقد كانت عقيدته التي بشر بها توفيقية انتقائية، تستند إلى دراسة أرسطو وأفلاطون وتحاول التوفيق بينهما من خلال صقل روح واحدة تجمع بينهما. وقد كان من شواغل الفيلسوف الهامة فكرة العلاقة بين الروح والجسد، وقد أتى فيها بأفكار لاتزال رائجة حتى اليوم.
وفي ميدان التأريخ يأتي المؤرخ الشهير "أميانوس" (320 – 395 م)، من عظماء المؤرخين خلال التاريخ حيث يذكر عنه أنه "لم يكتب حدثا تاريخيا واحدا في حياته مستهلا إياه بأحكام مسبقة أو متأثرا بعاطفة أو متحيزا. ومع أنه كان وثنيا كانت لديه مساحة من التسامح الديني جعلته منصفا في حديثه عن المسيحية والمسيحيين الأوائل".
أيضا من بين مشاهير علماء المكتبة، ويتناول الكتاب سيرهم، "هيباركوس" (190 – 120 ق.م) الذي استطاع قياس المسافة بين الأرض والقمر بالحساب الهندسي فاكتشف أنها تتراوح ما بين 57 إلى 59 ضعف من نصف قطر الكرة الأرضية، والرقم الدقيق طبقا للقياسات الحديثة هو 60 ضعفا. و"هيرون" صاحب طريقة حساب الجذر التربيعي التي لاتزال مستعملة حتى اليوم في الآلات الحاسبة. و"بطليموس" صاحب أهم مرجع في تاريخ علم الفلك لمدة 14 قرنا وهو "الماجسطي". و"جالينوس" الطبيب الذي درس تشريح الأعصاب والعضلات والعظام ووظائفها واكتشف أنه قطع النخاع الشوكي في مناطق معينة يسبب للإنسان الشلل.
ثم، وأخيرا، تأتي "هيباتيا" (370 – 415م) الفيلسوفة والعالمة السكندرية التي طبقت شهرتها الأفاق وكانت رمزا جوهريا صافيا لالتقاء العلم والفلسفة. وقد أتى قتلها إعلان أفول للازدهار العلمي والفلسفي لمكتبة الإسكندرية. وقد قتلت الفيلسوفة بيد متعصبين مسيحيين بعد أن أصدر الإمبراطور الروماني قرار محاربة الوثنية وتحطيم المؤسسات الدينية المصرية القديمة.

لغز الحريق والفناء
يرصد الكتاب ثلاثة تواريخ هامة لحرق وفناء مكتبة الإسكندرية. أولها في العام 48 ق.م وينسب لـ"يوليوس قيصر"، وثانيها في العام 399 ميلادية وينسب لبطاركة الرومان، والثالث في القرن السابع على يد الفاتح العربي "عمر بن العاص".
وتثير تواريخ حرق مكتبة الإسكندرية، وظروف وملابسات وقوعها التاريخية وأسباب حدوثها، حديثا حول المخاطر التي تتهدد الحضارة البشرية وتعرقل علومها وفنونها في مسيرتها المتقدمة. وهي كلها أسباب دمار وفناء تقع بدوافع نابعة من نفس الكائن الذي تنهض على كاهله الحضارة ويكتشف بعقله وبصيرته العلوم والفلسفات ويولد خياله الفنون والآداب. فالإنسان هو هذا الكائن الذي يقبع في جوهر المفارقة الكونية الكبرى ويجسد تناقضها الأكبر: الحياة والموت، الوجود والعدم، البناء والفناء.
تنسب التواريخ حرق مكتبة الإسكندرية للمرة الأولى لأمر صدر من "قيصر" لجنوده بحرق سفن الأسطول المصري الراسية في ميناء الإسكندرية. هنالك امتدت النيران وطالت المكتبة وأتت على ثروتها الذاخرة من الكتب والمخطوطات. ويستند أصحاب هذا الرأي من المؤرخين لمذكرات "قيصر" نفسها والتي يسجل فيها أن النيران التي أشعلها جنوده لإحراق الأسطول المصري امتدت لتلتهم "مخزنا مليئا بأوراق البردي قريبا من الميناء". وهو نفس النص الذي يستند إليه مؤرخون آخرون في دفع التهمة عن "قيصر"، ويرون أن هذا المخزن يستحيل أن يكون المكتبة لبعد موقع المكتبة عن الميناء من جهة. ومن جهة أخرى فإن مؤرخا شهيرا هو "سترابو" زار الإسكندرية عام 25 ق.م، أي عقب واقعة الحرق المنسوبة لقيصر، دون أن يذكر أي شئ عنها. رغم ذلك فقد أتفق مؤرخون كثيرون عبر التاريخ على أن "يوليوس قيصر" هو من قام بإحراق مكتبة الإسكندرية. ومن أشهر هؤلاء المؤرخين "بلوتارك"، والمؤرخ الروماني "جيلوس"، كما يتفق على هذا الرأي مؤرخان عاشا في القرن الرابع، أحدهما وثني هو "اميانوس مرسلينوس" والآخر مسيحي هو "اوروسيوس".
وتأتي الواقعة الثانية لتدمير المكتبة على أيدى بطاركة رومان متشددين في القرن الرابع الميلادي في عهد الامبراطور "ثيوزوسيوس الأول". حيث اشتدت في هذه الآونة وطأة التعصب الديني ولم يعد بإمكان المدرسين والطلبة الوثنيين التعايش في هذا المناخ، ولا حتى كان ممكنا أن يسمح لهم بالبقاء بعيدا في سلام.
وأخيرا تأتي الواقعة الثالثة حيث تم إحراق المكتبة على يد الفاتح العربي لمصر "عمرو بن العاص". وهي الواقعة التي تثبتها كثير من المصادر، من بينها "عبداللطيف البغدادي" في كتابه "الإفادة والاعتبار"، و"ابن القفطي" في كتابه "مختصر تاريخ الحكماء"، و"أبو الفرج الملطي" في كتابه "تاريخ مختصر الدول".
وملخص الواقعة، كما يرويها هؤلاء المؤرخون، أن "يحيى النحوي" وهو مصري سكندري من علماء الإسكندرية "دخل على عمرو بن العاص" فعرف "ابن العاص" علمه وموضعه وعلو كعبه، وكان "يحيى النحوي" قد تعرض لاضطهاد بسبب رأيه المخالف في عقيدة التثليث المسيحية، فسمع منه "ابن العاص" رأيه وأعجبه. و"كان عمرو عاقلا حسن الاستماع صحيح الفكر، فلازمه وكان لا يكاد يفارقه". ويوما طلب منه العالم السكندري أن يفرج عما في مكتبة الإسكندرية من كتب الحكمة ويردها لأهل الاسكندرية، وكان "عمرو" قد "أحاط بحواصل الاسكندرية" و"ختم على كل الأصناف الموجودة بها". وأرسل "عمرو" يستئذن الخليفة "عمر بن الخطاب" حيث وصلت عدد كتب المكتبة في هذه الآونة إلى أكثر من 54 ألف كتاب. فورد عليه كتاب "عمر" الذي يقول: "وإما الكتب التي ذكرتها، فإن كان ما فيها يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة لنا بها، فتقدم بإعدامها". ويقال أن "عمرو" شرع في توزيعها على مواقد حمامات الإسكندرية فاستنفذت حرقا في ستة أشهر كاملة.
ويقدم المؤرخ الإسلامي "جورجي زيدان" في كتابه "تاريخ التمدن الإسلامي" أسباب اقتناعه بأن "عمرو بن العاص" هو من قام، طبقا للمصادر، بإحراق المكتبة. وهي أسباب تصلح في ذاتها تفسيرا تاريخيا شاملا، يشبه أن يكون دفاعا بليغا، عن هذه الواقعة التي قد تستغل، دون اعتبار لظروف العصر التي جرت فيه، لوصم المسلمين الأوائل بما لم يكن حقيقة فيهم. حيث يجمل "زيدان" هذه الأسباب في رغبة العرب في صدر الإسلام في محو كل الكتب غير القرآن الكريم، وهو ما يرد عنهم في أماكن أخرى غير مكتبة الإسكندرية مثل خبر إحراق مكتبات فارس في خبر مشابه أرسل فيه الفاتح العربي "سعد ابن أبي وقاص" يستئذن الخليفة "عمر ابن الخطاب" في شأنها، فكان من جواب "عمر" رضى الله عنه: "أن أطرحوها في الماء، فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله تعالى بأهدى منه، وإن يكن ضلالا فقد كفانا الله تعالى". وليس في كل اخبار إحراق الكتب المنسوبة للفاتحين المسلمين الأوائل ما يفترق أو يخالف ما كان شائعا في هذا العصر من عادات الفاتحين الآخرين "فكان أهل كل شيعة وملة يحرقون كتب غيرها"، وكانوا يعتبرون ذلك من قبيل السعي في تأييد الأديان الجديدة المنتصرة، وهو ما فعله أباطرة الرومان المسيحيون بمكتبة الإسكندرية ذاتها في تاريخ سابق وهدموا معها كل الصروح والمعابد الدينية الوثنية المصرية القديمة. كما يضيف "زيدان" إلى ذلك استشهاده بما حدث خلال الفتح التتري لبغداد سنة 656 هـ، وما حدث خلال فتح الإفرنج طرابلس الشام أثناء الحروب الصليبية حيث أحرقوا مكتبتها بأمر من الكونت "برترام سنت جيل".
والمؤكد أن العرب والمسلمين أنفسهم هم من محوا بأيديهم أثر هذه الحادثة التاريخية خلال بنائهم لصرح حضارتهم الشامخ، فلم تصلنا مؤلفات العلماء والفلاسفة والأدباء التي قام "عمرو" بإحراقها – على الخلاف التاريخي حول ذلك ولم يأت الكتاب على ذكره – إلا عبر الحضارة العربية الإسلامية ذاتها.........منقول.

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 460 مشاهدة
نشرت فى 23 نوفمبر 2015 بواسطة latreche-hakim

ساحة النقاش

لطرش عبد الحكيم

latreche-hakim
موقع خاص بالطلبة، تخصص علم المكتبات والعلوم الوثائقية لجامعة جيلالي ليابس -سيدي بلعباس- الجزائر »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

75,964