حتى أواسط القرن السابع عشر، لم يكن فن رسم مشاهد من الحياة اليومية قد وصل إلى إسبانيا، حيث كانت اللوحات الزيتية محصورة في المواضيع الدينية والصور الشخصية لكبار النبلاء، أما المشاهد العادية فلم تنل اهتماماً يعلو بها عن وسائل التعبير «الرخيصة» نسبياً مثل الحفر على الخشب أو الزنك للطباعة وتزيين صفحات الكتب. وكان على الحياة اليومية أن تنتظر الرسّام بارتولومي إستيبان موريو (1617 - 1682م) لتحتل مكانتها في فن اللوحة الإسبانية، على غرار ما كان يحصل في هولندا لقرن ونصف قرن من الزمن.
رسم هذا الفنان بعض المواضيع الدينية بشغف جعله يرتقي بتقنيته إلى ما يقارب تقنية فيلاسكيز القادر على التعبير الكثير بضربة واحدة من ريشته أو بضربتين.. غير أنه تميز عن غيره من معاصريه بالالتفات إلى الصور الكثيرة التي تعرضها عليه الحياة اليومية. فرسم مثلاً «المتسول الصغير» في شوارع إشبيلية، كما رسم «فتاة ومربيتها» في لوحة شهيرة نتوقف أمامها هنا.
لا شك أن موريو شاهد وهو يتجول في أزقة إشبيلية الكثير من الفتيات على شرفات منازلهن وبجانبهن المربيات. وقد أطلق على هذه اللوحة لبعض الوقت اسم «لاس غاليكاس»، نسبة إلى سيدتين شهيرتين قدمتا إلى إشبيلية من غاليسيا. ولكن ما لنا وللاسم أو لأصول هذه الفتاة ومربيتها.
ما يهمنا هنا هو الجمال الاستثنائي لهذه اللوحة، فوسط سواد الغرفة وبجانب خشب النافذة الداكن، نرى الفتاة ومربيتها تحتلان مثلثاً صغيراً من مساحة اللوحة، ولكن الإضاءة القوية على القماش الأبيض وبشرة الوجهين والأيدي تأسر البصر بسرعة، وتوهمه بامتلاء مساحة اللوحة.
الفتاة التي وضعت يدها على خدها، وراحت تحدق بابتسامة لطيفة إلى المشاهد (الرسام)، ليس لها ما يشغلها سوى الاستمتاع بمشاهدة الحياة الخارجية. إنها لا تقوم بأي عمل، وقيمتها الكبرى هي أولاً وأخيراً شكلية وجمالية، وذات جاذبية تستحق التصوير.
أما المربية التي تطل من خلفها بشيء من الخجل، فهي صاحبة الفضل في نضارة هذه الفتاة، وهي التي سرحت لها شعرها جيداً، وزينته بهذا الشريط الأحمر الذي لا نرى منه إلاّ نقطتين صغيرتين تتراسلان جيداً مع الشريطة الحمراء الصغيرة على صدرها.
مما لا شك فيه أن موريو رسم لوحته هذه بشغف يختلف عن الشغف الذي رسم به لوحاته الدينية. فقد أمسك هنا بفرشاة دقيقة جداً لرسم وجه الفتاة وقولبة تقاطيعه، ولينتقل من الأماكن المضاءة جيداً على وجهها إلى الأماكن المظللة. فالغاية هنا ليست رواية حدث، بل إظهار الجمال والرقة لهذا البياض الذي يختزل لوحده اللوحة بأكملها.
لا نعرف مَن مِن الرسامين كان يمكنه أن يعبر بمثل هذه البلاغة عن جمال شخصية مضاءة في محيط مظلم. في إسبانيا.. لا أحد حتى آنذاك. أما في هولندا، فمن المرجح أن رامبرانت وحده كان صاحب النظرة القادرة على التعاطي الفني مع مشهد هذه الفتاة. ولكن، لا أحد، لا في إسبانيا ولا في هولندا، ولا حتى فرانز هالز نفسه كان يستطيع أن يرسم وجهاً مثل وجه المربية هنا، الذي نراه مبتسماً بوضوح، فقط من خلال شكل العينين وخط واحد على الخد.
ساحة النقاش