الروائي الفرنسي إميل زولا الصديق الأقرب إلى بول سيزان، كتب ذات مرة يصف والد هذا الأخير بأنه «رجل ساخر، جمهوري، برجوازي، بارد، دقيق وبخيل، وأكثر من ذلك فهو جشع، مكتفٍ بثروته لا يعير أدنى اهتمام لأي كان ولا لأي شيء». ومن المرجح أن هذه الصورة هي التي كانت في ذهن الابن بول سيزان عن والده عندما جلس يرسمه.
رسم سيزان والده ثلاث مرات على الأقل في لوحات زيتية، وفي عدد أكبر من الرسوم التحضيرية الصغيرة. ومما لا شك فيه أن هذه اللوحة المحفوظة في الناشيونال جاليري في واشنطن هي الأفضل. وأفضل قراءة لها تنطلق من الشخصية الحقيقية لهذا الرجل وعلاقته المرتبكة بابنه.
فقد كان لويس أوجوست سيزان في بداية حياته صانع قبعات، وفي العام 1848م، كان قد جمع من المال ما يكفي لشراء أحد المصارف المحليّة التي تعاني من المتاعب بسبب الثورة. فأعاد تنشيط المصرف وعمل على ازدهاره، آملا أن يتولّى ابنه بول إدارته لاحقا. ولكن بول كان ميّالا إلى الرسم، فاضطر إلى العيش على المساعدة المحدودة التي كان يقدمها له والده مرفقة دائما بنصيحة تقول: «فكِّر بالمستقبل. فالإنسان يموت بعبقريته ولكنه يأكل بالمال».
والواقع أن الأب والابن تشاركا في صفات عديدة أهمها الميل إلى شيء من القسوة والنفور من العواطف. في هذه اللوحة، نرى والد الفنان ككتلة ضخمة تحتلُّ نحو نصف اللوحة طولا وعرضا. وعندما نضيف إلى ذلك امتداد ساقيه إلى الأمام وارتداد جسمه إلى الوراء، نصبح أمام لوحة تبدو كأنها ثلاثيّة الأبعاد. الأمر الذي يشكل حالة مميزة من بين كل الصور الشخصيّة التي كانت معروفة حتى آنذاك.
الرجل غارق في قراءة جريدة «ليفنمان»، ولا يعير الرسّام (ابنه) أي اهتمام، والمقعد المغطى بقماش واقٍ يشي بشيء من البخل والحرص، تماما كاللوحة المعلقة خلفه من دون أن تؤطَّر.
إنها لوحة تخلو من أدنى شحنة عاطفيَّة. وتستمد قيمتها من تركيبها، ومن ضربات الفرشاة الغليظة والمعبِّرة في الوقت نفسه. ومن المرجَّح أن إنجازها لم يتطلَّب سوى ساعات قليلة. كما أنه من المرجَّح أن سيزان كان مهتما بالشكل الذي تؤلِّفه هذه الكتلة الممتدة أمامه من الأمام إلى الوراء ويزيد من ثقلها وضخامتها المقعد المنسجم لونيًا مع الملابس والصحيفة، أكثر مما كان مهتما في تخليد صورة الوالد «العطوف».
فالمديح الوحيد الذي صدر يوما عن بول سيزان تجاه والده، كان بعد وفاة هذا الأخير، إذ قال الفنان: «كان والدي عبقريا. لقد ترك لي ميراثا يؤمِّن لي دخلا منتظما يبلغ خمسة وعشرين ألف فرنك».
المصدر: عبود عطية- مجلة العربي
نشرت فى 16 مايو 2011
بواسطة khatwloun
عدد زيارات الموقع
58,551
ساحة النقاش