الكتابة والإبداع
في الكتابة لذة ، وفي القراءة متعة ، والكتابة الحقة تجمع بين الفائدة والمتعة في إهابها الحر الطليق .
إن روعة الكتابة تكمن في أن الكاتب يكلم الناس أينما كانوا ، وفي أي زمن أرادوا دون قيود أو حدود ..
والكاتب يتمتع بنشوة السعادة والسرور حين يجلس إلى ورقة يطرح أفكاره عليها ، ويبثر همومه وأحزانه وأفراحه على صدرها فإذا بالقلب والفكر يجد صباحه في قطرات من الندى تحمل الأمنيات لمستقبل أيام أفضل في مقال أو قصة أو قصيدة شعر فيستيقظ الذهن ويستعيد ذاكرته وقوته .
والكاتب حين يمسك قلمه بيمينه يكون هدفه أن يجلو لنا الحقيقة ويأخذها بأيدينا في دروب إبداعه ، ليضعنا أما التجربة الإنسانية في أُطرها العامة ونحن نسير معه في طريق غير مطروقة يحمل في جعبته فكراً يريد أن يوصله إلينا ولديه إيمان برسالة تمتد جسورا بين الكلمة والإنسان والحياة . لذلك كان الكاتب كما يصفه تولستوي هو الذي يستطيع (( أن يصف لنا عالم الله )) .
لكن الكتابة ليست عملية ميكانيكية سهلة إنها تحتاج مع الموهبة إلى جهد وعلاقة جدلية مع النفس والحياة والناس والتاريخ والزمان كما تحتاج إلى فكر يقظ قادر على متابعة الحدث والحديث وتفهمه وتقييمه وتقديمه بشكل دقيق وجيد . والكاتب كي يبدع يحتاج إلى حرية ممتدة يستطيع من خلال أجوائها أن يعبر عما يجيش في صدره بعيداً عن القمع وفي فسحة من الديمقراطية .
إذن الكتابة أولاً وأخيراً هي إبداع والإبداع في الكتابة هو ثراء وإغناء وخصوبة وإمتاع في عالم الكلمة والفكر والكاتب المبدع هو القادر على تذليل الفكرة وإيصال رسالته إلى القارئ تحركه معاناة ينطلق منها في عمله الأدبي أو الفكري وقد تكون المعاناة من مشكلات فردية شخصية أو إنسانية أو عامة وطنية وقومية تبث الروح المؤثرة في القارئ وتجعله مقتنعاً إن توفرت له عناصر الحجة والإقناع والمنطق فيطرحها الكاتب في سهولة ويسر وسلاسة لتجد الكتابة طريقها إلى ذهن القارئ دون عسر أو إرهاق في حلّ لفائف الرموز و الفجاءات .
كما أن نجاح العملية الإبداعية يتوقف إلى حد كبير على استشفاف الكاتب ثقافة عصره وما يطرأ على بيئته من تغييرات يكون قادراً على صياغتها بأسلوب يعبر عن الحركة المستقبلية ، والفعل الإنتاجي النشط دون معوقات الحركة . ولابد للقدرة الإبداعية كي تزدهر وتنمو أن تحدث تغييراً إبداعياً على أن تتوفر لها أسباب وشروط كي تنسجم مع التطور الحضاري المتسارع .
والإبداع في الكتابة لا يلزم الكاتب وضع أطر محددة لنمط ما أو نوع ما من أنواع الكتابة لأن الكاتب يظل مسكوناً بهاجس مرافق له ، مشحون به يسعى لإفراغه ويعمل على إفرازه بطريقته الإبداعية في صور بديعة ولفظ مشرق ، ومعنى وهاّج وعندما يسكب هذا الإبداع على الورق يكون العمل الأدبي أو الفكري قد أخذ شكله النهائي في الصياغة معبراً عن القيم والتراث وعن الهموم والآمال و حكايا الناس وأخلاهم وعاداتهم تاركاً الانطباع الأقوى لدى القارئ .
في هذا الإبداع يشحذ الكاتب كل أدواته و مستلهماته التي يمتلكها من خلال رؤاه الاجتماعية وحين ينجح في تطويعها وتطويرها بعد تمثلها يأتي أدبه صورة للزمن وشاهداً على العصر لأنه يعالج هذه الأفكار بفيض من التمثل الصادق ليضعنا في الصور الصحيحة والواضحة اجتماعياً ، ويشكل ثقافة تكاملية تتخطى الحدود بين الكاتب والقارئ ، لأنه يفكر في القضايا والهموم التي يعاني منها الطرفان فما الأدب إلا سجل للحياة أو نقد لها كما يقول الناقد الإنكليزي (( كولردج )) : (( إن الأدب هو نقد الحياة )) .
فإذا طرح الكاتب مثلاً موضوع الهجرة أو الاغتراب فإن القارئ يجد نفسه في الفكرة والصورة المطروحة ، ويتابعها لأنها فكرة لقضية اجتماعية ، لا زالت تلح على الكاتب كي يعمل على إيصالها بمسيرته الإبداعية في حضرة هذا الغزو المريع للهجرة بين أبنائنا .
لكن توصيل هذه الأفكار والمعاني إلى القارئ تحتاج إلى فنية خاصة للتعبير عنها يصدق وشفافية وجمال ، وسمو وإقناع من أجل ترسيخها لذلك يذهب الكاتب في رحلة التحضير والإبداع ويبقى مشحوناً في حالة ذهنية من الانفعال والتفاعل ، لا يهدأ حتى يصوغها صياغة جديدة مبتكرة عميقة في عرضها لم تكن موجودة من قبل ، وليكن هذا الإبداع شعراً أو قصة أو رواية أو مقالاً ...
ومن جمال لغتنا العربية أنها غنية بمفرداتها قادرة على أن تمد الكاتب بذائقة جمالية في انتقاء عباراته وصوغ ألفاظه بلغة دقيقة شفافة ، موحية تترك أثراً عميقاً في نفس القارئ .
وبنجاح الكلمة يحلّق الكاتب فيما اقتطفه من إبداعات لأن العبارات لها رحيقها الخاص وأداؤها الآسر يزجيه المعبِّر في الهتاف بالجديد والتعبير عن الحقيقة التي يخرجها من خبء المجهول ، وبذلك يعقد مع قرائه وشائج الحب والإعجاب الذي يسمو به العقل وتمنحه المشاركة .
ونحن لا ننسى أن الجاحظ المتوفى عام /255/ هجرية أعطى للفظ أهمية بالغة في الكتابة وقد أوضح رأيه في كتاب (( البيان والتبيين )) ولا بأس أن نستضيء به إذ يقول : (( إني أزعم أن سخيف الألفاظ مشاكل لسخيف المعاني )) وقد انتصر الجاحظ للفظ ، مقللاً من هيبة المعنى كما جاء في كتاب الحيوان ، حيث يقول : " المعاني مطروحة في الطريق ، يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي " وجعل المعوَّل في الكلام على " تخيّر اللفظ وسهولة المخرج " كما يقول أيضاً: " المعاني موجودة في طباع الناس ، يستوي فيها الجاهل والحاذق ، ولكن العمدة على جودة الألفاظ ، وحسن السبك وصحة التأليف " . لذلك لا بد للكاتب المبدع من إكساء المعاني الجليلة والجميلة بَرْدَة زاهية من اللفظ يجلو بها المعنى ويزهو ، وتحمل في طياتها حيوية ومشاعر ودلالات لا يمكن إغفال توظيفها في مخاطبة العقل والقلب ليحقق الكاتب التفاعل الحي والمتجاوب مع القارئ .
وهكذا يجعل الجاحظ من المعاني بضاعة مرمية على قارعة الطريق ، ولكن أين هو الذي يحسن بلورتها ويستمد منها النسيج الفني ، ويغوص إلى مكامن الدلالة والتعبير عن نبض الحياة فيها فالمفردة إذن هي ملك للجميع ، ولكن الكاتب حين يبني مفردات جديدة تستطيع أن تتخذ لها في انتقائها هوية يضع فيها الكاتب نفسه ، كما تستطيع الكلمة المسطورة أن تخلق لنفسها مساحة تنفسية في التعبير عن كافة جوانب الحياة في منطقة حرة يكون الكاتب فيها إنساناً قد وجد لنفسه مكاناً مميزاً بين المثقفين والقارئين ، وفي معادلة سليمة يشاركهم فيها الهم ويفترق عنهم في اللغة التي ينتمي إليها ويخلق في أجواء إبداعه الأدبي ظلالاً تختمر في الذاكرة عمقاً وتبني كتلة من الأحاسيس . وهنا يكمن حضورها الدائم وأثرها العظيم .
وبذلك يكون الكاتب المبدع قد حقق طموحاته الفكرية في معالجة مختلف الفنون الأدبية والمواضيع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها وكان قادراً أيضاً على توصيل فكره وآرائه إلى الآخرين من خلال الكتابة .
ومما لا شك فيه أن تلك المزايا الفنية تعطي الإبداع الأدبي والإنتاجي في الكتابة دوراً وإسهاماً في الثقافة والحضارة والتطور الذي ينعم بعمر مديد وقلب أخضر دائم .
ساحة النقاش