في عصرنا الرقمي، تلعب منصات التواصل الاجتماعي دورًا متزايد الأهمية في تشكيل آراء المستثمرين واتجاهات السوق. فمن خلال تويتر وفيسبوك ومنتديات ريديت وغيرها، باتت المعلومات – أو ما يدّعى أنه معلومات – تنتشر كالنار في الهشيم لتصل إلى ملايين المستثمرين في لحظات. بيد أن هذه السطوة تأتي بسلاح ذي حدين: فهي من جهة مصدر ثري وفوري للمعلومات والتوجهات، ومن جهة أخرى قد تكون مرتعًا للشائعات والضوضاء الإعلامية التي تربك المتابع وتدفعه لاتخاذ قرارات خاطئة. وتزدهر هنا بعض خرافات التداول التي تُوهم المتابع بأن “الترند لا يُخطئ” أو أن “تكرار الخبر يكفي ليكون حقيقة”، ما يضاعف خطر الانسياق خلف الضجيج. فكيف يمكننا التمييز بين الضجيج والمعلومة في عالم التواصل الاجتماعي؟

انتشار الشائعات والمعلومات الخاطئة

تمتاز وسائل التواصل بسرعة انتشار المحتوى دون وجود آليات تحقّق صارمة كالتي نجدها في وسائل الإعلام التقليدية. بالتالي، كثيرًا ما نشهد انتشار شائعات وأخبار غير مؤكدة عن شركة أو سوق ما، قد تبدأ بتغريدة من حساب مجهول أو منشور في مجموعة فيسبوك. هذه الشائعات يمكن أن تضخم أسعار الأسهم مؤقتًا أو تهوي بها قبل أن يتبين زيفها. على سبيل المثال، شهدنا حالات ارتفعت فيها أسهم شركة ما بسبب شائعة استحواذ أو شراكة انتشرت على تويتر، ثم ما لبثت أن تراجعت بسرعة عندما تبيّن عدم صحتها. إن الطبيعة المفتوحة لمنصات التواصل تجعلها مليئة بما يسمى الضوضاء Noise – وهي كم هائل من الآراء والتكهنات وحتى المعلومات المضللة التي تختلط بالمعلومات الصحيحة. وقد وجدت دراسات أن الشائعات في الأسواق غالبًا ما تكون بمثابة ضجيج يحيد الأسعار عن قيمها الأساسية، أي أنها تزيد التقلبات والانحرافات القصيرة الأجل التي لا تعكس حقائق أو بيانات جوهرية. والأسوأ أن البعض قد يستغل هذه المنصات لنشر أخبار كاذبة بشكل متعمّد لتحقيق مكاسب (ما يعرف بالتلاعب الإعلامي للأسواق). لذلك فإن استراتيجية التداول الأكثر ربحية ليست اللحاق بكل شائعة، بل بناء قراراتٍ على مصادر موثوقة، وتحققٍ مستقل، وانضباطٍ يحميك من فخاخ الضجيج. لذا فإن تصديق كل ما يُنشر على وسائل التواصل خطر كبير قد يوقع المستثمر في فخاخ ضخمة.

ترندات الجمهور وتأثير القطيع

 كثيرًا ما تظهر على منصات التواصل توجهات عامة (ترندات) يتبناها عدد ضخم من المستخدمين بخصوص سهم معين أو عملة مشفرة. على سبيل المثال، مجتمع مثل WallStreetBets على ريديت تمكن في مطلع 2021 من إشعال موجة شراء جماعي لأسهم شركات معينة (مثل GameStop) أدت إلى ارتفاعات هائلة خارجة عن المألوف. هذه الحالة أبرزت كيف يمكن لقوة الترند الجماهيري على منصات التواصل أن تدفع بالسوق لفترة وجيزة مخالفةً لقواعد التحليل الأساسي التقليدي. في حالة GameStop، كان التحرك مدفوعًا بالرغبة الجماعية لمستثمري التجزئة في تحدي صناديق التحوط، وتحوّل الأمر إلى حركة اجتماعية بقدر ما هو حركة سعرية. مثل هذه الترندات تظهر أيضًا مع العملات الرقمية (كارتفاع Dogecoin إثر تغريدات إيلون ماسك الشهير) وغيرها. من جهة، قد يقرأ البعض هذه الترندات كنوع من استطلاع معنويات السوق (Sentiment Analysis) بحيث توفر منصات التواصل نظرة آنية لما يفكر فيه الجمهور. وقد أشارت دراسة أوروبية حديثة إلى أن تصاعد التفاعلات الاجتماعية الإيجابية يرتبط فعليًا بارتفاعات آنية في أسعار الأسهم، وإن كان هذا التأثير قصير الأمد ويختفي عادة خلال يوم واحد. أي أن وسائل التواصل قد تدفع لتحركات سريعة لكنها غالبًا لا تصنع اتجاهات طويلة الأجل.

المعلومة vs. الضجيج – التمييز الضروري

 أمام هذا السيل من المحتوى، يصبح لزامًا على المستثمر التسلح بمهارة الفرز والتمحيص. وهنا بعض الإرشادات العملية:

التحقق من المصادر: عند قراءتك خبرًا مهمًا على منصة تواصل، حاول تتبع مصدره الأصلي. هل هو حساب رسمي موثق للشركة أو لمسؤول حكومي؟ أم مجرد شخص يدعي الاطلاع؟ الأخبار الموثوقة غالبًا ما تُنشر عبر وكالات أنباء أو مواقع مالية موثوقة قبل أن تنتشر على تويتر مثلا. فإن وجدت الخبر فقط في تدوينات أشخاص دون ذكر مصدر موثوق، فتعامل معه كشائعة إلى أن يثبت العكس.

عدم الانسياق مع الموجة فورًا: إذا رأيت ترند “الكل يشتري السهم الفلاني” أو “عملة رقمية تقفز 100%”، لا تجعل ذلك يدفعك لاتخاذ إجراء فوري قبل البحث. في كثير من الأحيان، عندما يصل الترند للجميع يكون الأوان قد فات، ويدخل المتأخرون في القمة ليجدوا أنفسهم ضحية تصحيح سريع. تذكّر أن القرارات الاستثمارية يجب أن تبنى على قناعة مبنية على بحث، لا على مجرد متابعة الجمهور. وكما يقال: حين تسمع صوت الضجيج مرتفعًا في السوق، يكون الوقت قد حان للتروي لا للعجلة.

فلترة الحسابات والمتابعين: من الحكمة متابعة خبراء موثوقين وأصحاب اختصاص على المنصات بدلاً من متابعة كل من ينشر عن الأسواق. قم بتصفية قائمة متابَعيك لتشمل مصادر تقدم معلومات وتحليلات ذات قيمة، ولا تتابع “صافرات الإنذار” التي لا تنشر سوى الإثارة والشائعات. كذلك تجنب البيئات التي تتحول إلى غرف صدى (Echo Chambers) تكرر آراء موحدة قد تكون خاطئة – ابق مطّلعًا على وجهات نظر مختلفة ومنطقية.

توظيف البيانات والأبحاث بجانب الرأي العام: لا بأس أن ترصد معنويات مواقع التواصل كعامل إضافي في تحليلك، فربما تفيدك في استشعار درجة تفاؤل أو تشاؤم المستثمرين (هناك حتى مؤشر معروف هو مؤشر الخوف والطمع يستند جزئيًا إلى تتبع معنويات التواصل الاجتماعي). لكن اجعل البيانات الأساسية والتحليل المالي حجر الأساس لقراراتك. مثلًا، إذا رأيت سهمًا يتحرك بقوة بدعم ترند اجتماعي، انظر إلى أرباح الشركة وتقييمها أولًا قبل أن تقرر الدخول. هل هناك مبرر مالي للارتفاع أم أنه موجة عاطفية فقط؟ مثل هذا التقييم يقيك من الوقوع في فخ “فقاعة الترند” قصيرة العمر.

حذر خاص للمستثمرين الجدد: غالبًا ما يكون المستثمرون المبتدئون فريسة سهلة لنصائح مضللة على التواصل الاجتماعي، لافتقارهم للخبرة بالفرز. لذا إن كنت جديدًا، ضع دائمًا احتمالًا قويًا أن ما تقرأه قد يكون غير دقيق. يمكنك استشارة خبير مالي أو مرشد تثق به قبل اتباع نصيحة استثمارية قرأتها على الإنترنت. وتأكّد أن قراراتك النهائية هي مسؤوليتك وليست مسؤولية صاحب التغريدة أو الفيديو.

مخاطر وتأثيرات أوسع

 حذرت هيئات رقابية في الفترة الأخيرة من تنامي تأثير منصات التواصل على الأسواق وما يحمله ذلك من مخاطر على المستثمرين الأفراد. فقد وجدت هيئة الأوراق المالية الأوروبية مثلًا أن تفاعل المستثمرين عبر التواصل يمكن أن يؤدي إلى اندفاعات سعرية آنية وغير مبررة fundamentally، مما يرفع احتمالات تكبّد المستثمرين الصغار لخسائر إذا انساقوا خلف الموجة. كما أن هناك مخاوف من استغلال جماعي حيث يستدرج محترفون جمهورًا واسعًا عبر المنتديات لرفع سعر أصل ما ثم يبيعون هم في القمة (وهي نوع حديث من التلاعب المعروف بـPump and Dump). وبالتالي أصبحت الجهات التنظيمية تدعو إلى زيادة تثقيف المستثمرين حول فرز المحتوى الرقمي ومخاطر اتباع التوصيات العشوائية. وفي الوقت نفسه، لا يمكن إنكار أن التواصل الاجتماعي أضحى واقعًا جديدًا في الأسواق يتطلب من المؤسسات المالية أيضًا رصد ومواكبة نبضه دون اعتباره مجرد هراء. فبعض الدراسات وجدت أن معنويات تويتر مثلًا تحمل معلومات تنبؤية لحركة الأسعار على المدى القصير. أي أن الشبكة تعكس – وإن كان بصخب – شيئًا من الحالة النفسية للسوق التي قد تسبق التحرك الفعلي قليلًا.

خلاصة القول فأن منصات التواصل سيف ذو حدين للمستثمر. فهي تمنح وصولاً ديمقراطيًا للمعلومات وآراء متنوعة قد تكشف جوانب جديدة، لكنها في الوقت ذاته تعجّ بالضجيج والمعلومات المضللة. على المستثمر الفطن أن يستفيد منها بحذر: يتابع الأخبار العاجلة عليها ويستخدمها لأخذ لمحة عن معنويات الآخرين، دون أن يجعلها بوصلته الوحيدة. التحليل الهادئ والتحقق الدؤوب للمعلومات قبل التصرف هو ما يحميك من تقلبات المزاج الإلكتروني. في النهاية، لا تجعل الضجيج يصم أذنيك عن سماع الحقائق – تعامل مع ما تراه على السوشيال ميديا كتلميحات تحتاج تأكيدًا، وليس كيقين تتبعه دون تفكير. بذلك تستطيع استغلال سرعة وفرة المعلومات الحديثة دون أن تقع ضحية لجوانبها السلبية

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 74 مشاهدة
نشرت فى 29 أكتوبر 2025 بواسطة kenanaa-online

عدد زيارات الموقع

1,102