<!--بسم الله الرحمن الرحيم –
ورقة عمل قدمت للمهرجان الوطني للمسرح الفكاهي المنعقد في ولاية المدية – الجمهورية الجزائرية يوم 31/10/2009 دورة القدس عاصمة ابدية للثقافة العربية .
بقلم : كامل الباشا – القدس المحتلة .
"المسرح هو السحر الجميل
هذا الطفل النبي
شيخ الحكمة
فراغ الفراغ
الوعي الفراغ
الجسد الفراغ
الروح الفراغ
الفراغ الفراغ
المسرح تلك الخشبة الحصان
الفارس المغامرة
العاشق المعشوق
الفتنة الغموض
الحب الحبيب
الرعشة اللذة
الطير الفضاء
براءة الضوء
الطاقة المحبة
المسرح ذلك النهر العظيم
التناقض التوازن
الرحلة الاكتشاف
رقص الرياح ، لون المياه ، حورية البحر ، عمق المحيط ، شمس الليل قمر النهار .
المسرح ، هذا المذنب البريء ، التوتر الهدوء ، الألم اللذيذ ، الحزن الفرح ، البرد الحار ،الدفء القارص ، سواد البياض ، بياض السواد ، العتم المضيء .
المسرح ، هذا الشيء الدهشة ، الخارج الداخل ، الواضح الجهول ، المركب البسيط ، المتطرف الوسيط ، الساكن المسكون ، السكون الحركة ، النقطة المسافة الصمت الحياة .
المسرح ، هذا الدائم المستديم الهائم الحالم القريب البعيد الصغير الكبير الضيق المتسع ، المقيم المسافر ، عقل الجنون .
يعيش يظل يعيش
عاش المسرح والمسرحيون ".
يعقوب إسماعيل في 27/3/2006
هل نملك ، نحن الفلسطينيون ، حديثو العهد بالمسرح ، الرازحون تحت احتلال يحاول إزالتنا عن الوجود وإزالة كل اثر لنا لإثبات نظريته الاستعمارية الأوروبية التي تدعي أن:" فلسطين ارض بلا شعب لشعب بلا ارض" ترف الادعاء بملكيتنا الفكرية لنظرية في المسرح؟أم أن سعينا الحثيث لنفي تلك النظرية هو ما يدفعنا إلى المبالغة في توصيف ما نحاول إضافته من خلال تجربتنا المتواضعة ؟
لن أحاول في مداخلتي هذه أن ادعي امتلاك الحركة المسرحية الفلسطينية لنظرية من هذا القبيل ، كما أنني لن أحاول نفي وجودها ، بل سأحاول أن انقل من خلال استطراداتي وتتبعي لسيرة فنان فلسطيني - ادعى منذ ما يزيد عن عشر سنوات انه يؤسس لطريقة جديدة في الإخراج المسرحي وتدريب الممثل تستند إلى نظرية أطلق عليها اسم "الممر" وانه سيشرع في تدوين عناصر تلك النظرية ونشرها بمجرد أن تكتمل عناصرها ، ولكن المرض الذي داهمه وهو في سن اكتمال رجولته لم يسمح له بتلك الفسحة من الهدوء لتدوين ما كان يقول دوما انه قد توصل إليه أو انه على وشك الانتهاء من بلورته – سأحاول أن انقل واقع الحال كما عايشته وتتبعته ممثلا وتلميذا ومخرجا طوال هذه الحقبة من تاريخ حركتنا المسرحية.
بدا يعقوب حياته المسرحية هاويا من خلال المسرح المدرسي ، ثم من خلال ما يمكن أن نصطلح على تسميته بمسرح النقابات العمالية ( نقابة عمال الطراشة والدهان ) التي كانت تمارس نشاطها الثقافي بتوجيه سري من قبل التنظيمات الفلسطينية المسلحة على تنوعها ، بهدف توعية وتثوير الجماهير ضد الاحتلال وسلطاته القمعية ، ولاستقطاب عناصر جديدة يمكن فرزها من خلال تلك النقابات للمشاركة في العمل الثوري على اختلاف أنماطه . وقد تميزت جميع العروض الفنية في تلك الفترة بالمباشرة المستندة إلى الشعارات الثورية التي تطرحها تلك التنظيمات ، وتبنت من ناحية الشكل أسلوبا يقلد المسرح المصري ، المعروض تلفزيونيا ،إضافة إلى ما اختزنته الذاكرة الفلسطينية عن عروض الفرق المسرحية المصرية التي اعتادت زيارة فلسطين أيام الانتداب البريطاني ، وفي مقدمتها فرقة يوسف وهبي وجورج ابيض التي اعتمد أداؤها الميلودرامية والمبالغة في التشخيص.
وفي العام 1978 شارك يعقوب في تشكيل واحدة من أولى الفرق المسرحية الفلسطينية ( فرقة مسرح النجوم ) بمدينة رام الله ، وبدأت تدريباتها على مسرحية لعبة الحب والثورة للكاتب السوري رياض عصمت ، ومن هنا كانت بداية جديدة ، دفعت العديد من هواة التمثيل للتفكير الجدي بدراسة المسرح أكاديميا ، وكان يعقوب احدهم حيث غادر فلسطين بعد الانتهاء من دراسته الثانوية إلى الاتحاد السوفيتي وهناك بدأت تتبلور لديه فكرة احتراف المسرح والإيمان بكونه احد أهم الدعائم الهامة والضرورية لنهوض أي امة .
بعد عودته من الاتحاد السوفيتي بدا مسيرة طويلة من الاحتراف ، كانت أولى خطواتها المشاركة في تأسيس مسرح الجوال ، ثم مسرح الرحالة الذي قدم من خلاله جميع أعماله المسرحية :
<!--الدكتاتور – لعصام محفوظ – 1985
<!--الرجال لهم رؤوس – لمحمود دياب – 1985
<!--المزبلة – لحسين ألبرغوثي – 1986
<!--الكاتب والشحاذ - ؟ -1987
<!--الرجال لهم رؤوس – مرة أخرى – 1990
<!--قضية المدعو (س ) – عن رواية الحقيقة لعبد الصاحب ابراهيم – 1990
<!--امفرشطورية فلفشتيكا – عن الدكتاتور لعصام محفوظ – 1993
<!--قصة حديقة الحيوان – لادوارد ألبي – 1995
<!--الشيء – عن القبعة والنبي لغسان كنفاني – 1997
<!--أبناء القمر – تأليف بالمشاركة مع كفاح فني واكثم برغوثي – 2002
<!--الممر – تجريب تطبيقي لنظرية الممر – 2005
<!--الظل – عن القبعة والنبي لغسان كنفاني – 2006
<!--إلى جانب إنتاج ما يزيد عن 70 لوحة تشكيلية
<!--ديوانان شعريان : أغنيات سيدي حركش ، وحلم الصبي .
<!--إنهاء الصياغة النهائية لنصه المسرحي (بزر بطيخ ) قبل وفاته بعشرة ايام ، حيث توفي في 16/9/2008 عن 49 عاما.
<!--
رائد المسرح التجريبي في فلسطين ( الجنرال ) :
يقول يعقوب في تقديمه لفرقة الرحالة في إحدى مطبوعاتها :( تأسس مسرح الرحالة في أواخر عام 1984 بمبادرة الفنان يعقوب إسماعيل ، بخلفية إنشاء مسرح محترف ومتفرغ للعمل المسرحي ، وفي ظل الظروف الصعبة التي كانت تعيشها الحركة المسرحية الفلسطينية وما زالت ، عايش مسرح الرحالة بدوره جميع تلك الظروف الصعبة معتمدا على امكاناته الذاتية في الإنتاج وفي العملية الفنية ، محاولا شق طريقه الخاص به ، غير مقلد لأحد ، وغير منفذ لما هو معروف ، وإنما طريقا خاصا ومبدعا.... بقينا وسنبقى مصممين على انه لا يمكن أن تقوم قائمة لمسرح متبلور ومبدع وذو هوية خاصة به ، طالما لم ينهج هذا المسرح أسلوبا إبداعيا خلاقا وخاصا به ، معتمدا على التجريب والابتكار واعتماد الذاتي في أسلوب العرض المسرحي ) .
ولعل أدائه لدور الجنرال في مسرحية الدكتاتور التي أخرجها ومثلها مع الفنان أكرم المالكي في بداية عمله ألاحترافي هو ما دفعه فيما بعد إلى أن يطلق على نفسه لقب الجنرال ، وكما يتدرج الجنرال في الرتب العسكرية حتى يصبح جنرالا تدرج يعقوب بأعماله على مدى 24 سنة .
كانت الدكتاتور عملا تجريبيا أوليا استخدم فضاء العلبة الإيطالي ليقدم للجمهور الفلسطيني نصا عبثيا لم يعتده من فنانيه ، فاعتبره مداعبة لطيفة تحاول السخرية من السلطة بأسلوب مموه غرائبي بعض الشيء ولكن يمكن تبريره بالحاجة إلى مهاجمة السلطة دون تعريض النفس للأذى ، تلتها الرجال لهم رؤوس وبنفس الأسلوب تقريبا مع اهتمام اكبر بجمالية شكل العرض المسرحي ودراسة متوازنة ودقيقة للمساحة واللون والتشكيل بحيث تتعدد الأمكنة على المنصة متجهة صوب التجريد إلى حد ما ومحافظة في ذات الوقت على واقعية الحدث والأداء ، مع تطعيم ( تزويق ) ذلك ببعض الحركات والإيماءات التجريبية الغرائبية كالتكرار الحركي الرتيب وأداء بعض القصائد المغناة من منطقة الاوركسترا ( بين المنصة والجمهور ) أثناء أداء مشاهد حركية تم بنائها للتعبير عن الحالة النفسية للشخصيات .
وكما يتعرض بعض الضباط أحيانا لتنزيل الرتبة كانت المزبلة إحدى المعارك التي خاضها الجنرال منفردا فخسر إحدى نجومه ، فبعد أن انتهى حسين ألبرغوثي من صياغة النص عمل يعقوب منفردا على أدائه وإخراجه فكان أول مونودراما فلسطينية احتل فيها الممثل مساحة الجمهور فكانت قاعة العرض هي المزبلة وهي مساحة العرض وكان التعرض للجمهور واحتلال مساحته تحديا غير مسبوق نفر منه الجمهور وخسر الجنرال المعركة .
محطات التألق والنجاح الفني :
قضية المدعو ( س ) :
من هنا بدا يعقوب البحث في فضاءات مغايرة لفضاء العلبة الإيطالي ، فاختار المسرح الدائري مستخدما المنصة الأساسية كقاعة عرض وصالة جمهور ، الدائرة تتوسط المنصة والجمهور يحيطها ويدخل في إطار فضاء العرض كجزء منه ، تغطيه شبكة كبيرة تعلو الممثلين والجمهور معا ، أداء الممثلين يلتزم الحركة طوال الوقت بزاوية مكتملة 360 درجه ، وتدريبات يومية تستمر أربعة اشهر مع اثنين من الممثلين على نص يتحدث عن رفض الموت والإصرار على الحياة وسط اضطراب واختلال شديدين ولغة نصية مغايرة للغة التي اعتادها الجمهور تعتمد الاختزال والتكثيف والشاعرية العالية :
" أخيرا راح ينتهي كل شي ، الطفولة ، الهارمونيكا اللي ماتت فجاه ، شباك الغرفة كان يطل باتساع الشارع ، كنت تقعد عليه ، أتدلي رجليك ، تتطلع على اللي رايح واللي جاي ، تغني وتنفخ في الهارمونيا "
إن القدر من النقاش والجدال الذي أثارته هذه المسرحية- سواء على مستوى الشكل أو المضمون أو أسلوب الطرح ولغته والجرأة في تناول موضوع فلسفي عميق دونما التطرق المباشر للواقع اليومي- يفوق ما أثارته أي مسرحية أخرى ، فالعرض كان مفاجأة بكل المقاييس ، والجمهور كان مبهورا بما يتتبعه في دائرة العرض والمخرج كان منشغلا بمتابعة ما أحدثته الدائرة من اثر وما أنجزه من خلال تجربة هذا الفضاء الصعب ، ففترة التدريبات تركزت في البحث حول الدائرة والامكانات التي تتيحها والعراقيل التي تضعها في طريق إنجاز العرض ثم الإنجازات العظيمة التي أنتجها تجاوز تلك العراقيل .
في جريدة القدس بعددها الصادر في 13/12/1990 يقول الصحفي و( الناقد ) عبد الحافظ أبو سرية :
" الحركة المسرحية الفلسطينية بخير ، إنها تسير راسمة طريقها بوضوح ، فرغم الإمكانيات القليلة ، والمعوقات الكثيرة التي تحد من عملية تطور المسرح إلا أننا نجد فريقا من الفنانين يريد أن يخدم ويطور هذه الحركة ، عن طريق التجريب ، واستحداث أساليب وأشكال غير تقليدية ، تخدم الحركة المسرحية الفلسطينية . وإذا كان التجريب في المسرح يعني أن يغزو الفنان المجهول ، فقد سجل لمسرح الرحالة هذا السبق في الغزو التجريبي في الشكل والمضمون المسرحيين" .
وورد في النشرة الصادرة عن مركز الفن الشعبي في كانون أول 1990 ما يلي :
" ولقد أثارت هذه المسرحية ( قضية المدعو – س ) تساؤلات كبيرة حول التطورات الجارية على المسرح الفلسطيني ، وأفاق الاهتمام المتزايد لدى بعض المسرحيين في تطوير الأشكال الفنية المطروحة مع ضمان الحفاظ على حالة من التواصل والتفاعل الفكري والوجداني مع الجمهور المحلي "
بعد هذه المسرحية التي حظيت باهتمام كبير إعلاميا وجماهيريا بدا يعقوب بالحديث عن بحثه وتجريبه بطريقة يتضح من استقرائنا لها أننا أمام مخرج بدا يتمكن من أدواته ويثق بقدرته على الوصول للتميز والتفرد ويبحث بعمق وبوعي شديدين عن أسلوب خاص وطريقة متفردة .
يقول في مقابلة مع جريدة القدس بتاريخ 27/12/1991 أجراه معه احمد عديلة :
" أنا أحاول أن اختط لنفسي طريقا فنيا خاصا من خلال محاولة ابتكار أو تجريب أساليب فنية وطرق أبواب وسبل لصياغة أسلوب جديد للعرض المسرحي ، باختصار أحاول البحث عن تراكيب وأشكال جديدة من خلال اللغة المسرحية وعناصرها المختلفة لإيجاد ما اسميه طبقي الخاص ، الذي عندما يشاهده الجمهور يشتهيه ويتذوقه بطريقة خاصة : .
ويقول احمد رفيق عوض في الطليعة عدد شهر 12-1991 :
" ويعتبر الفنان يعقوب إسماعيل نفسه ينتمي إلى المدرسة التي سوف يكتشفها بنفسه ، فهو يقول : أنا لا اعرف نفسي بعد ! ويضيف بان هذه المدرسة التي يتحدث عنها ستتبلور من خلال التجربة ، فميول الفنان ونهجه الفني يتضح من خلال العمل الفني ونمط اختيار النص وأسلوب العرض المسرحي والقضايا التي يواجهها المسرح ...." ويضيف " ... وفيما يتعلق بالشكل الفني فان يعقوب إسماعيل يرى أن الخوض في التجارب المسرحية أو ما يطلق عليه المختبر المسرحي والعمل على إيجاد صيغ وأشكال للعرض تخرج عن المألوف والتقاليد والمدارس الكلاسيكية حتى لا تكون هذه الأعمال الفنية مجرد استهلاك لأنماط وأساليب معروفة، إنما يجب أن يشعر الفنان انه خلق وطور شيئا جديدا وامتلك شخصية خاصة مستقلة ... بمعنى آخر أن يكون الأساس عند الفنان هو البحث والتطوير تماما كالعالم في المختبر "
وتقول د. الهام أبو غزالة في مجلة الكاتب ، العدد 138/1991 : " رأينا يعقوب يحاول فتح النص على مستقبليه وذلك بإدخالهم بين طياته ( إدخالهم من الباب الخلفي للمسرح ، اجلاسهم على خشبة المسرح وليس في صالة المشاهدين ، اجلاسهم في دائرة حول الدائرة التي يتحرك فيها (س) ووضعهم داخل إطار من الشبك " .
في الفترة الواقعة بين إنتاج هذه المسرحية والتي تلتها أود اقتباس تعليق للصحفي على الجريري نشر في مجلة الصدى في 10/9/1992 يمكن أن يساهم في توضيح اثر هذا الأسلوب على المتتبعين للمسرح ، حيث يقول ضمن إحدى مقالاته تعقيبا على مشاهدة يوم تدريبي للمخرج يعقوب إسماعيل :
" كان يمكن ان أقع أسير واحدة من فرضيات الإبداع الجمالي لو لم اعبر مرحلة من التجريب الذاتي في النقد،ولقلت في نفسي إن كل الذي كتب عن الجمال وسيمولوجية النص كان هوسا في اللغة وتلاعبا في الألفاظ ، يومها شاهدت للرحالة ورشة تجريبية في المسرح ، فأدركت أكثر أن النموذج ، الموديل ، الانطباعية والمباشرة وغيرها انطوت جانبا أمام إبداع حر نفض عن يديه غبار النظريات وداعبت حركاته خشبة المسرح بكل ما لديه من طاقات وإبداعات ، ولك أن تقول في هذا النمط الإبداعي أشياء أخرى لم تذكرها مقاييس الحداثة وقواعد الكلاسيكية " .
امفرشطورية فلفشتيكا :
فضاء العرض هو قاعة المشاهدين ، وجلوس المشاهدين يكون على المنصة وممثلان اثنان يملئان فضاء العرض لمدة ساعتين ونصف في نص ملغز يتحدث عن الثورة والقمع دونما الوصول إلى نتائج ، وانبهار اشد مما سبقه لدى الجمهور بهذه المغامرة المثيرة والاستخدامات الغير متوقعة لكل العناصر الأصلية التي تشغل هذا الفضاء وباستخدام بعض الإكسسوارات .
مساحة التجريب هنا كانت المربع ، زواياه القائمة ، خطوطه المستقيمة ، وانكسارات أدراج القاعة ، كلها تشكل مفتاحا لأداء الممثل ولاختيار الإضاءة المناسبة والمقطوعات الموسيقية التي تنسجم مع كل تلك العناصر ، تمرد وجنون وتكسير لكافة العناصر الكلاسيكية للبناء الدرامي بنص يحتمل هذه المغامرة ، وإعادة صياغة كسابقتها تتبنى الاختزال والتكثيف . لوحات فنية تزاوج بين السريالية والتجريد وتحفز العين والعقل على الاشتغال طوال مدة العرض .
يقول محمد زحايكه في عدد جريدة القدس الصادرة في حزيران 1993 : " إن الكتابة عن هذا العمل المسرحي كالسير في حقل ألغام ، لان الكتابة عنه ليست سهلة كما خيل إلي ، فهذا العمل يجب أن يتصدى له القادرون على سبر أغوار المسرح ومدارسه وفنونه المتشعبة . ويبقى لي أن أسجل ان عملا كهذا لا بد أن ينجح ويحقق الكثير كونه قائم على الجديد والقوي والمثير ، وهذا ما نريده وما نحبه ونتمناه في مسرحنا العتيد "
ويقول احمد رفيق عوض في القدس بنفس الفترة :
" ولإنجاح المسرحية ، أو لإيصال مضمون من هذا النوع ، عمد المخرج يعقوب إسماعيل الى الاستعانة بتوظيف تكنيك بصري وسمعي جديد ، واستعان بقدرات الممثلين بحيث يوديان نصا يقوم أصلا على الهمس الداخلي والصوت الصامت "
ويقول مراقب مسرحي في عدد القدس الصادر في حزيران 1993 : " إنها لعبة ، مباراة ، مبارزة ، سباق ، لا فائز فيها على الإطلاق ، لأنها خيال ووهم ومحض تسلية لا تنتهي بنتيجة ، بل تتحول من شكل إلى آخر وبإيقاع يحطم التيمة الموسيقية ويخربش الإيقاع الموسيقي كما يحدث في موسيقى سترافنسكي ، فما إن تشعر بأنك على وشك الانسجام مع إيقاع المشهد حتى تكتشف انه قد تم كسره لدفعك للبدء من جديد ، وهكذا حتى نهاية المسرحية ، ولكن في النهاية تخرج بمجموعة هائلة من الإيقاعات المتضاربة التي تبني بتضاربها ذاك سيمفونية رائعة لا تمل الأذن من سماعها " .
ويتوالى بعد ذلك التجريب في فضاءات أخرى : الممر في قصة حديقة الحيوان ، حيث البحث في خيال الممثل داخل الدائرة ( بين دائرة الخيال الضوئية ، وممر منطقة التمثيل ) ، ثم الشيء والعلاقة بين الدائرة والمربع وتكوينات السلوويت بتنوعاتها ، ثم إدخال الدائرة إلى المربع في أبناء القمر والبحث في تقنيات أداء الحكواتي في الإلقاء المباشر والخطابة على المنصة في إطار تجريدي يحمل لغة شعرية عميقة مطعمة برموز ميثولوجية أسطورية ساحرة واختزال لكافة عناصر الخشبة باستثناء الممثل والملابس والإضاءة ، إلى التجريد المطلق في الممر والاقتصار على الممثل مجردا في فضاء يخلو من النص اللغوي ويرتكز على الموسيقى والرقص الأدائي .
عوالم كثيرة خاضها هذا الفنان العنيد والمبدع والمكابر إلى حد المضي قدما في الابتعاد عن لغة يستطيع الجمهور أن يتماشى معها ويفهم مكوناتها ، تجريب من اجل التجريب أو فن الاستمتاع بالطريق دونما التفكير في الجهة التي تؤدي إليها تلك الطريق .
وتتابع التعليقات الصحافية مرتبكة أمام هذه السرعة في الإنجاز ، محاولة التمسك بماء الوجه وادعاء الفهم لما يحدث ومستخدمة تعبيرات وتركيبات لغوية لا ادعي فهمها كما لا ادعي فهم كل ما حاول يعقوب إنجازه رغم استمتاعي بكل ما أنجزه .
يقول فاتح عزام في جريدة القدس عدد أكتوبر 1995 معلقا على مسرحية قصة حديقة الحيوان :
" تجردت المسرحية من كل ما هو متوقع ومعتاد فيها ، فاختفى المنتزه وأصبح أي مكان وكل مكان ، وبأبسط إضاءة ممكنة ، واختفى الزمان والتسلسل الزمني ، وتداخل النص بعضه ببعض ، ودخلت عليه الحركات والرقصات والموسيقى ووصلت أحيانا إلى سيمفونية حركة وصوت وكلمة، حتى الشخصيات المحددة اختفت ، إذ بقيت بدون أسماء ، كل منها قد يكون الآخر إلى درجة أن الممثلين يتبادلون الأدوار في بعض الأحيان " .
ويقول د. حسين البرغوثي في عدد الأيام الصادر في 4/8/1999 عن مسرحية الشيء :
" هذا الشيء الغامض ، المدهش ، الجميل ، والمستمد من حيث الفكرة من القبعة والنبي لغسان كنفاني ، عمل تجريبي يستحق أن يمثل فلسطين في المهرجانات الدولية .... ويتابع : مركز الدراما يعتمد على الإضاءة وحركة الأجساد والموسيقى ، أي على رؤيا بصرية – سمعيه ، تصل إلى حد من التجريب قد يسمح بالاستغناء عن النص اللغوي ، الذي انضغط الى حده الأدنى ، حتى ولو لم نسمع النص يكفي ما نراه وما نجربه ،.... في الإخراج يبدو أن يعقوب إسماعيل شذب وكثف تجربته السابقة كلها ."
ويتابع يعقوب خطواته معتمدا على ذاته ، يعاني التهميش والتجاهل والإنكار من المؤسسة الرسمية التي كان من واجبها تبني هذه الموهبة العظيمة والأخذ بيدها ووضع كافة الامكانات الضرورية لتطوير البحث في هذا المجال تحت تصرفها ، يردد معنى ما كتبه في جريدة البلاد أثناء عملة محررا للصفحة الثقافية في العدد الصادر في 4/1/1996 :
" طوال سنوات الاحتلال ، تمت بالصدفة أو بالضرورة ، عملية تغييب قضية الثقافة ، وتم التعامل معها من قبل الوعي السياسي والمؤسسات السياسية بطريقة هامشية وفوقية ، وتحت حجج وتبريرات لها أول وليس لها آخر ، كأولويات المرحلة ، والقضية السياسية ، ومرحلة التحرر الوطني ومقاومة الاحتلال .
وها نحن الآن تقريبا مقدمين على مرحلة جديدة من حياة شعبنا ، والمؤمل منها زوال الاحتلال ، ولكن الوعي السياسي الفلسطيني يعمل بإصرار على تكريس احتلال آخر ضد الفكر المنفتح الواعي لمتطلبات وشروط بناء المجتمع والإنسان المعاصر والمثقف والسليم ...." ويضيف :
" والخوف كل الخوف أن يرحل الاحتلال ويظل الاختلال ".
ويقول في مقالة أخرى بتاريخ 25/1/1996 :
" ما بين القيمة الأصلية والجوهرية للفن ، وبين الادعاء بجماهيريته ، ينحسر الصالح وينتشر الطالح ... " ويضيف :
" الجمهور الطيب هم أهلنا ويحتاجون منا فنا أصيلا ونقيا ونظيفا يرتقي بهم وبذوقهم وزمنهم إلى مقامات الإبداع الفني والفكري والثقافي والى ذلك المستوى الراقي والرفيع الذي يستحقونه .
نظرية الممر :
لا املك شرف ادعاء الاحاطة بوعي يؤهلني للتنظير لما كان يحاول يعقوب أن ينجزه ، ولكني إكراما لصداقتنا التي امتدت على مدى عشرين عاما ، واعتمادا على تجربتي الشخصية كممثل في خمسة من أهم أعماله ، والعمل إلى جانبه كمساعد مخرج في مسرحية الشيء ، واستخلاصا لحوارات بيني وبين بعض الزملاء الذين عملوا معه على مدى تلك السنوات سأحاول إيصال فهمي الخاص واستنتاجاتي التي اعتبرها حصيلة تجربتي الذاتية في فهم شخصية يعقوب وإنجازاته المسرحية .
ولكني قبل ذلك أرجو السماح لي بإدراج اقتباس قبل أخير - فالأخير سيكون ليعقوب – كتبه الفنان ماهر دريدي كجزء من رد على طلبي منه لتدوين شهادته في هذا الإطار ، وهدفي من هذا الإدراج إبراز مدى الحب والتقدير الذي يكنه تلامذة يعقوب لأستاذهم ، يقول ماهر :
" لا شك أن خوض التجربة المسرحية مع مسرح الرحالة هو بحد ذاته مغامرة تستحق أن تتخذ قرار جدي وهو الخطوة الأولى للعبور إلى عالم مسرح الرحالة . إذن المطلوب منك في الدرجة الأولى أن تتهيأ لدخول التجربة وهذا يتطلب قدرتك على تحقيق تحولات نفسية ملازمة في حياتك الشخصية بعيدا عن عالم المسرح ، وخاصة أن تقنيات مسرح الرحالة هي تقنيات عميقة ومعقدة قائمة على مفهوم التحول النفسي في شخصيتك الإنسانية وهذا يعني العمل على عناصر شخصيتك الإنسانية واكتشاف عوالمها عبر الغوص في أعماقها واكتشاف مكامن القوة والضعف والخلل إن وجد ، وبالتالي أنت تتحدث عن تقنية علاجية إن جاز التعبير تهدف بالدرجة الأولى إلى سمو الذات وتنمية القدرات الذهنية والنفسية والمسرحية بكل تأكيد" .
نظرية الممر كما افهمها :
لعل في القصة التي يرويها ستانسلافسكي ، في كتابه حياتي في الفن ، حول القروية التي حاول استخدامها لأداء احد المشاهد في مسرحية سلطان الظلام تشكل لنا مفتاحا مناسبا لفهم نظرية الممر ، ذلك أن محاولات ستانسلافسكي وطاقمه المتكررة لجعل تلك العجوز جزءا من العرض المسرحي باءت بالفشل ، فالبون شاسع بين أن تكون حقيقيا على الخشبة ، وبين أن تدعي انك حقيقي ، فذان عالمان مختلفان لكل عالم قوانينه الخاصة به .
واغلب الظن أن جميع تجارب يعقوب اتجهت نحو إيجاد طريقة تمكنه من خلق عوالم مختلفة لكل عمل مسرحي جديد عن طريق خلق مجموعة من القوانين والتقييدات ووضع الممثل في إطارها دون ما حاجة إلى الإغراق في الشرح أو التحليل أو التفسير .
نقطة البداية هي الفكرة أو النص ، وما أن يتم ذلك حتى يتم الإعلان عن البدء بعمل جديد ، يجتمع الطاقم ، ولا ضرورة ملحة لان يكون أفراده من الحرفيين أو المجربين أو التجريبيين ، يكفي أن يملك الجميع رغبة في خوض تجربة جديدة لاكتشاف عالم جديد ضمن إطار وتقييدات يتم تحديدها فيما بعد ، ثم يتم اختيار الفضاء ، ثم تبدأ التدريبات : سنجرب اكتشاف المربع ! يصرخ الجنرال ، ما معنى ذلك ؟ يتسائل الممثلون ، لا اعلم لو كنت اعلم لما أحضرتكم لمساعدتي ! اكتشفوا المربع ! ويرسم لهم مربعا وهميا في فضاء المكان الذي تجري فيه التدريبات .
الممثلون بملابس التدريب السوداء والفضاء مفتوح والموسيقى تصدح ويبدأ التمرين ، الممثلون حائرون يتبادلون النظرات ، يبدأ الهمس ، الكلام ممنوع ، يصرخ الجنرال ، ترتسم على الملامح علامات افتعال الجدية ويبدأ الجميع بالتحرك ، وتمر فترة طويلة ، قد تستغرق شهرا أو شهرين من التدريب اليومي الشاق ، قبل أن تبدأ الحركات والتشكيلات بالظهور ، ويبدأ الإيقاع الموسيقي بالتأثير على الممثلين ، ومع مرور الوقت وبصبر يتجاوز المألوف عند المخرجين وغير المخرجين ، تبدأ الحركات الإيقاعية بالتبلور ودونما تدخل من احد ، وبمرور الوقت يتم خلق أجواء من التناسق والانسجام والتفاعل ، ويكتشف الممثلون معنى الفعل ورد الفعل والحدث وتطوره ومراحل نموه ، البداية والنهاية ، تنوعات الإيقاع الخارجي والداخلي ، العلاقة مع المساحة وفضائها الأفقي والعامودي ، العلاقة مع الذات والآخر ، يتم كل ذلك دون الخوض في تنظيراته أو الحديث عن تفصيلات ما حدث اليوم أو ما الذي يفترض بنا فعله غدا ، أو أين نحن الآن من المسرحية ؟
وبعد الوصول إلى درجة عالية من الانسجام بين أعضاء الفريق يوزع النص اللغوي المختزل ، وعلى الممثلين دمجه بما تم التوصل إليه وعليهم إحداث التغييرات اللازمة والضرورية ، على كل منهم أن يكتشف شخصية جديدة لا علاقة لها بشخصيته ، وان يكتشف كافة أفعالها ، وان يكونها طوال مدة التدريب ، عليه أن ينسى كليا من هو أو من يكون ، وان ينخرط ويتوه داخل الشخصية التي أنتجتها التدريبات ، وبأقل قدر ممكن من ملاحظات المخرج أو تعليقاته ، أحيانا كان يصرخ : غلط ، اشربوا شاي ! ويوقف التمرين ، وأحيانا يدخل إلى فضاء اللعب ليشارك ممثليه حياتهم الجديدة ، فيغير اتجاه الفعل على المنصة بذكاء وحرفية تدهش الجميع .
بعد فترة تدخل الإضاءة وتتحدد ملامح الموسيقى الخاصة بالعمل ، وإطار الميزانسين ، وسط عالم تجريدي ، يعتمد البساطة والتقليص في اختيار كافة عناصر العرض ، والتركيز على الممثل كأهم عنصر من عناصر العرض المسرحي.
انه إذا يخلق عالما جديدا بكافة مكوناته وتشكيلاته السمعية والبصرية لا يشبه شيئا سوى نفسه ، يوحي بوجود هذا العالم ويدخل الممثلين فيه ، يستخرج مكنونات اللاوعي الفردي والجماعي ، المخزون الفكري والحركي ، ويوظفه في خدمة العرض ، يبحث عن جديد ، مثير ، خاص ، يمكن أن يشكل هوية لمسرح فلسطيني ، يمكن أن يسمى مسرح أو طريقة أو نظرية يعقوب إسماعيل ، الذي يعي جيدا مجموعة القوانين والافتراضات البسيطة التي يقيد بها الممثل لتدخله في ممر خاص يضطر فيه أن يبدع طريقته الخاصة للخروج منه إلى عالم جديد.
وفي الختام أعود ليعقوب في لقاءه مع احمد رفيق عوض المنشور في جريدة الصدى بتاريخ 18/2/1993. حيث يقول :
" عند الحديث عن الفن نضع نقطة ، وعند الحديث عن الواقع نضع نقطة . الفن والواقع ليس جملة واحدة ، أنا فنان ولست واقعا ، أنا اهدم الواقع كما هو موجود على خشبة المسرح ومن ثم أجرب بناء شيء جديد ، الفن محاولة لصياغة رؤية وصورة وحلم جديد ، ومحاولة لاقتحام عالم آخر ، يجب أن تضرب الباب للخروج من غرفة الواقع ، وإذا استطعت عليك أن تحطم جميع جدران الغرفة لتستنشق الهواء .
أنا اترك الواقع للصحافيين والمؤرخين والسياسيين ، لا حدود ، لا سدود ، لا قيود ونعم للأجنحة "
يعقوب إسماعيل .
كامل الباشا
القدس المحتلة 21/10/2009
ساحة النقاش