بستان الأدب العربي

مجلة لنشر كل أنواع الأدب العربي من شعر ونثر وقصة ومقالات وخواطر

تثاؤبه الدائم وجد له صدى في " الكاراجات " التي ما تزال ناعسة وهي تكاد تخلو ، وقد تجمّع هنا وهناك بعض من أصحاب الباصات و " معاونيهم " يشربون الشاي مع الركاب القلائل ، إنتظاراً لامتلاء المقاعد وبدء رحلة الدروب المتشعبة . 
ها هي الأصوات تتعالى مع وصول البائعين : " كعك" ، " سجاير " ، " يانصيب " ، " طوابع " ، " علكة " ...منتقلين من مكان إلى آخر وكأنهم صدى لصراخ معاوني أصحاب الباصات في عدّهم العكسي : إثنين ، إثنين ونمشي ! 
صعود السائق وبدؤه بالتزمير كانا بمثابة إشارة الإنطلاق ، إذ بدأ المعاون يصيح : " واحد، واحد ، واحد "، ثم يضرب ضربتين على الباب من الخارج ليقفز بعدها إلى الداخل قائلاً للسائق : " قول ألله " ، وعلى عبارة " يا مسهّل الأمور يا ألله " الخارجة من كل الأفواه يخرج الباص إلى زحمة المدينة .

يجلس " الحاج " قربه وتفوح من ثيابه رائحة عطر الورد ، وهو يفتش في جيوبه عن سبحته العاجية قبل أن تنتظم في طقطقاتها : 
- الشاب غريب ؟ 
- نعم يا حاج . 
- أهلاً وسهلاً . 
ثم ينتقل الحاج إلى الكلام مع السائق : 
- كيف الغلّة اليوم ؟ 
- بركة ألله !
ثم مخاطباً الشاب : 
- إنه ابن ابني ! 
- إسم الله ، كم ولداً عندك ؟ 
- صبي لألله ! 
- ولد واحد ؟ 
- الحمدلله ابني " جابر " عنده من امرأته الأولى أربعة صبيان ، و" بنيّة " واحدة سمّيتها " حمدة " .
الشاب يلاحظ أن محدّثه قليل الإهتمام به ، فهو يقطع أنفاس السُبحة ، ويوقف كلامه كلّما توقّف الباص . 
- عندي باصان يقودهما أكبر أحفادي بإشرافي ، منذ أن عشق ابني إمرأة من المدينة ولحقها ، تاركاً لي ، ولأمه ، همّ زوجته وأولاده ...وبعون الله أمورنا جيدة .
- وأنتَ يا حاج ؟ 
- لقد كنتُ متزوّجاً قبل زوجتي الحالية . 
- وأين هي الآن ؟ 
- لقد ذبحتها ! 
- شو ؟ 
- ذبحتها ... 
ووجد الشاب نفسه في مأزق لا يسعه التخلص منه إلا بدفعه إلى الأمام : 
- وكيف ذبحتها ؟ 
- بالسكين . 
- بالسكين ؟ 
- هي أرادتْ ذلك .
- لا أفهم ! 
- صدّقني ، هي أرادت ذلك ، ومع هذا فأنا حججتُ لها مرتين ، كي يغفر لها رب العالمين ، وفي كل عيد أضحّي وأوزّع الأضاحي عن روحها ، ومع هذا فهي تأتيني في المنام مكسورة الخاطر ...
- لم أفهم شيئاً يا حاج . 
- كانت وحيدة عمّي ، رحمه الله ، وكانت تكبرني بحوالي العشر سنوات ، حين فاجأت الجميع باختيارها لي من بين كل شباب العشيرة عندما توفي عمي ، والدها ، وقد تقدّمتْ هي في العمر من غير أن تقبل بأن يشاركها رجل ما حياتها ويدير أرزاقها ... وهكذا إلى أن جاء يوم إجمعتْ فيه العشيرة على وجوب زواج " حمدة " من أحد أبناء عمومتها .
- عادات عشائرية ؟ 
- أبلغوني إختيار حمدة لي ، لأنتقل بعدها في زفّة مهيبة من بيتنا إلى بيت عمي الذي كانت امرأة عمي قد أخلته لنا ، وسط غيرة الكثيرين مني .

الباص يتهادى كهودج لكثرة الحفر في الطرق الفرعية التي سلكها . 
- سنصل قريباً ؟ 
- أهي المرة الأولى التي تأتي فيها إلى ديارنا ؟ 
- نعم ، ولكن 
فقاطعه الحاج :
- لقد غِبتُ عن هذه الديار فترة طويلة ...
- هل سافرت ؟ 
- " يا ليتَ ذلك، إذ لم يمضِ على زواجي من إبنة عمي شهر من الزمان حتى افتقدتها يوماً ولم أجدها، حتى جاء مَنْ ينبئني بهروبها مع رجل آخر .
لقد فوجئتُ كثيرا لأنها لم تُرِني ذلك ، والألسن تتناقل قصة حبها للآخر ، وفوجئتُ أكثر وقد أضحيتُ رجلاً عليه أن يغسل عاره بيده ، بعدما أهدرتْ عشيرتنا دم حمدة ودم الرجل الذي هربت معه ... " النار ولا العار !!! "
ثم جاءت إمراة عمي ، والدة حمدة ، تتوسّلني ، وتتململ عند قدميّ وتستحلفني ، برحمة عمي ، أن أُبقي إبنتها حية ، خاصة أن عمي ، رحمه الله ، كان قد لاحظ ميل ابنته إلى ذاك الرجل ، ووعد " أم حمدة " بإيجاد حل لها مع أولاد إخوته ...
يومها خرجتُ من هذه الديار ، متتبعاً الأخبار التي راحت تلاحقني ، ولم يطلْ ضياعي ...
إيه ... لقد قتلتُ الرجل " بمديّتي " ، وأمرتُ حمدة أن تعود معي ، لكنها طلبتْ مني أن أذبحها .

ماذا أفعل لها ؟ فأنا ، ومنذ خروجي من السجن ، أضحّي لها وأترحّم عليها ، وأبكيها مثلما بكيتُ وأنا أرجوها أن تعود معي ، وهي ترجوني أن أذبحها ! " .
وقبل أن ينهض الحاج مودعا ، وقد ترقرقتْ عيناه بالدموع ، قال : 
- ربي لم يغفر لها خطيئتها بالرغم من كل محاولاتي ، فماذا أفعل حتى ترتاح روحها ، ويطمئنّ بالي عليها ؟

----- من مجموعتي القصصية " المحطة " ، الصادرة عام 1995 -----

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 176 مشاهدة
نشرت فى 15 سبتمبر 2016 بواسطة jousryeleow

بستان الإبداع العربي

jousryeleow
مجلة تهتم بالأدب العربي ورعاية المواهب »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

171,906