تثاؤبه الدائم وجد له صدى في " الكاراجات " التي ما تزال ناعسة وهي تكاد تخلو ، وقد تجمّع هنا وهناك بعض من أصحاب الباصات و " معاونيهم " يشربون الشاي مع الركاب القلائل ، إنتظاراً لامتلاء المقاعد وبدء رحلة الدروب المتشعبة .
ها هي الأصوات تتعالى مع وصول البائعين : " كعك" ، " سجاير " ، " يانصيب " ، " طوابع " ، " علكة " ...منتقلين من مكان إلى آخر وكأنهم صدى لصراخ معاوني أصحاب الباصات في عدّهم العكسي : إثنين ، إثنين ونمشي !
صعود السائق وبدؤه بالتزمير كانا بمثابة إشارة الإنطلاق ، إذ بدأ المعاون يصيح : " واحد، واحد ، واحد "، ثم يضرب ضربتين على الباب من الخارج ليقفز بعدها إلى الداخل قائلاً للسائق : " قول ألله " ، وعلى عبارة " يا مسهّل الأمور يا ألله " الخارجة من كل الأفواه يخرج الباص إلى زحمة المدينة .
يجلس " الحاج " قربه وتفوح من ثيابه رائحة عطر الورد ، وهو يفتش في جيوبه عن سبحته العاجية قبل أن تنتظم في طقطقاتها :
- الشاب غريب ؟
- نعم يا حاج .
- أهلاً وسهلاً .
ثم ينتقل الحاج إلى الكلام مع السائق :
- كيف الغلّة اليوم ؟
- بركة ألله !
ثم مخاطباً الشاب :
- إنه ابن ابني !
- إسم الله ، كم ولداً عندك ؟
- صبي لألله !
- ولد واحد ؟
- الحمدلله ابني " جابر " عنده من امرأته الأولى أربعة صبيان ، و" بنيّة " واحدة سمّيتها " حمدة " .
الشاب يلاحظ أن محدّثه قليل الإهتمام به ، فهو يقطع أنفاس السُبحة ، ويوقف كلامه كلّما توقّف الباص .
- عندي باصان يقودهما أكبر أحفادي بإشرافي ، منذ أن عشق ابني إمرأة من المدينة ولحقها ، تاركاً لي ، ولأمه ، همّ زوجته وأولاده ...وبعون الله أمورنا جيدة .
- وأنتَ يا حاج ؟
- لقد كنتُ متزوّجاً قبل زوجتي الحالية .
- وأين هي الآن ؟
- لقد ذبحتها !
- شو ؟
- ذبحتها ...
ووجد الشاب نفسه في مأزق لا يسعه التخلص منه إلا بدفعه إلى الأمام :
- وكيف ذبحتها ؟
- بالسكين .
- بالسكين ؟
- هي أرادتْ ذلك .
- لا أفهم !
- صدّقني ، هي أرادت ذلك ، ومع هذا فأنا حججتُ لها مرتين ، كي يغفر لها رب العالمين ، وفي كل عيد أضحّي وأوزّع الأضاحي عن روحها ، ومع هذا فهي تأتيني في المنام مكسورة الخاطر ...
- لم أفهم شيئاً يا حاج .
- كانت وحيدة عمّي ، رحمه الله ، وكانت تكبرني بحوالي العشر سنوات ، حين فاجأت الجميع باختيارها لي من بين كل شباب العشيرة عندما توفي عمي ، والدها ، وقد تقدّمتْ هي في العمر من غير أن تقبل بأن يشاركها رجل ما حياتها ويدير أرزاقها ... وهكذا إلى أن جاء يوم إجمعتْ فيه العشيرة على وجوب زواج " حمدة " من أحد أبناء عمومتها .
- عادات عشائرية ؟
- أبلغوني إختيار حمدة لي ، لأنتقل بعدها في زفّة مهيبة من بيتنا إلى بيت عمي الذي كانت امرأة عمي قد أخلته لنا ، وسط غيرة الكثيرين مني .
الباص يتهادى كهودج لكثرة الحفر في الطرق الفرعية التي سلكها .
- سنصل قريباً ؟
- أهي المرة الأولى التي تأتي فيها إلى ديارنا ؟
- نعم ، ولكن
فقاطعه الحاج :
- لقد غِبتُ عن هذه الديار فترة طويلة ...
- هل سافرت ؟
- " يا ليتَ ذلك، إذ لم يمضِ على زواجي من إبنة عمي شهر من الزمان حتى افتقدتها يوماً ولم أجدها، حتى جاء مَنْ ينبئني بهروبها مع رجل آخر .
لقد فوجئتُ كثيرا لأنها لم تُرِني ذلك ، والألسن تتناقل قصة حبها للآخر ، وفوجئتُ أكثر وقد أضحيتُ رجلاً عليه أن يغسل عاره بيده ، بعدما أهدرتْ عشيرتنا دم حمدة ودم الرجل الذي هربت معه ... " النار ولا العار !!! "
ثم جاءت إمراة عمي ، والدة حمدة ، تتوسّلني ، وتتململ عند قدميّ وتستحلفني ، برحمة عمي ، أن أُبقي إبنتها حية ، خاصة أن عمي ، رحمه الله ، كان قد لاحظ ميل ابنته إلى ذاك الرجل ، ووعد " أم حمدة " بإيجاد حل لها مع أولاد إخوته ...
يومها خرجتُ من هذه الديار ، متتبعاً الأخبار التي راحت تلاحقني ، ولم يطلْ ضياعي ...
إيه ... لقد قتلتُ الرجل " بمديّتي " ، وأمرتُ حمدة أن تعود معي ، لكنها طلبتْ مني أن أذبحها .
ماذا أفعل لها ؟ فأنا ، ومنذ خروجي من السجن ، أضحّي لها وأترحّم عليها ، وأبكيها مثلما بكيتُ وأنا أرجوها أن تعود معي ، وهي ترجوني أن أذبحها ! " .
وقبل أن ينهض الحاج مودعا ، وقد ترقرقتْ عيناه بالدموع ، قال :
- ربي لم يغفر لها خطيئتها بالرغم من كل محاولاتي ، فماذا أفعل حتى ترتاح روحها ، ويطمئنّ بالي عليها ؟
----- من مجموعتي القصصية " المحطة " ، الصادرة عام 1995 -----