ظهور تنظيم ( داعش) هذا الكيان الملغز القادم من الهامش الى صدارة الصحف و شاشات التلفاز ومواقع التواصل الإجتماعى دفع الكثيرين للتمحور حوله كظاهرة فرضت نفسها على الساحة والتركيز عليها بل وصل الأمر الى انتظار بياناتها التى تعلن فيها عن تبنيها لأحداث عنف هنا وهناك الممهرة بعلامتها التجارية الداعية للعنف فى كل وقت وحين , إلا انه نتيجة لقلة البيانات والمعطيات والارقام المقاربة للحقيقة عن طبيعة هذاالتنظيم وبدايته واهدافه , وصورة اليد المحركة له فى الخلفية القاتمة , وامكانياته والتركيبة العقلية لأفراده , فتح مساحات من الخيالات الواسعة والبعيدة والتى قد تكون احيانا متضاربة ومساحات للمغامرة بالكتابة والتحليل التى قد تكون محاولتى هذه واحدة منها ,
(1) التغيير العنيف والدين الحنيف !
ينظر البعض الى الإسلام وكأنه معطى قائم بذاته منفصل عن الزمكان , وينتعش التنظير هنا حول علاقة داعش بالإسلام والجهادية فيؤكد البعض على ان داعش تعكس وتجسد هذا المعطى فى انقى صوره التى تميل الى تطهير الانسان وتطهير المجتمع , وينفيها اخرون فى موقف دفاعى معلنين ان ذلك لا يمثل الإسلام الحقيقى الذى يرونه من نفس زاوية المسلًمة السابقة - انه معطى قائم بذاته خارج عن الزمكان - متخيلين له صورة ثابتة حقيقية ونسخ اخرى مشوهة , كل فرد فى هذا (البعض) يتوهم ان النسخة التى بيده هى الأصل والأخرون مشوهون , تقول انت عزيزى القارئ الان " انهم لايمثلون إسلاما متطرفا .. بل أسلمة ً للتطرف " ,
داعش يجمعها مع اخرين من المروجين لفكرة إرهاب الاخرين من الأيدلوجيات السياسية المؤمنة بأن التغيير يلزمه عنف سواء كان عنفا منظما ممنهجا او عنفا فوضويا , اكثر ما يجمعهم بهموم المسلم العادى الذى يردد عبارات الجهاد لكنه لا يعرف عنها سوى صور لفرسان وخيول وسيف , يعجز هذا المسلم عن تقديم تفسير كاف لسلوك هؤلاء سواء بالسلب او الإيجاب , حين يسأل نفسه لماذا لايهتم هؤلاء المجاهدون بهم من هموم المجاهدين الذين يعرفهم فى مخيلته كالقضية الفلسطينية مثلا, لماذا يفتقدون الرابطة الوجدانية الحقيقية مع بلاد – بعضهم- الأم من الدول التى تصنف كمسلمة , يبدو انهم تذكروا انهم مسلمون حديثا اوانهم كانوا يتيهون فى غياهب الحانات وفجأة اشتد وطيس الغضب والحمية على الخلافة الإسلامية المنشودة ,
النزعة الداعشية الجهادية الحديثة ترى فى نفسها " عصبية حديثة " اكبر من شكل الأسرة والعشيرة والقبيلة وتنطوى على نزعة التملص من كل انتماء او علاقة تنافس تلك العصبية الجديدة يعبر عن تلك الثقافة (فيديو الإبن الذى ينحر أباه) ,
هو حين ينحره هنا ينحر الرمزية يقتل سلطة الأسلاف القريبين وإستبدالهم بأسلاف أقدم وعصبة تجمعها روابط حديثة يراها أقوى , يجد فى نفسه حاجة الى طمس كل معالم هذا العالم الذى لايتماشى وصورة العالم الذى فى مخيلته يتمنى ان يهدم هذا العالم المتناقض المتشعب المعقد الذى قد لايقوى هو على فهمه واستيعابه فقرر إستحضار الماضى وفرضه على الحاضر , قرر العبور الزمنى نحو السلف الأول والقرن الأول الذى يحمل منه فى جعبته ما أكثره لاعلاقة له بالدين بالأساس ,
(3) العنف الداعشى غاية أم وسيلة ؟!
من الملاحظ ان التنظيم فى بياناته يكرر فكرة إثارة الرهبة في نفوس الخصوم لكن لا يعقل ان يكون غاية العنف الذي يمارسه داعش استعراضية وفقط , لابد من رسالة يراد توصيلها واهداف يراد تحقيقها , ايضا لا شك ان فى العالم ابناء من ابناء ءادم يتبنون عقيدة جهادية عن وعي ومعرفة تامة بمحتواها ومرتكزاتها وأصولها ويحفظون كتبها حرفيا , لابد وان داعش كتنظيم يحوى بعضا منهم لكن سر قوته الاكبر هو نجاحه فى جذب العاطلين والمترددين ممن لديهم نوازع عنفية دفينة واغراء الباحثين عن كسب المنزلة والمكانة والباحثين عن مصادر القوة والاستقواء من المبتدئين في إسلامهم، بسيطي التفكير وتستطيع ان تقول معقوفى التفكير ,
تاريخيا الحركات السياسية اليمينية شاهدت صنفين من التيارات منها تيار اصلاحي لا يجد غضاضة فى الإنفتاح على نتاجات الحداثة ولامانع فى المرونة في تفسير النصوص , واخر يتشكك فى التسويات ويراها تفقد التيار الدينى اليمينى محتواه , اى معتدلين براغماتيين، ومتطرفين عقائديين , النوع الثانى إن ذهب الى مزيدا من التشدد والتطرف كان ملجأ للعنف المؤدلج ,
ايضا الراديكالية لاتقتصر على اليمين فقط , لكن اليسار على نهاية مد الخط على استقامته تجد راديكالية شديدة العنف لاترى الا السلاح كطريق للوصول, اذا فالحداثتين إقصائيتين وذلك لن يؤدى فى النهاية إلا الى نتيجة واحدة وهى خسارة الحداثة الحقيقية , هذا المشروع الإنسانى المرجو قيامه على الحقوق والحريات والانعتاق من أشكال الإخضاع على إختلافها ,
(4) الحداثة البديلة !
لا شك ان أدلجة الدين تؤدى بالضرورة إلى تحولات وتغيرات فى هذا الدين الذى يظهر بعدها شئ اخر مختلف ليصبح نظاما سياسيا شموليا يحتكر الحقيقة المطلقة فى إعادة لتعريف الهيمنة والإقصاء محاكيا فى ذلك اسلوب الحداثة التى ينتقدها فى أيدلوجيته الحديثة,
يعتقد داعش انه سيحدث تغييرا جيوسياساً في العالم يأخذه من اللاشئ واللاوجود الى كونه ظاهرة تحكم العالم ,
رغبة تحدي الوضع القائم وإن كان بأدوات عنيفة , سمح بتنظيم "الميول الراديكالية العنفية" في الفعل السياسى , والذى فتح الباب امام الحكومات لأرتكاب انتهاكات كل حقوق الإنسان بدافع محاربته , وفتح الباب أمام إنتاج السلطوية كضرورة لازمة لحفظ النظم الاجتماعية وجعل من السلطوية شئ مقبول يمتلك خطابا سياسيا يتمركز على منع اشاعة الفوضى ووقف العنف ,
الحكومات والانظمة لم تعد تمتلك حجة لدعوة المجتمع إلى السكون والخضوع سوى التلويح بعهد جديد من العنف مستحضرة الأزمات العربية فى الشرق الاوسط كمثال للترويع , وفى المقابل لذلك لانجد نجاحا للتغيير العنيف فى محاولاته المتكررة وصوره المتعددة الا انه اعطى لمعظم النظم السياسية فرصة لتشديد القبضة الأمنية وإدامة حالات الطوارئ , وتكريس فكرة الحل الأمني كطريق وحيد للمعالجة على الرغم من فشلها فى الثمانينات كحل منفردا ولم تمنع من اللجوء الى افغانستان والقاعدة كملاذ ,
وأخيرا ولأن الأخلاق السياسية ليست ما يحدد خيارات العرب ولا الغرب ولأن الخلاف بالأساس هو خلاف على السلطة والريع فلن تجد ساطعا فى سماءهما الا النهب والقنص وانهار الدم المصفوفة المنظومة على الأبواب