أسمدة زراعية ومخلفات آدمية وملوثات صناعية كلها تصرف في ماء النيل، لكن كل هذا التلوث رغم أضراره كان سبيلا لعودة الحياة لدلتا النيل البحرية، فخلال العقدين الماضيين عوضت زيادة تلك الملوثات نقص كميات السماد العضوي الطبيعي التي احتجزها السد العالي، ومن هنا بدأت المصايد السمكية على البحر المتوسط تستعيد عافيتها وثرواتها السمكية المفقودة. هذا حسبما جاء في دراسة علمية حديثة نُشرت مؤخرًا في مجلة "أمريكان ساينتست" الشهيرة (عدد مارس – إبريل 2004).
وربما لا يعرف الكثيرون أن نهر النيل لم يبنِ دلتا واحدة فقط بل في الواقع اثنتين وربما أكثر؛ الأولى على البر وهي الدلتا -الأرض- المعروفة لنا والتي تتركز بها أهم مدن مصر ومعظم أنشطتها الصناعية والزراعية. أما الأخرى فهي ليست في الواقع أرضًا، لكنها دلتا مائية افتراضية تمتد في البحر أمام سواحل الدلتا الأم.
وهي لا تعبر عن كيان مجسم لكن يقصد بها الخير الوفير من المواد العضوية والهائمات النباتية والأملاح المعدنية المختلطة بالغرين النيلي المميز الذي يفد مع مياه النيل، وتتركز كلها في المنطقة البحرية الواقعة أمام سواحل الدلتا الأرض؛ حيث انطبع هذا الخير لعقود طويلة على مصايد المنطقة وأفاد أسماكها وثرواتها البحرية التى اشتهرت بثرائها وتنوعها كمًّا ونوعًا.
ولقد كان من حسن الحظ أن النظام الهيدروديناميكي وطبيعة التيارات المائية في البحر المتوسط بخاصة أمام منطقة الدلتا يساعدان على أن تحتفظ سواحل تلك المنطقة بهذه المكونات الغذائية.
السدود تعترض عطاء النهر
السد يعترض عطاء النهر
لكن عطاء النيل الذي أثرى به البر والبحر تأثر كثيرًا منذ منتصف الستينيات؛ تحديدًا بعد بناء السد العالي في جنوب مصر عند أسوان، وبعد اختراق منطقة الدلتا بعشرات القنوات والمصارف الزراعية التي حفرت بها خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
فسد مصر العالي رغم فوائده العديدة بالإضافة إلى القنوات فقد أضعف قدرة النيل على العطاء وسبب عددًا من المشاكل البيئية سواء في منطقة الدلتا نفسها أو على امتداد سواحلها الطويلة. فالنيل كان قبل بناء السد العالي يقدم كل سنة لأرض الدلتا ملايين الأطنان من الرسوبيات المختلطة بالسماد العضوي الطبيعي؛ أي أنه كان يثريها بتربة زراعية غاية في الخصوبة. أما بعد بناء السد وما تلا ذلك من حفر عدد لا يحصى من القنوات والمصارف الزراعية بالدلتا فقد تقلصت كميات الطمي والغرين إلى الصفر تقريبًا. وقد ساهم هذا في انخفاض خصوبة التربة الزراعية بالمنطقة وزيادة ملوحتها وتآكل شواطئ الدلتا، كما ساهم في ظهور عدد آخر من المشاكل ما زالت الدلتا الأرض تعاني منها للآن.
أما فيما يتعلق بالدلتا المائية الافتراضية فقد أحالها السد العالي وشبكة القنوات الصناعية إلى صحراء بحرية جرداء خالية تقريبًا من الهائمات النباتية وبقية المواد المغذية للأسماك. فمثلما حجب السد الطمي والغرين حجب أيضًا السماد العضوي الطبيعي الذي كان يفد مع مياه ورسوبيات النيل والذي كان سببًا رئيسيًا في غنى سواحل الدلتا بالأسماك والروبيان وغيرهما من الثروات البحرية.
وهكذا افتقدت أسماك شرق البحر المتوسط وخاصة أمام الدلتا مصدرا غذائيا حيويا كان هو أهم أسباب وجودها وتكاثرها؛ وهو ما أدى إلى تدهور نصيب مصر من الثروة السمكية منذ ذلك الحين. بل يمكن القول بأن اختفاء أنواع عديدة من الأسماك من أمام السواحل المصرية، مثل السردين وغيرها يعود في المقام الأول إلى تلك الظاهرة.
التلوث ينقذ الثروة السمكية
شكل يوضح آثار السد العالي على نصيب سواحل الدلتا من المركبات النيتروجينية والفسفورية
اضغط للتكبير
لكن حظ الدلتا البحرية كان على ما يبدو أوفر من حظ الدلتا الأرض، فبحسب ما جاء في الدراسة المذكورة آنفا والمنشورة بمجلة "أمريكان ساينتست" فإن ما سببه كل من السد العالي وقنوات الدلتا بالسلب على الثروة السمكية قد ردته أنشطة الإنسان الصناعية والزراعية والتجارية إلى سيرتها الأولى التي كانت عليها قبل بناء السد.
ويرى سكوت نيكسون وهو عالم أمريكي متخصص في علوم البحار وصاحب ذلك الكشف العلمي أن زيادة كميات الأسمدة الزراعية مع زيادة كميات المخلفات الآدمية التي تصرف في البحر، سواء مباشرة أو غير مباشرة مع ضغوط الزيادة السكانية وتزايد الأنشطة الصناعية في منطقة الدلتا خلال العقدين الماضيين.. قد عوض مصايدها السمكية بشكل أو آخر عن كميات السماد العضوي الطبيعي التي احتجزها السد العالي، ومن هنا بدأت تستعيد تلك المصايد عافيتها وثرواتها السمكية المفقودة.
وعلى هذا النحو فإن جميع هذه الأنشطة رغم ما يتخلف عنها من نفايات وملوثات قد عوضت -برأي سكوت نيكسون- سواحل مصر المتوسطية ما فقدته من مغذيات وهائمات نباتية بسبب اعتراض السد العالي وقنوات الدلتا لعطاء النيل الطبيعي.
وقد قدم نيكسون في تلك الدراسة من الإحصائيات والأرقام ما يعضد نظريته أو كشفه هذا. فبحسب ما جاء فيها فإن المصيد السمكي من السردين قد تقلص بعد بناء السد العالي بنسبة 80% على الأقل، فبعد أن كان متوسط المحصول السنوي من هذا النوع في الفترة بين عامي 1962 و1965 يربو على 37 ألف طن سنويًا، انحدر هذا الرقم إلى أقل من 6500 طن في السنة بعد بناء السد. غير أن هذا التدهور لم يقتصر على السردين فقط بل امتد أيضًا إلى الروبيان وأنواع أخرى مهمة من الأسماك مثل الوقار والقاروص والبربون وغيرها. فالكميات المصادة من تلك الأنواع قد اضمحلت بنفس النسبة تقريبًا خلال نفس الفترة.
وتوضح نتائج تلك الدراسة أيضًا أن هذا التدهور استمر لأكثر من 15 عامًا بعد بناء السد العالي بداية من منتصف الستينيات وحتى مشارف الثمانينيات. بعد ذلك بدأ الوضع يتحسن تدريجيًا وبدأت تظهر ثانية كميات كبيرة من أسماك الوقار والسردين في شباك الصيادين. كما لوحظ استعادة الأسماك السطحية لحالة الاتزان التى كانت عليها أمام الأسماك القاعية قبل بناء السد، بل إن الكميات المصادة منها بدءًا من الثمانينيات وصل إلى ضعف المصاد من النوعية القاعية.
ويؤمن نيكسون بأن هذا التغيير الإيجابي لم يكن ليتحقق بدون حدوث طفرة هائلة في كميات المركبات النتروجينية والفسفورية والمواد العضوية الأخرى التى تعتبر غذاء للأسماك والتي تفد إلى البحر والبحيرات مع مياه النيل والمصارف والقنوات الزراعية المنتشرة في المنطقة.
أما لماذا بدأت تلك الطفرة مع بداية الثمانينيات وليس قبل أو بعد ذلك، فينسب نيكسون هذا لثلاثة أسباب رئيسية ترتبط كلها بتطور المجتمع وعمليات التنمية في مصر، كما أنها تصب جميعًا في خانة تزايد كميات المخلفات والنفايات الصناعية والآدمية التى تذهب للبحر أمام سواحل الدلتا ومصايدها منذ بداية الثمانينيات.
وهذه الأسباب هي:
أولا: زيادة التعداد السكاني في مصر بدرجة واضحة بداية من منتصف الستينيات وتصاعد منحنى هذه الزيادة بشكل بالغ بداية من الثمانينيات.
ثانيًا: تحسن نصيب الفرد المصري اليومي من البروتين الكلي والبروتين الحيواني وزيادة استهلاكه لهما بصورة ملحوظة بداية من ذلك التاريخ.
ثالثًا: النمو الملحوظ في حجم ومساحة شبكات المياه والمجاري ومحطات الصرف الآدمي بخاصة في مدن القاهرة والإسكندرية خلال الثمانينيات.
حقيقة أم وهم؟!
لم يتفق بعض العلماء مع رأي نيكسون ومنهم العالم المصري الدكتور يوسف حليم بقسم علوم البحار بجامعة الإسكندرية، حيث يرى أن زيادة نصيب مصر من الإنتاج السمكي السنوي في الفترة الأخيرة يعود في المقام الأول إلى زيادة عدد سفن ومراكب الصيد وتحسن كفاءة المعدات والأجهزة المستخدمة في عمليات الصيد وليس إلى زيادة نسبة الهائمات النباتية والمواد العضوية.
كما يؤخذ على الدراسة أنها لم تفرق في جملة الملوثات التي ذكرتها بين المواد العضوية الموجودة في الأسمدة والمخلفات الآدمية وبين المخلفات الصناعية التي قد تحوي مواد سامة ومعادن ثقيلة قد يكون لها تأثيرات تراكمية ضارة على نوعية الأسماك وليس كمها.
فقد اكتفى الباحث في التدليل على ما أحدثته تلك الملوثات من آثار على الثروة السمكية بزيادة كمية الأسماك، إلا أنه لم يتم دراسة نوعية تلك الأسماك وهل احتوت لحومها على جزء من الملوثات التي تحيط بها.
برغم ذلك فإن سكوت نيكسون ما زال مؤمنا بصحة نظريته تلك بل وعازما على مواصلة البحث فيها من أجل إثبات صدق افتراضاته التي تبدو مقنعة.