الاستبداد ظاهرة مقيتة عرفتها البشرية في كلّ مكان وزمان

فلا تربطوها بالإسلام أو بإيديولوجية محدّدة:

    أقرأ في عديد المقالات التي يكتبها بعض المعادين للفكر الإسلامي  في مواضيع تتعلّق بالاستبداد السياسي أو الفكري أو العقائدي أو الاجتماعي مستشهدين بأحداث جرت في عهود الحكم الإسلامي الطويلة قام بها بعض الطغاة مثل قتل الطبري، وصلب الحلّاج، وحبس المعرّي، وسفك دم ابن حيان، وحرق كتب الغزالي وابن رشد والأصفهاني، وتكفير الفارابي والرازي وابن سينا والكندي والغزالي، وذبح السهروردي وطبخ أوصال ابن المقفّع في قدر، ثم شوائها أمامه ليأكل منها قبل أن يلفظ أنفاسه بأبشع أنواع التعذيب، وابن الجعد بن درهم الذي مات مذبوحاً، وعلّق الطغاة رأس أحمد بن نصر وداروا به في الأزقّة، وخنقوا لسان الدين بن الخطيب وحرقوا جثّته، وكفّروا ابن الفارض وطاردوه في كلّ مكان... ذلك كلّه حصل باسم حماية المقّدسات أو التعصب الديني أو الرغبة في المحافظة على النفوذ. وينسى كتاب تلك المقالات أو يتناسون أنّ ذلك نابع من طبائع البشر وليس من جوهر الأديان أو الإيديولوجيات.

     فذلك حال السلطة المستبدة كما عاشتها البشرية في أماكن عديدة وخلال أحقاب كثيرة من التاريخ :فهي  انفراد فرد أو مجموعة من الأفراد بالحكم أو السلطة المطلقة دون الخضوع لقانون أو قاعدة، و دون النظر إلى رأي المحكومين، فهي تحكم بأمرها، وتتصرف بصورة مطلقة، غير قابلة الاعتراض وترفض الإبداع وتتنكر للحقيقة. وسأعطي أمثلة من الاتحاد السوفياتي (المقدس الشيوعي) ثمّ من أوروبا الغربية قبل العودة إلى تونس.

     فقد عمل ستالين القائد السوفياتي على القضاء على معارضيه ،حيث طرد "تروتسكي" من روسيا سنة 1929 وأرسل من اغتياله في المكسيك سنة1940 ، وقام بالكثير من المذابح الجماعية مثل إعدام 35 مهندسا رميا بالرصاص فى كولمنس بموسكو هذا إلى جانب إجبار الملايين على العمل في المزارع الجماعية التي صادرتها الدولة وذلك نظير لقمة العيش بما فيهم الأطفال، ومن أكثر فضائح الاتحاد السوفيتى حدثت سنة 1989 حين تم اكتشاف مقبرة جماعية في منطقة ( تلال الذهب ) ووجد بها أكثر من 80 ألف هيكل عظمي من ضحايا التعذيب والقتل الجماعي في عهد ستالين. ونسجل أيضا محاولة هذا الأخير تشويه الكثير من الحقائق العلمية لكي تتلاءم مع وضع يريده للعالم مثل تشويه دراسة علم الوراثة. فقد قام تروفيم لايزنكو (1898-1976)  بتقديم رؤية محرفة لعلم الوراثة  لكنها سياسيا ملائمة  لرؤية ستالين ورفض رؤية مندل لأنها لا تتوافق  مع المادية الجدلية. ومن يريد التبسّط في معرفة حال الناس في العهد السوفياتي فليقرأ  كتاب "أرخبيل الجولاق" ( Archipel des goulags )  أو "جناح المصابين بالسرطان"  (cancer ward ) للمؤلف الرّوسي "ألكسندر سولجنتسين" (SOlZHENITSYN Alexander) ..

     وفي العهد المسيحي بأوروبا الغربية صارت أخطاء نابعة من الطبيعة الاستبدادية للأشخاص خلال الحكم الروماني  والقرون الوسطى فقام المسيحيون بتعذيب غاليليو غاليلي،  و قامت محاكم التفتيش المسيحية الكاتوليكية في إيطاليا و اسبانيا خلال القرون 14 و15 و16 و17 ميلاديا بأشنع الجرائم في حق الإنسانية، فهي التي كانت تمط جسم الإنسان  على آلة تعذيب تسمّى «مخلعة» أو تفرم لحمه وتضعه في خازوق لتحرقه،ونفذت أحكام الإعدام بمئات الألوف من  أتباع الكنيسة  لأفعال لا تستوجب  حرقهم بالنار  أو جز رقابهم بالمقصلة  أو إجلاسهم على خوازيق حتى  يلفظوا أنفاسهم الأخيرة  بسبب كونهم متمردين على سلطة البابا أو يهود أو مسلمين ، ولم يسلم من محاكم التفتيش الفلاسفة والعلماء  وكبار المفكرين والشعراء ...

     ولم يقتصر العنف والاستبداد على القدامى بل نجده عند المحدثين ، فليس عهد الباجي قائد السبسي ببعيد ، فقد  كان وزير داخليّة بورقيية وفي عهده تمّ إعدام البطل ''الأزهر الشرايطي '' وتعذيب اليوسفيّين و تأسيس سجن ''صبّاط الظّلام" وقد ترأس مجلس نوّاب بن علي في التّسعينات أيام قضية "براكة السّاحل" و كان عضو اللّجنة المركزيّة للتجمّع حتّى 2002  بما كان خلال تلك الفترة من تعدّ على الحرّيات ومصادرة لحقوق النّاس. وحين أمسك رئاسة الحكومة الوقتية ،بعد 14 جانفي 2011 ،كانت مظاهر الاستبداد بالرأي بادية عليه من خلال تعامله مع رجال الصحافة ونسائها فقد أوقف الصحفي عماد بربورة عن العمل لمجرد أنه طرح عليه سؤالا خطيرا و كان يهزأ بأسئلة بعضهم .

     وقد كتب عبد الرحمان الكواكبي منذ أكثر من مئة سنة يخبرنا أنه بعد بحث طويل عن عوامل انحطاطنا وعلل هزائمنا، فإنه لم يجد سبباً إلا عاملا وحيدا وهو "الاستبداد" فأطلق بيانه الشهير المناهض لطبائع الاستبداد والداعي إلى مصارعة الاستعباد، والذي لا يزال إلى اليوم هو الكتاب الأكثر توهجاً وتألقاً من كل ما كتب في الموضوع. وكأنه كان يتنبأ لمصير الأمة التي أنهك شرفها وكرامتها الاستبداد، فهيأها للاستعباد، والاستعباد الداخلي مدخل للاستعباد الخارجي كما أكّد ذلك  "غرامشي" .

     فهزائم الشعوب والأنظمة العربية المتوالية منذ ألف سنة حتى اليوم ليست إلا هزائم استبدادها أمام تفتح وحرية الآخرين المتواصلة حتى اليوم. ففي العهد الإسلامي عاش العرب أخطاء نابعة من الطبيعة الاستبدادية للأشخاص وفي القرون الوسطى قام المسيحيون بما هو أشنع في بلادهم وفي بلاد العرب والمسلمين، وآثار ذلك مازالت حتّى اليوم على السّاحل التونسي والمغاربي،وكذلك في العهد السوفيتي وفي عهد حكم حزب الدستور ...

     فلا تزايدوا على عهد أو عصر بل أعدّوا للمستقبل باستثمار مكاسب الحاضر وتجنب أخطاء الماضي، وذلك ببناء مؤسّسات دستورية قوية ومستقلة بعضها عن بعض لتحقيق التوازن السياسي والحقوقي والتربوي والاقتصادي  لتونس الغد. أي تحقيق الديموقراطية الاجتماعية مع الديموقراطية السياسية. وهنا أستشهد بمقالة للفيلسوف السوفياتي "ميجوييف" في محاضرة ألقاها في موسكو ،حيث شدّد على أن «لا وجود لأي بلد بدون تاريخه (...)، والإصلاحيون عندنا، سواء أكانوا شيوعيين أم ديموقراطيين أم من المتعصبين للعرق السلافي، أم من المفتونين بالغرب، يرتكبون جميعاً الخطأ الفادح بعدم إيجاد استمرارية مبررة عقلانياً وأخلاقياً بين ماضي روسيا ومستقبلها (...). فالبعض ينفي الماضي، والبعض الآخر يرى فيه النموذج الأفضل، إلى درجة أن المستقبل في نظر فريق لا يمكن أن يكون سوى خليط من الأفكار الماضوية، وفي نظر فريق آخر مجرد تقبل لصيغة معارضة لا سابق لها في التاريخ الروسي. والحال ، أنه يجب التفكير في المستقبل انطلاقاً من علاقته بالماضي قبل كل شيء، وخصوصاً بالتاريخ الذي خرجنا منه أخيراً»(عن مقالة بعنوان "روسيا في مواجهة ماضيها السوفياتي" للمؤلف موشي ليفن،ديسمبر 2001 Le Monde diplomatique, Paris,  ).«ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم» صدق اللّه العظيم( سورة الأنفال، الآية 53).

   فالبداية علينا والمساعدة في الخاتمة من الله تأتي بإرادته. اللّهم كن في عون تونس.

حسن الجمني

25 أوت 2012

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 211 مشاهدة

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

123,732