قرصنة الأسماك تهدد الأمن الغذائي والحياة في البحار خسائر بالمليارات
إعداد/ محمد شهاب
تواجه الأهوار في جنوب العراق تحديات متزايدة ارتبطت لسنوات طويلة بتراجع الإمدادات المائية، والتلوث بالصرف الزراعي والصحي، وارتفاع نسبة الملوحة الآتية من مياه الخليج. وتتعرض الأسماك في أهوار الدلمج والجبايش والعمارة والبصرة لمخاطر الصيد غير الشرعي باستخدام السموم والمفرقعات وأساليب الصيد الجائر الأخرى، خاصة بهدف التصدير إلى أسواق خارجية. وتطال السموم، التي تُلقى في الأهوار لصيد الأسماك، جواميس الماء التي تنتشر تربيتها في المنطقة، فتؤدي إلى موتها بأعداد كبيرة. وتعد الأهوار معبراً هاماً للطيور المهاجرة بين أقاليم آسيا الصغرى وآسيا الوسطى وسيبيريا ومناطق شبه الجزيرة العربية وغرب أفريقيا، حيث تصل أعداد الطيور خلال موسم الهجرة إلى نحو مليوني طائر، ويقضي قسم منها بسبب السموم المستخدمة في صيد الأسماك وكذلك نتيجة القنص الواسع.
ويشير عدد من مربي الأسماك في جنوب العراق إلى أن الصيد غير الشرعي في مناطق الأهوار يجري على نحو منظم من قبل عصابات تمولها شركات خارجية تعمل على استيراد كميات كبيرة من الأسماك. ومن الملاحظ أن إجراءات إغلاق الحدود التي طبقتها الحكومة العراقية لمواجهة جائحة «كوفيد - 19» أعاقت عمليات التصدير، مما أغرق الأسواق المحلية بكميات كبيرة من أسماك الشبوط والبني.
وتعد ممارسات الاستيلاء على الثروة السمكية لبلد ما على نحو غير شرعي وتهريبها إلى بلد آخر شكلاً من أشكال القرصنة التي تلحق ضرراً بالاقتصاد الوطني، وتمثل إخلالاً بالنظام البيئي وسلامة الأنواع الحية. وينشط القراصنة عادة في الحيز الجغرافي الذي يقع تحت ولاية الدول النامية التي لا تملك القدرات الكافية للمراقبة والسيطرة الشاملة على مدار الساعة، لا سيما في المناطق البحرية المترامية الأرجاء التي تخضع لسلطتها.
تبنت الأمم المتحدة عام 1981 اتفاقية «قانون البحار»، التي اعتمدت مفهوم المناطق الاقتصادية الخالصة التي يمكن أن تمتد حتى 200 ميل بحري (370.4 كيلومتراً) عن خط الشاطئ. وتقرر الدول في مناطقها الاقتصادية الخالصة كمية الصيد المسموح بها، على أن تكفل عدم تعرض الموارد البحرية الحية لخطر الاستغلال المفرط.
ويتقيد رعايا الدول الأخرى بتدابير الحفظ وبالشروط والأحكام الأخرى المقررة في قوانين وأنظمة الدولة الساحلية التي تتبع لها المنطقة الاقتصادية الخالصة، بما في ذلك الحصول على تراخيص الصيد والالتزام بالأنواع المسموح صيدها وحصص الصيد ومواسمه. وتحتفظ معظم الدول بسجلات لعمليات الصيد التجاري في مناطقها الاقتصادية الخالصة، وترسل بياناتها إلى منظمة الأغذية والزراعة (فاو). ولكن الأرقام الرسمية لا تعرض الصورة كاملة، خاصة مع الزيادة المطردة في الطلب على الأسماك، حيث ارتفع الاستهلاك بمقدار 122 في المائة خلال الفترة بين 1990 و2018 حسب تقديرات منظمة الفاو.
ويبلغ إنتاج الأسماك عالمياً نحو 179 مليون طن وفقاً لأرقام 2018. حيث تعد المصايد الطبيعية في المياه الداخلية مصدراً لـ12 مليون طن، والمصايد الطبيعية البحرية مصدراً لنحو 84 مليون طن، فيما تساهم المزارع السمكية في المياه الداخلية بـ51 مليون طن، والمزارع السمكية في البحار بنحو 31 مليون طن. وتصل نسبة الهدر والتلف إلى الإنتاج إلى 35 في المائة. وفي المقابل، يشير باحثون من جامعة «بريتيش كولومبيا» في كندا إلى أن ثلث عمليات الصيد البحري لا يتم الإبلاغ عنها. ووفقاً لتقديرات بحث أنجزه مشروع «البحر من حولنا» التابع للجامعة الكندية، كانت الكمية التي جرى صيدها من البحار في حدود 120 مليون طن عام 2015، فيما بلغ إنتاج المصايد الطبيعية البحرية حسب أرقام منظمة الفاو في السنة ذاتها 81.2 مليون طن.
وتعتبر التنمية المستدامة لتربية الأحياء المائية والإدارة الفعالة لمصايد الأسماك من الأمور الحاسمة لتلبية الطلب المتزايد على الأسماك باعتبارها مصدراً غذائياً صحياً لنحو 17 في المائة من إجمالي البروتين الحيواني العالمي. وفي حالة المصايد الطبيعية، يمكن للإدارة السليمة أن تجعل المخزونات السمكية أعلى من المستويات المستهدفة وتعيد بناءها للحفاظ على استدامتها. ومع ذلك، فإن النجاحات التي تحققت في بعض البلدان والمناطق لم تكن كافية لعكس الاتجاه العالمي المتمثل في الإفراط في الصيد. وللمقارنة، بلغت نسبة الأرصدة السمكية ضمن المستويات المستدامة بيولوجياً 90 في المائة عام 1990. فيما تراجعت هذه النسبة بشكل كبير لتبلغ 65.8 في المائة عام 2017.
\وتعد الأسماك والمنتجات السمكية من أكثر المواد الغذائية تداولا في العالم. ففي عام 2018 جرى تداول 67 مليون طن من الأسماك دولياً بقيمة إجمالية تبلغ 164 مليار دولار، وتمثل هذه الكمية ما يقرب من 38 في المائة من جميع الأسماك التي صيدت أو استزرعت في جميع أنحاء العالم.
وفي المقابل، تشير ورقة علمية نشرت في دورية «ساينس أدفانسيز» في فبراير (شباط) 2020، إلى أن التجارة غير المشروعة في صيد الأسماك البحرية تشمل نحو 8 إلى 14 مليون طن سنوياً، وهي تستنزف الأرصدة السمكية وتلحق خسائر في إيرادات السوق النظامية تراوح ما بين 9 و17 مليار دولار، إلى جانب خسائر في الإيرادات الضريبية قد تتجاوز 4 مليارات دولار في السنة. وتتحمل آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية ما نسبته 85 في المائة من الخسائر العالمية في المصايد، بسبب التجارة غير المشروعة.
وتتصدر مياه المغرب بحار الدول العربية كهدف للصيد غير المبلغ عنه بكمية إجمالية تبلغ 18.3 مليون طن، لتحتل بذلك المرتبة الرابعة عالمياً. وفي المرتبة السادسة تحل موريتانيا بنحو 13.6 مليون طن، بعد البيرو التي تأتي في المرتبة الخامسة عالمياً. وخلال الفترة ذاتها، كانت أكثر السفن التي تقوم بالصيد غير المبلغ عنه ترفع علم تايلند، بكمية تراكمية تصل إلى 53 مليون طن من الأسماك، وتليها روسيا في المرتبة الثانية عالمياً بنحو 42.6 مليون طن، ثم الصين بما مجموعه 18.7 مليون طن، فالبيرو بـ15.6 مليون طن، والولايات المتحدة بنحو 13.9 مليون طن.
تلجأ سفن القراصنة عادة إلى التمويه لتغطية ممارساتها غير القانونية. فقد تبين أن سفينة «أندري دولغوف»، المتهمة بعمليات صيد الأسماك المسننة المعرضة للانقراض في القطب الجنوبي، مملوكة من شركة كورية وهمية. وتعذر توقيف طاقمها من قبل الإنتربول أكثر من مرة، بعد نجاحها في كسر احتجازها ضمن الموانئ ثلاث مرات، وتغيير اسمها ست مرات، ورفعها أعلام العديد من الدول بين سنة 2016 وحتى إلقاء القبض عليها في إندونيسيا عام 2018.وتبدو سياسات الاتحاد الأوروبي الأكثر جدية في الحد من قرصنة الأسماك، حيث يوجد تشريع أوروبي نافذ منذ مطلع 2010 لمنع الصيد «غير المشروع وغير المبلغ عنه وغير المنظم»، باعتباره يستنزف مخزون الأسماك ويدمر الموائل البحرية ويشوه المنافسة ويضع الصيادين النزيهين في وضع غير عادل ويضعف المجتمعات الساحلية، لا سيما في البلدان النامية. وبموجب هذا التشريع، يواجه مشغلو الاتحاد الأوروبي الذين يصطادون بشكل غير قانوني في أي مكان في العالم، تحت أي علم، عقوبات كبيرة تتناسب مع القيمة الاقتصادية لصيدهم، من أجل حرمانهم من أي ربح محتمل. وتمثل السياسات الأوروبية خطوة متقدمة بالمقارنة مع السياسات الدولية التي تنادي بتعزيز الصيد المستدام منذ دخلت اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار حيز التنفيذ في 1994.
إلا أن العديد من الدول لا تزال حتى الآن خارج هذه الاتفاقيات. ففي العالم العربي لم توقع سورية وليبيا على اتفاقية قانون البحار. ويمثل غياب الإجماع الدولي ثغرة في إدارة محيطات العالم، وهذا يخل باستدامة الأرصدة السمكية وسلامة الأنواع الحية.
واللافت أن بعض الدول تؤمن الدعم للصيد غير المستدام، وغير القانوني في بعض الأحيان، الذي تقوم به أساطيل السفن التابعة لمواطنيها، من خلال تزويدها ببيانات الأقمار الاصطناعية عن مخزون الحبار والأنواع السمكية الأخرى، وتقديم التسهيلات لبناء السفن الضخمة، وتوفير الدعم الحكومي لوقود السفن، وحتى إرسال سفن طبية لأماكن الصيد لتمكين الأسطول من البقاء في البحر.
وتأتي اليابان في صدارة البلدان التي تقدم أكبر دعم لأساطيل الصيد في أعالي البحار، بمعدل 20 في المائة من مجموع الإعانات العالمية، ثم إسبانيا بمعدل 14 في المائة، تليها الصين وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة. وتمارس الصين نوعاً من الهيمنة على البحار عبر سفن الصيد التابعة لمواطنيها، لا سيما في بحر الصين الجنوبي. كما يخرق القراصنة الصينيون الحظر الأممي المفروض على المنطقة الاقتصادية الخالصة لكوريا الشمالية، مما يؤدي إلى تراجع مخزونات الحبار في المنطقة، ويدفع سفن الصيد الكورية الصغيرة نسبياً للإبحار إلى مسافات أبعد، مما يعرضها لمخاطر الغرق.
تتطلب المعركة في مواجهة قراصنة الأسماك، إلى جانب الإطار القانوني، مزيداً من الشفافية، بما في ذلك مساءلة سلاسل التوريد على مستوى صناعة الأسماك بأكملها، ومعالجة «غسيل» الأسماك المقرصنة عبر عمليات إعادة التوضيب والشحن النظامية. كما تستوجب منح رخص الصيد فقط للسفن المتعاقدة مع شركات التأمين البحري واستبعاد السفن المدرجة على اللائحة السوداء للإنتربول، إلى جانب تكثيف المهمات المشتركة للرصد والمراقبة في البلدان المتشاطئة.
ساحة النقاش