جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
الاتهامات التي تطارد »حسني مبارك« نزعت ورقة التوت الأخيرة من فوق نظامه، وكشفت عورات معاونيه، وصبت اللعنات علي سنوات حكمه فليس أقلها تضخم ثروته بطرق غير مشروعة، وتسهيل استيلاء أسرته ، وشلة نجله علي ثروات البلد.. مروراً بالحديث عن ضلوعه في اغتيال أنور السادات، ولم يكن أكثرها خطورة، هي المرتبطة بالمعلومات المتداولة عن عمالته لصالح المخابرات الأمريكية الـC.I.A.. لأن ما خفي كان أعظم!
هذه الاتهامات وغيرها ربما تتجاوز ما ينوي مبارك تقديمه من اعتذارات، فهي اتهامات لا تمحوها الكلمات العاطفية بغرض الحصول علي عفو والإفلات من المحاكمة، فمعظم ما يجري تداوله من معلومات لم يكن أسراراً جديدة تخرج إلي الفور أول مرة، لكنها معلومة ظلت لسنوات طويلة مناطق ملغومة، محاطة بسياج من الخطوط الحمراء الممنوع الاقتراب منها.. الآن تغير كل شيء.. ولم يعد بمقدور أحد إغلاق حنفية الاتهامات والمعلومات المثيرة، وما كان يدور همساً في جلسات النميمة والغرف المغلقة.. صار علناً وعلي كل لسان، باعتباره مادة دسمة لوسائل الإعلام المختلفة محلياً وعالمياً.. فمبارك لم يعد رئيساً بل متهم ورهن الحبس الاحتياطي علي ذمة التحقيقات في تضخم ثروته، وهذا الاتهام لم يكن بعيداً أو منفصلاً بأي حال من الأحوال، عن المعلومات الأكثر خطورة، باعتبارها أموراً تخص الأمن القومي، وربما يقود التشابك والتداخل، إلي مطالبة أسماء وشخصيات بارزة لعبت دوراً حيوياً، في الحياة العامة والسياسة الدولية لتدلي بدلوها، أو تبوح بما لديها من معلومات ثمينة تحفظ بها في خزانة أسرارها، وجميعها يتعلق بثروة مبارك وصفقات البيزنس، والعمولات التي كان يتقاضاها، وأين يودعها، وعلاقاته بالمخابرات الأمريكية.
أبرز الشخصيات المطالبة الآن وقبل أي وقت آخر بالكشف عن الأسرار التي بحوزتها.. أشرف غربال سفير مصر السابق في واشنطن، ومنصور حسن وزير الثقافة والإعلام وشئون رئاسة الجمهورية في عهد أنور السادات. فكلاهما يعرف الكثير لأنهما شهود عيان علي وقائع جرت قبل أن يتولي »مبارك« مسئولية الرئاسة.. غربال بحكم عمله سفيراً، كان يحضر لقاءات مبارك في واشنطن، ويعرف تفاصيل كاملة عن لقاءاته مع رجال وقيادات المخابرات الأمريكية، وكذلك رجال الأعمال، لأن البيزنس في كثير من الأحيان يكون غطاء لعمليات مخابراتية، ينفذها بدقة بعض رجال الأعمال للحصول علي المعلومات.
الاتهامات الموجهة لـ»مبارك« لم تكن وليدة الظروف الحالية لكنها قديمة، وجري التعتيم عليها كثيراً، وعلم بها الرئيس السادات قبل اغتياله بتسعة أشهر كاملة وتناولتها عدة تقارير رسمية من السفارة المصرية بواشنطن.. وسربت بعض معلوماتها وتفاصيلها مصادر مخابراتية، لعل أبرزها تلك التي خرجت علي السطح، ووجدت طريقها إلي النور التي كشف عنها »وليد أبوظهر« من مجلة »الوطن العربي« قبل 30 سنة من الآن.. في العدد 206 بتاريخ 23 يناير 1981، وتأتي أهمية ما جاء فيه من معلومات من ارتباطها بأهمية الشخص الذي روي التفاصيل باعتباره قريباً من أجهزة الاستخبارات الدولية، وصاحب علاقات واسعة في دوائر صناعة القرار، في مقرات الحكم الأمريكية والمصرية علي حد سواء، وهو الأمر الذي كان له صدي واسع في جميع الأوساط.
التقرير رصد المعلومات الدقيقة، وتناول بالأسماء ما كان يجري من صراعات بين مراكز القوي في القاهرة، وتوتر العلاقة بين السادات ونائبه »حسني مبارك« وعلاقة الأخير بالمخابرات الأمريكية، وتفاصيل الانقلاب الأبيض، الذي كان يعد له مبارك للإطاحة بالسادات وكيف خطط السادات للتخلص من نائبه، بالاعتماد علي منصور حسن وسيد مرعي.
أما التفاصيل التي تسربت من المخابرات الأمريكية، تقول إن حسني مبارك، حزم حقائبه واستعد للسفر إلي واشنطن في يناير 1981، وقبل مغادرته للقاهرة، عقد اجتماعاً مع الرئيس، ليعرف التوجيهات منه، فيما يتعلق بالمباحثات مع الإدارة الأمريكية، وفي واشنطن حرص مبارك أشد الحرص، علي عقد اجتماع مع ريتشارد آلن الذي كان يستعد لمنصب مستشار الأمن القومي في الإدارة الجديدة التي سيتولاها رونالد ريجان، بالإضافة إلي اتصالات مكثفة مع عدد من رجال الأعمال الأمريكيين والعرب، وكانت هذه الاجتماعات تدور علي مستويين، أحدهما رسمي بحضور الوفد المرافق له في الزيارة وأشرف غربال سفير مصر في واشنطن، والثاني كان شخصاً، وينفرد فيه مبارك مع رجال الأعمال ورجال المخابرات.
المثير في الأمر، أن أشرف غربال رغم علمه بجميع اللقاءات إلا أنه أرسل للسادات تقريراً يتضمن ما جري في الاجتماعات الرسمية.. ولم يتطرق من بعيد أو قريب للقاءات الشخصية التي أجراها مبارك مع بعض الشخصيات النافذة في واشنطن، وهذا يمثل لغزاً محيراً في الأمر، ويدفع لطرح تساؤل مشروع، لماذا تجاهل غربال المعلومات المحيطة بهذه اللقاءات؟
لكن المعلومات التي لم تتضمنها تقارير السفير المصري، سرعان ما عرفت وانكشف أمرها ومن بينها أن نائب الرئيس حرص علي أن يبلغ ريتشارد آلن بأن أوضاع الجيش غير مطمئنة، وأنه شخصياً »أي مبارك« يتولي بصفة شخصية، الإشراف علي تنظيم خاص واحد الحزب الحاكم، بهدف المحافظة علي النظام، سواء رحل السادات أو اعتزل أو تخلي.
مبارك كان يبعث برسائل مهمة عبر أقواله بغرض توصيل أنه يعد نفسه رئيساً للبلاد، وكان يقصد رسائله بمعلومات عن مرض السادات وعدم قدرته علي تولي المسئولية، لأن أمراض القلب وقرحة المعدة والكلي يسببون له متاعب كثيرة. لكن الأمريكان بطبيعتهم لا يفوتون فرصة تمر دون تحقيق مكاسب، خاصة أنهم شعروا بعد أحاديث مبارك أن الوضع خطير في مصر، لكنهم طلبوا منه، توضيح مدي العلاقة التي تربطه بأبوغزالة، الذي كان يتولي مهمة الملحق العسكري في السفارة المصرية، ومدي التوافق بينهما، ولم يتوان مبارك في إثبات الجدية.. فتوجه في اليوم التالي مباشرة للقائهم ومعه أبوغزالة، الذي كان يقوم بزيارة لواشنطن في ذلك الوقت، وأكد الاثنان انهما متفقان تماماً.. ونتيجة لهذه اللقاءات جرت اتصالات بين الإدارة الأمريكية ورجال أعمال عرب، ومؤسسة »باكتل الأمريكية« وأسفر ذلك عن قبول التعاون مع مبارك شريطة إبعاد السادات عن المشهد، لأن دوره نفد، وعلاقاته ساءت مع العرب، وجري الحديث عن انقلاب أبيض علي السلطة.
بعد عودة مبارك طلب السادات من أسامة الباز تقريراً عن الاتصالات الهامشية التي جرت، فيما أشار إليه بأنه لم يحضر سوي الرسمية منها.. فاستدعي مدير المخابرات الفريق محمد الماحي، وطلب أدق التفاصيل من اتصالات ولقاءات مبارك، خاصة فيما يتعلق بالتنظيم العسكري الذي كلف السادات نائبه بالإشراف عليه مع التنظيم الحزبي، وعندما تسلم السادات تقرير »الماحي« أصيب بصدمة صعقته، وكأنه لا يصدق ما يقرأ.. فقد تضمن أن تجمعاً مدنياً وعسكرياً، يمسك بخيوطه »مبارك«.. أما المفاجأة الأكثر درامية في ذلك، ولم يتوقعها السادات أن النبوي إسماعيل وزير الداخلية، ساعد مبارك بأجهزته البوليسية للوصول إلي التنسيق العسكري الحزبي، ولم يكن أمام السادات إلا استدعاء نائبه لإفهامه بأن مؤامراته في واشنطن معلومة، وقال له: أنا صنعتك وأنت من دوني لا تساوي شيئاً.. لأنك مخلوق بلا وفاء، فأنا اعتبرتك ابني.. وكنت أعدك لمتابعة المسيرة من بعدي، فإذا بك تتصرف هذا التصرف.. أنا الآن أستطيع أن أطيح برأسك.. لكن سأعطيك فرصة أخري وسأختبر ولاءك من جديد«! وواصل السادات »لقد تبين لي أن التقارير التي كان يرفعها لي منصور حسن صحيحة.. وإن كنت أثق فيك أكثر منه والآن عليك التخلي عن مسئولياتك ما جاء بهذا التقرير يشير إلي أن منصور حسن يعلم الكثير، فقد كانت لديه تقارير عن مبارك، وكان يرفعها للسادات، فلماذا لم يتحدث، ومثل هذه الأمور أمانة تاريخية ستكشف النقاب عن الكثير من الأسرار التي ظلت غائبة.
وبالعودة مرة أخري للصراع بين السادات ونائبه.. نجد أن الأول أحبط محاولة الانقلاب الأبيض الذي كان يعد له مبارك، بإبعاده تماماً علي أن يتولي الشئون الحزبية »التنظيم الخاص« منصور حسن، والتنظيم العسكري للفريق الماحي، لكن سرعان ما تلاشي نفوذ منصور حسن لدي السادات بعد تقديمه تقريراً عن فضائح عثمان أحمد عثمان صهر »الرئيس« وفي تلك الأثناء تقدم 60 ضابطاً من الجيش بعريضة للسادات يعترضون فيها علي وجود تنظيم داخل الجيش يعمل تحت إشراف مبارك، وطالبوا بحله بالإضافة إلي عدم الاعتماد الكامل في التسليح علي الولايات المتحدة الأمريكية.. فتحفظ عليهم السادات إلا أن زملاءهم أجبروا السادات علي الإفراج عنهم، ما جاء في تقرير المعلومات المسربة، يشير بوضوح إلي أن مبارك عرف مبكراً المؤامرات ومغازلة أجهزة الاستخبارات في سبيل البقاء علي الكرسي، خاصة أن تلك الأجهزة هي التي أدارت علاقاته مع رجال البيزنس من العرب والأجانب.
ومن المفارقات العجيبة أن الأشخاص الذين يعرفون جميع التفاصيل، عن العلاقات الغامضة مع المخابرات وعلاقات البيزنس والعمولات، يقفون خارج دائرة الأحداث المشتعلة، والتاريخ لن يغفر لمن عرف والتزم الصمت فهل يتحدث كل من أشرف غربال ومنصور حسن.. أم ستموت الحقائق بالصمت؟ أم أن الأمر مرتبط بعلاقات خاصة بين مبارك والذين يعرفون الحقائق ويصمتون.
اللافت للنظر، قبل غضب السادات وأسرته، عقب تناول منصور حسن لتقرير عن عدد من الفضائح، لم يسترد مبارك قوته مرة أخري، والصراع بين الرئيس ونائبه وصل لمنطقة ضبابية.. السادات لا يريد إحداث بلبلة بإخراج مبارك بشكل سريع.. والأخير يدير لعبته وفق اتفاقاته مع ريتشارد آلن.. لكن هذه الفترة الشهور التسعة الأخيرة من حكم السادات.. شهدت عودة قوية لسيد مرعي الذي نصح الرئيس السادات بالتروي قبل اتخاذ قرار بشأن نائبه.. وقرر السادات وفق نصائح صهره مرعي، تشكيل هيئة مستشاري الرئيس لتقليص سلطات مبارك، أما منصور حسين فتولي إلي جوار منصبه »وزير الثقافة« منصب وزير شئون الرئاسة، وحصل علي صلاحيات واسعة، بحيث لا تصل ورقة من الحزب أو الحكومة أو الجيش إلي الرئيس قبل وصولها لمنصور حسن، وفرض الرقابة علي حسني مبارك، وهذا يساعد علي التخلص منه وبالتالي المشير أبوغزالة وبدأت الكراهية تعرف طريقها من السادات وزوجته إلي النبوي إسماعيل، لكن كان التخلص من النبوي مشوباً بالمخاطر، لأن لديه قوات أمن مركزي، التي تشكلت للحفاظ علي النظام وهي تأتمر بأمره.. لكن الأمر كان يحتاج لبعض الوقت، وزادت الكراهية نتيجة للرقابة الصارمة علي تصرفات أسرة السادات من النبوي إسماعيل.. هذه التقارير المسربة من أجهزة الاستخبارات عرفت طريقها إلي النشر منذ 30 عاماً، وتناولت الكثير من المعلومات التي تخص الأمن القومي، تحتاج للنظر إليها والتحقق منها، فهي أخطر بكثير من تضخم الثروات أو تهريب المليارات، لأن الأمر يطرح تساؤلاً في غاية الأهمية.. هو كيف كانت تحكم مصر.. ومن الذي كان يحكمها.. خاصة إذا ما علمنا، أن الأمر لا يتعلق بمبارك نفسه، فقد امتدت أيادي الـC.I.A إلي آخرين في عهد مبارك، وهو ما كشف عنه الستار، بوب وود ورد في كتابه عن الحروب الخفية للمخابرات.. وأشار فيه إلي تجنيد أحد المقربين من دائرة الرئيس وفي مكتبه بمعرفة المخابرات المركزية الأمريكية.. وكشف فيه قصة الابلاغ عن الطائرة التي أقلت المجموعة الفلسطينية »منفذي ضرب الباخرة إيفلي لاورو«، ولأن مبارك يعرف لغة المؤامرات، أوصي بأن من أبلغ المخابرات الأمريكية هو أبوغزالة لحرقه!
إذن القصة مرتبطة بالثروة والتخابر للوصول إلي السلطة وتحقيق الثروة عن أجل ذلك استغل مبارك سوء العلاقات بين السادات والأنظمة العربية، وغضب واشنطن منه، فأراد تصعيد الصدام بطريقة غامضة.. خاصة أن بداية الانهيار في علاقات السادات داخلياً وصلت مداها.. لكن انهيار العلاقات في مؤسسة الرئاسة هو الذي كان مؤشراً خطراً علي السادات، استثمره نائبه لصالحه.. فقد وصل مدي هذا الانهيار إلي الدوائر الأخري المحيطة بالرئاسة، وهو مجلس الشعب إذ تمرد 35 نائباً من حزب السادات »الموالين لتنظيم مبارك«، مع نواب المعارضة وإبراهيم شكري لمقاطعة إحدي جلسات البرلمان، التي قرر السادات أن يستضيف فيها »إسحاق فانون« رئيس إسرائيل أثناء زيارته للقاهرة، وأجبر السادات علي إلغاء خطاب فانون من مجلس الشعب من برنامج الزيارة.
كان تمرد نواب حزب السادات مرحلة أولي لنجاح مبارك في تكتيكه ضد الرئيس، كنوع من الاستفزاز والبدء في حملة اعتقالات لتأديب المعارضة، والخارجون عن طوعه من أعضاء حزبه.. وهو ما جري لتلتف الدائرة حول عنق السادات، وينتهي الأمر بعدها بشهور قليلة، لأن يغتال.. ومبارك وأبوغزالة بجواره، هذا هو مبارك الذي حكم مصر 30 سنة، وقبل أن يحكمها تسربت تلك المعلومات.
المصدر: البوابة الإلكترونية للوفد
ساحة النقاش