جابر عصفور
الآن، بعد أن هدأت الأحوال نسبياً، وسقط نظام قديم ليحل محله نظام جديد، وبعد أن قبلتُ منصب وزارة الثقافة، واستقلت منه بعد ثمانية أيام، أجد نفسي مضطراً لتوضيح أسباب قبولي لوزارة لم أمكث فيها سوى أيام معدودة، وأسباب استقالتي منها، على الأقل لأصدقاء أعزاء ومثقفين أصلاء على امتداد الوطن العربي، ساءهم قبولي هذا المنصب بقدر ما أبهجتهم استقالتي منه وقد طالبني من أحترمه منهم بتوضيح الأمر لهم، ولغيرهم من المعنيين من القراء، حتى لا يظل بعض سوء الظن عالقاً في أذهان الذين تظل لديهم أسئلة تحتاج إلى إجابة واضحة، في نوع من المصارحة الكاملة.
الحق أنني لم أندم على قبولي المنصب ولا على الاستقالة منه، على رغم سخط الكثيرين في الأولى وفرحتهم في الثانية، واسمحوا لي أن أبدأ منذ لحظة انفجار الأيام الخالدة التي ستظل مضيئة، ليس في التاريخ المصري وحده، وإنما في التاريخ العربي كله وكانت البداية في يوم الثلثاء الموافق الخامس والعشرين من كانون الثاني (يناير)، حيث تجمعت نواة من الشباب الصلب الوطني، تواصلت من طريق «النت» أداة هذه الحركة الشبابية، التي نقلت عدوى الثورة إلى فئات الشعب التي تعاطفت مع مطالب الشباب واتحدت معها، فالتفَّت حول حركتهم المباركة، ووصل عدد المتظاهرين إلى ما يقرب من خمسين ألفاً في ميدان التحرير وكان يمكن أي مراقب لمواقع «الفايسبوك» وغيرها أن يعرف أخبار هذه التظاهرة قبل يوم تجمعها وتضخمها اللافت، وكان المطلب الأساسي للمتظاهرين هو التغيير، والقضاء على الفساد الذي استشرى في كل مكان، وعلى الدولة البوليسية التي تسببت وحشية جنود أمنها في اغتيال الشاب خالد سعيد الذي تسمَّت مجموعة من مجموعات الشباب الثائر باسمه، وأخذت على عاتقها الثأر له، وتحقيق أحلامه الوطنية التي قُتِل دونها واستمرت التظاهرات الغاضبة إلى اليوم الثاني، بعد أن تحولت من تمرد شبابي إلى تمرد شعبي غاضب، أعدى بغضبه عواصم محافظات، مثل الإسكندرية والسويس والمحلة الكبرى التي هي قلعة صناعة الغزل والنسيج. وللأسف قام الأمن الذي هو المظهر الأول للدولة البوليسية بقمع المتظاهرين بوحشية بالغة، ولكنه لم يفلح في قمعهم على رغم مصفحاته وخراطيم مياهه ورصاصاته المطاطية، بل رصاصاته الحية أيضاً، فقد اكتسح الغضب الشعبي العارم كل الحواجز والمصفحات التي لم تنفع الشرطة وكان واضحاً أنه لا مفر من إحداث تغيير جذري لإرضاء المتظاهرين، وتحقيق مطالبهم العادلة، ولكن الغباء السياسي المعتاد الذي سمح بتزوير انتخابات مجلسي الشعب والشوري، وإشاعة الفساد في كل مكان، وتجويع الجماهير العريضة من الشعب الذي لم يعد يجد ملجأ ولا طعاماً أو دواء أو تعليماً، أقول استمر الغباء السياسي في سد أذنيه، وعندما أدرك عجز الشرطة استعان بالجيش، فكان احتجاج وزير الداخلية الخائن الذي أمر رجاله بالانسحاب من كل مواقعهم، وفتح أبواب السجون ليخرج ما يزيد على ثلاثين ألف سجين، مما أدى إلى قضاء المصريين ليالي من الرعب، بعد أن غاب الأمن تماماً، وكان ذلك في موازاة رئيس اتحاد عمال فاسد طالب رؤساء النقابات بالعمل على إجهاض التظاهرات العمالية، ولكن من الذي يستمع إلى كلام الفاسدين؟ لقد تواصلت التظاهرات التي شملت فئات الشعب كله وعندما نزلت القوات المسلحة لتعيد الأمن إلى الشارع المصري، أعلنت أنها لحماية المتظاهرين، ولا يمكن أن تطلق رصاصة واحدة ضدهم، فمهمتهم حماية الوطن من الأعداء وليس من أبنائه، وهتف الناس لوطنية الجيش الذي ظل يحمي الآلاف المؤلفة من المتظاهرين، وحماية الشوارع من المخربين والبلطجية الذين انفلتوا من سجونهم أو مناطقهم العشوائية وظلت ثورة الغضب الشعبي السلمية مستمرة لليوم الثالث، معلنة ضرورة التغيير الذي فرض نفسه على السلطة الحاكمة، فأقيلت وزارة أحمد نظيف التي لم تكن نظيفة، وأسند تشكيل وزارة جديدة الى أحمد شفيق المعروف بنزاهته وقدرته على الإنجاز.
وفي يوم الأحد الموافق الثلاثين من كانون الثاني (يناير) صدر قرار تكليف أحمد شفيق وتحددت مهام الوزارة في: 1- استعادة الاستقرار 2- الضرب بحزم على أيدي المفسدين والقضاء على الفساد كلية 3- تخفيف العبء عن كاهل الجماهير المسحوقة 4- محاصرة البطالة 5- اتخاذ خطوات حاسمة للإصلاح السياسي. وقد أعلن في موازاة ذلك عن إعادة انتخابات مجلس الشعب في الدوائر المطعون فيها، وبدء حوار صريح مع جميع القوى السياسية من دون استثناء، وفي مساء هذا اليوم اتصل بي الفريق أحمد شفيق لكي أقبل القيام بمهمة وزير الثقافة والإسهام في حكومة إنقاذ وطني ولم أقبل في البداية، ولكنه أوضح لي أولويات الوزارة ومهامها، ولم يكن عندي ما أعترض به عليها، ولكنني قلت له إنني رجل صريح، ولا أقبل إلا ما أقتنع به، ولا أعرف لماذا فهمت من هذه المكالمة أن وزارة الإنقاذ الوطني هذه جديدة، وخالية من الوجوه القديمة، وأعتقد أن هذا الفهم الخاطئ هو ما ألوم نفسي عليه إلى اليوم، فقد كان واجباً علي أن أغلّب سوء الظن في هذا الموقف، ولكنني لم أفعل. وبعد أن أنهى الرجل كلامه معي، أخبرني بأنهم سيعاودون الاتصال بي غداً، وبقيت أسأل نفسي عن سبب اختياري، وتذكرت أنني كنت ذهبت مع مجموعة من المثقفين للقاء الرئيس السابق مبارك، بناء على طلبه، وعندما جاء دوري في الكلام تحدثت بإسهاب عن كارثة الثقافة المصرية، واستمع لي الرئيس السابق في صبر، وبعد أن انتهيت، سألني: وما العمل؟ فشرحت له ما أزال أتصور أنه استراتيجية جديدة للعمل الثقافي على مستوى الدولة كلها، وعلى نحو تتفاعل فيه وزارة الثقافة مع بقية وزارات الدولة من ناحية والمجتمع المدني بأحزابه وهيئاته وجمعياته من ناحية موازية، وقلت لنفسي لعل الرئيس السابق تذكر ذلك فاقترح اسمي، أو لعل رئيس الوزراء قرأ ما كتبت عن ذلك في «الأهرام»، فخطر اسمي على باله ولكن بقي الخوف من الذين يمكن أن يهاجموني لقبول منصب الوزير في هذا الظرف الخطير، ولكنني استفتيت قلبي كالعادة، وقلت إن أهداف وزارة الإنقاذ الوطني لا غبار عليها ما دام من مهامها الأولى الإصلاح السياسي، ومحاربة الفساد، وتحقيق العدل الاجتماعي وحتى لو كانت نسبة النجاح قليلة، فليس من الوطنية أن يتخلى المرء عن الإسهام في مهمة إنقاذ وطنه في مرحلة انتقالية عسيرة، أما عن أي اتهام يأتي بعد ذلك فلا بأس به عندما تتضح الحقائق الكاملة.
وهاتفني الدكتور زكريا عزمي رئيس الديوان الجمهوري، في صباح اليوم التالي، ليطلب مني الحضور لحلف اليمين، ولكي أطمئن سألته عن إمكان وجود حبيب العادلي القاتل الذي لا يشرفني الجلوس معه على منضدة واحدة، ولكنه طمأنني بأنني لن أجد أحداً من الوجوه السيئة السمعة، واطمأننت وتوكلت على الله ولكنني بمجرد أن شاهدت بقية زملاء الوزارة أصابني الإحباط، فكثير منهم يصعب إن لم يكن مستحيلاً أن أقتنع بالجلوس معه، ولا أستثني إلا قلة منها فايزة أبو النجا ومشيرة خطاب، وسمير رضوان وزير المال، وهو عالم جليل ونزيه وكدت أنسحب من المجموعة، ولكنني قلت لنفسي لقد تورطت بالفعل، فاصبر إلى اجتماع مجلس الوزراء، وعندئذ حدد موقفك النهائي، ومر اللقاء بعد اليمين في كلمات احتفالية، ولم يكن هناك مجال لنقاش جاد وكان المساء قد اقترب.
حماية المنشآت الثقافية
عدت إلى البيت مهموماً بما يمكن أن تسفر عنه الأيام القادمة وبدأت العمل مع زملائي في وزارة الثقافة وكانت الأولوية المطلقة لحماية المنشآت والمتاحف وقصور الثقافة والمسارح والأوبرا، واتفقنا على خطة أمنية على مدار ساعات اليوم، وكنت مرعوباً أن يقتحم البلطجية الذين انفلت عيارهم أي متحف... وعلى رغم كل الإحباطات، تم تدمير ونهب متحف مصطفى كامل في القلعة، وكذلك مسرح النيل في المنيل، ونحو عشرة قصور ثقافة ما بين تدمير جزئي وكلي على امتداد مصر، وظللت إلى أن رحلت من الوزارة مرعوباً من أن يقتحم أحد دار الكتب والوثائق القومية وغيرها، وفي وسط هذا الخوف، طلبت من زملائي أن يضع كل منهم تصوراً لتطوير جذري للمؤسسة التي يعمل بها، وبدأ العمل على تطوير مستويات الخطاب الثقافي، والانفتاح الكامل على ثقافة الشباب الثائر الذين كنت مع مطالبهم العادلة كلها، ولذلك لم أتردد في أن أطلب من رئيس الجمهورية السابق أن يستقيل من رئاسة الحزب الوطني الذي أفسد الحياة السياسية في مصر، وتبنى مؤامرة التوريث التي أطاحت بها أعاصير الثورة التي قادها شبابنا العظيم، محققاً آمال الوطن بكامل فئاته.
مع حركة الشباب
غرقت مع زملائي في دوامة العمل وقلوبنا مع حركة الشباب المتمرد التي سرعان ما تحولت إلى ثورة جماهيرية بكل معنى الكلمة، ولكن قوى الحزب الوطني الشريرة أبت إلا أن تضيف إلى شرورها القديمة ما هو أكثر فظاعة، فتحركت في يوم الأربعاء الدامي، واقتحمت ميدان التحرير في غزوة بربرية، هـدفها القضاء على الثورة السلمية للشباب المسالم الذي سقط منه الشهداء الذين تركوا جرحاً غائراً في نفوس المصريين جميعاً، وأسفاً بالغاً في داخلي على البقاء في حكومة تسمح بهذه الجريمة التي ارتكبها حزب مجرم بكل معنى الكلمة. وأذكر أنني يوم الأحـد الـسـادس من شباط (فبراير)، كنت أشاهد وزوجتي صور الشهداء يقدمها عمرو أديب، على إحدى القنوات الخاصة، وفوجئت بأنني أعرف بعضهم، فلم أملك سوى أن أذرف الدمع على هؤلاء الذين افتدوا الوطن ولم أنم إلا في الهزيع الأخير من الليل، وأستريح قليلاً للذهاب إلى أول وآخر جلسة حضرتها لمجلس الوزراء الذي ابتليت به.
وذهبت مستفزاً بالفعل، وما أن فتح باب الكلام حتى سارعت إلى تفريغ ما في نفسي، فبدأت بشكر القوات المسلحة على حماية الشعب المتظاهر، وانتقلت إلى ضرورة التحقيق الفوري وعقاب الجناة في كارثة الأربعاء الدامي، وتحدثت عن مأساة فقد ثلاثمئة شهيد، وقلت إن لا خروج من الأزمة التي نحن فيها، ولا إنقاذ للوطن إلا بتعديل هذه الحكومة لتصبح حكومة ائتلاف وطني، تضم ممثلين للقوى السياسية في الوطن، والخروج من احتكار الحزب الوطني للحياة السياسية، وحكيت للحضور كيف بكيت عندما رأيت على شاشة التلفاز صور الشهداء الذين شاهدت في صورهم صور أولادي. وما أن انتهيت من كلامي حتى تنفست الصعداء وكنت أتوقع الهجوم علي من زبانية الحزب الوطني الموجودين في الوزارة، ولكنني لم أتخيل أن الهجوم يصل إلى أقصى درجات العنف والاستنكار الصارخ والظاهر على الوجوه معاً، فنبهني مفيد شهاب إلى أنني أخرج عن جدول الأعمال، أما وزير الصحة عضو لجنة السياسات فقد اتهمني بأنني أبالغ في أرقام الشهداء التي رأى أنها أقل من ثلث الرقم الذي ذكرت، وانفعل أنس الفقي الذي أفسد الإعلام المصري، وضرب المنضدة بيديه، وهو يصيح في اهتياج قائلاً هذه حكومة الحزب الوطني، وهي إذا استعانت ببعض الخبراء، فإن هذا لا يعني سوى أنها وزارة حزب وطني... ودمدمت وزيرة القوى العاملة، وامتعض وجه وزير البترول الذي رأى أن الشباب الذين وصفتهم بأنهم ضمير مصر، هم مجموعة من البلطجية، وأضاف وزير الخارجية أن الأصابع الخارجية هي المسؤولة عما يحدث، ولم يتعاطف مع ما أقول سوى الدكتورة مشيرة خطاب التي أرادت أن تؤكد ما أقول، فنهشوها نهشاً، وقوطعت مرات إلى أن سكتت مرغمة وقضيت بقية الجلسة صامتاً، وأنا أقول لنفسي ستخون دم أبنائك الشهداء الذين سقطوا في ميدان التحرير إذا بقيت في هذا المجلس الذي يضم أمثال هؤلاء الوزراء، وقررت الاستقالة من دون تردد ولكنني لم أستطع تنفيذ ذلك إلا بعد يومين للأسف، كان عليّ فيهما، أن أنهي بعض ما كان علي الانتهاء منه في الوزارة، ولم يكن من المعقول أن أتخلى عن إنجازه على رغم الغضب الذي ملأني، وجاء يوم التاسع من شباط، وأكملت ما كان لا بد من أن أكمله وأرسلت الاستقالة إلى رئيس الوزراء وقلت له فيها بالنص:
«السيد الفريق أحمد شفيق رئيس مجلس الوزراء
تحية التقدير والاحترام
أرجو التفضل بقبول استقالتي من الوزارة، وذلك لاعتقادي بصعوبة إن لم يكن استحالة التغيير مع وجود المستفيدين الذين أسهموا في الوصول بالبلاد إلى ما نحن فيه، والذين ما كان ينبغي أن يبقوا في مناصبهم. لقد تصورت يا سيدي أنني أصبحت عضواً في حكومة إنقاذ وطني، ولكنني فوجئت بغلظة الاعتراض على ما كنت أقول مخلصاً لبلدي، عن أهمية الائتلاف الوطني، في تكوين الوزارة، وفوجئت بالتنبيه الخشن إلى أنها حكومة الحزب الوطني، وأنا لا أنتمي إلى هذا الحزب الذي يبدو أن رموزه لم تستوعب درس ما حدث، وأنها مصرّة على المضي بالوطن في طريق مسدود، والحق أنني لست منتمياً إلى أي حزب، فأنا حريص على استقلالي الفكري حرصي على الإيمان بالائتلاف الوطني وحتميته، خصوصاً في هذا المنعطف التاريخي الخطير، ولذلك لا أجد مفراً أمامي من الاستقالة، وإذا جاز لي أن أقول شيئاً بعد ذلك فهو تجديد إلحاحي على ضرورة تعديل الوزارة لكي تصبح وزارة ائتلاف وطني، وليس حكومة حزب وطني، وقد سبق أن كتبت في جريدة «الأهرام» عن الضرورة القصوى للائتلاف الوطني الذي لا مفر منه، إذا أردنا إنقاذ الوطن.
وتفضل سيدي رئيس الوزراء بتقبل عميق احترامي لشخصكم الكريم الذي لا أزال أجد فيه أملاً لتغيير حقيقي.
جابر عصفور
أستاذ النقد الأدبي
كلية الآداب - جامعة القاهرة»
ومن المهم أن أضيف أن ليس ما أقصده بالائتلاف الوطني المعنى الكلاسيكي المستخدم في العلوم السياسية، وإنما الإلحاح على أن الإنقاذ الوطني لا يمكن أن يتم بقوة سياسية واحدة، وإنما بتضافر كل القوى السياسية، ما ظلت تؤمن بضرورة وجود دولة مدنية حديثة، قائمة على تداول السلطة، ومرجعيتها الوحيدة هي الدستور الذي يصوغه المواطنون لتحقيق دولة العدل الاجتماعي والتقدم بكل معانيه، ولقد ذهبت إلى منزلي، بعد أن أرسلت الاستقالة، واستغرقت في نوم عميق، فلم أسمع التليفونات التي لم تنقطع عن الرنين، بعد أن تسرب الخبر إلى الصحافة، فتناوب ابني وزوجته وزوجتي الرد، أما أنا فقد استيقظت في الصباح مرتاح الضمير، شاعراً أن كابوساً قد انزاح من على صدري وبدأت في الترتيب لعودتي إلى الجامعة، متخلياً عن أي منصب عام، فقد خدمت في مناصب بما يكفيني ويرضي ضميري، عاقداً العزم أن أتفرغ تماماً للقراءة والكتابة.
وجاء العاشر من شباط وخبر الاستقالة لأسباب صحية، يملأ الصحف التي لم ينطلِ عليها السبب، وأوضحت الأخبار أن الاستقالة ترجع إلى عدم الاستجابة إلى الشروط التي اشترطتها، وكنت قد أبلغت محررها بأنني سأستقيل إذا لم يتحقق لي ما أريد... وتداعت الأحداث، في الأيام المقبلة التي تلت ذلك، وتجبر الثورة مبارك على التخلي عن سلطاته لنائبه، ولكن ثوار الشباب لم يكتفوا، فقد أصبح مطلبهم رحيل مبارك وبالفعل نجحوا في ما ظنناه مستحيلاً، وأعلن مبارك تنحيه يوم السبت (11/2) وترك سلطته للمجلس العسكري الأعلى الذي أعلن أنه سيعمل على وجود حكومة مدنية ديموقراطية قائمة على تداول السلطة، ولا يأتي يوم الأحد إلا بعد أن سهرت الملايين في ميدان التحرير وما حوله، محتفلة بالخلاص، وبعدها يعود الميدان إلى الهدوء نسبياً، بعد أن قام الشباب بتنظيفه، خصوصاً بعد أن نجحت ثورتهم التي لم يكن يتوقعها أحد، وتبدأ مسيرة ثورة قلبت الحياة السياسية المصرية، ووضعتها الوضع السليم، فأصبح ما قبل الخامس والعشرين من كانون الثاني (يناير) يختلف كلياً عما بعده وبدأت عجلة الثورة تدور، لا يستطيع أحد إيقافها.
أما أنا فأجلس في منزلي، منفرداً في غرفة مكتبي أرقب الأحداث المتسارعة، شاعراً بالتفاؤل ولا أشعر إلا بالرضا عما فعلت، فلو لم يكن في دخولي الوزارة واستقالتي منها إلا إسهامي مع زملائي في الحفاظ على ثروة مصر المتحفية، والتعجيل بإقالة من بقي من الوزراء الفاسدين.
كانت تجربة مؤلمة، خرجت منها أقوى وأكثر عزماً على التفرغ للكتابة والقراءة، حيث عالمي الأثير وها أنذا أتطلع إلى المستقبل، وأرى استمرار تهاوي عروش الطغاة واحداً بعد الآخر، وانتصار ثورة الشباب التي حررتني من الداخل وحررت الحياة حولي في الخارج، وأخذت تجاوز حدود مصر إلى غيرها.
ساحة النقاش