أمل خيري

على الرغم من عمرها القصير الذى لا يتعدى ثلاث سنوات، فإن منظمة "Charity Water" نجحت فى تأمين مياه الشرب النقية والصالحة للشرب لأكثر من مليون فقير فى الدول النامية، من خلال أكثر من 2000 مشروع، فى سبع عشرة دولة.

"Charity Water" هى منظمة غير ربحية تسعى للعمل على وصول مياه نقية وصالحة للشرب ومأمونة للفقراء فى الدول النامية، وكل التبرعات التى تحصل عليها توجهها لمشروعات مبتكرة؛ لتنقية المياه فى المناطق الفقيرة، إيمانا منها بالمسئولية الاجتماعية تجاه المجتمع، خاصة فى الدول النامية.

قصة خيرية المياه

يروى سكوت هاريسون مؤسس "Charity Water" قصة المنظمة التى بدأت عام 2004، حين خرج إلى شوارع مدينة نيويورك هائما على وجهه، بعد أن قضى العديد من سنوات عمره فى السهر فى النوادى الليلية، وارتداء الملابس الفاخرة، والعيش بأنانية دون مبالاة بالآخرين؛ ليكتشف شعوره الخانق بالفراغ الروحى واليأس، فتوجه فى رحلة لشواطئ غرب إفريقيا لرغبته فى نوع من التغيير.

ولدى وصوله عاوده الشعور بالإحباط وبدأ يراجع حياته السابقة المفرطة فى الأنانية والبعد عن الإيمان؛ فتساءل فى نفسه كيف يمكننى إحداث تغيير جذرى وشامل فى حياتى؟ وما الذى جعلنى أراجع نظرتى للحياة؟ فكان أن التحق بفريق من المتطوعين على متن مستشفى عائم، تنتمى لمجموعة تطوعية تدعى سفن الرحمة، وهى منظمة إنسانية تقدم الرعاية الطبية المجانية فى الدول الأكثر فقرا فى العالم، وحين أراد الانضمام لفريق العمل المتطوع، فوجئ أن هذه المنظمة تمارس أنشطتها الإنسانية منذ خمسة وعشرين عاما، وهو لم يسمع حتى بهم.

وأثناء فترة تطوعه أتيحت له فرصة هائلة لمراجعة أسلوب حياته السابقة؛ فمن مدينته الفسيحة إلى مقصورة السفينة، التى لا تتعدى مساحتها أربعة عشر مترا مربعا، والتى تضم عدة أسِرَّة بدورين، تحوى العديد من المتطوعين، وتشاركهم فى المقصورة الكثير من الحشرات الزاحفة، ومن المطاعم الفاخرة إلى حجرة الطعام الشبيهة بمعسكرات الجيش، والتى تسع أربعمائة شخص متراصين لتناول أسوأ أنواع الأطعمة، لحظتها شعر بالأسى والفقر.

إلا أنه بمجرد وصوله الشاطئ وإطلاعه على مقدار المعاناة التى يعانى منها الفقراء فى هذه البقعة من الأرض؛ أدرك تماما أنه على الرغم من كل ما لاقاه على سطح السفينة، فإنه يعيش فيها كالملك مقارنة بحال هؤلاء الفقراء المرضى، وبدأ فى التقاط الصور وتوثيق المعاناة التى يعيشها هؤلاء البشر، وهو لا يقوى على منع دموعه من التساقط.

تبرع بحفل مولدك

قضى سكوت عدة أشهر فى زيارة مستعمرة لمرضى الجذام بـ "ليبريا"، وعدد من القرى النائية المحيطة بها، ليجد نفسه وجها لوجه مع ملايين الأشخاص الذين يعيشون فى أشد حالات الفقر؛ حيث يعيشون على أقل من دولار واحد يوميا، بلا كهرباء، ولا مياه نقية، ولا صرف صحى.

وهناك صدم بأعداد المرضى المصابين بتشقق الشفاه والأورام والعمى، وغيرها من الأمراض البكتيرية المنقولة عن طريق مياه الشرب الملوثة، وخلال ثمانية أشهر التقى سكوت بالعديد من المرضى الذين تعلم منهم الشجاعة والصبر، فكثير من هؤلاء قضى سنوات عمره يعانى من الموت البطيء، وهنا قرر سكوت أن يفعل شيئا من أجل هؤلاء؛ لضمان حصولهم على مياه شرب نقية حتى يستعيد إنسانيته ومسئوليته تجاه بنى جلدته.

فكانت أول مبادرة له بإعلان عزمه على إلغاء احتفاله بيوم مولده الحادى والثلاثين، والتبرع بتكاليف الحفل لصالح توصيل مياه نقية للفقراء، ودعا أصدقاءه وأقاربه للتبرع بقيمة الهدايا التى كانوا سيقدمونها له، وبالفعل تبرع أكثر من 700 شخص بالمال الذى ساهم فى تمويل أول مشروعات Charity Water؛ حيث تم حفر ستة آبار فى شمال أوغندا.

ومنذ ذلك الوقت شارك المئات من معارف سكوت فى الإقلاع عن عادة الاحتفال بيوم مولدهم لصالح التبرع لمشروعات تنقية المياه للمحرومين، ويقول سكوت إن ما نحتاج إليه فعلا الاستغناء عن 2.5 مليون حفل ميلاد لإنقاذ 100 مليون شخص من الموت بالتبرع بتكاليف هذه الاحتفالات لتمويل مشروعات تنقية المياه.

لماذا المياه؟

هناك ما يقرب من مليار شخص على سطح الأرض لا يحصلون على مياه نقية وصالحة للشرب، وهذه المياه غير النقية، إضافة لغياب الصرف الصحى، هما السببان الرئيسيان لأكثر من 80% من الأمراض، التى تتسبب فى وفاة المزيد من الناس كل عام، والتى تفوق كثيرا أعداد قتلى الحروب والمعارك الدموية، ويكون الأطفال غالبا هم الضحايا الأساسية لهذه الأمراض كالإسهال والدوسنتاريا.

فمن بين 42000 حالة وفاة أسبوعية؛ بسبب المياه الملوثة، تبلغ نسبة الأطفال دون سن الخامسة 90%، والحل ببساطة يكمن فى تحسين إمدادات المياه والصرف الصحى؛ لذا يأتى مشروع Charity Water لضمان الحصول على مياه نقية مأمونة للشرب للنساء والأطفال فى الدول النامية.

ففى إفريقيا وحدها يقضى السكان 40 مليار ساعة سنويا فى السير للحصول على المياه من أقرب مصدر، يتعرض خلالها الأطفال والنساء للقتل والأمراض والخطر الدائم، وبإقامة مشروعات لتنقية المياه تتحسن سبل معيشة هؤلاء الفقراء، كما يمكن ضمان تعليم الأطفال، وحماية النساء، وتشغيل العاطلين.

إضافة لذلك فإن إفريقيا تعانى من خسارة اقتصادية هائلة؛ بسبب نقص المياه الصالحة للشرب والصرف الصحى، تصل إلى 28 مليار دولار سنويا، أو حوالى 5 ٪ من الناتج المحلى الإجمالي.

وفى المناطق التى تتوافر فيها المياه يستحوذ عدد قليل من السكان على المياه ليبيعوها بأسعار مرتفعة؛ مما يضطر الأسر الأكثر فقرا لإنفاق ما يصل إلى 11 ٪ من الدخل على ضرورة من ضرورات الحياة الأساسية.

ومع ذلك فإن هذه المياه التى يدفعون مقابلها هذا المال غالبا ما تكون ملوثة، تؤدى للعديد من الأمراض، التى تسبب الموت البطيء.

فى الوقت نفسه يحتاج الناس للمياه النقية فى عمليات الرى للحصول على الغذاء، وندرة هذه المياه تؤدى لعدم كفاية حاجات البشر من الغذاء، وهنا تنتشر المجاعات والحروب على موارد المياه والغذاء، وبالتالى فإن هناك حاجة ماسة لمشروعات لتنقية المياه وضمان وصولها لمستحقيها من الفقراء بلا مقابل، ويشارك فى هذه المشروعات الرجال والنساء على حد سواء، من خلال تنمية روح المبادرة والعمل الجماعي.

الاستثمار الذكى

حتى العام الماضى نجحت Charity Water فى إيصال المياه النقية لأكثر من مليون شخص، كانوا فيما سبق يسيرون لساعات وأيام متواصلة للحصول على المياه، والآن أصبحت المياه النقية فى متناول أيديهم، وتوافرت محطات لغسل الأيدى، ومراحيض عامة صحية فى أنحاء هذه المجتمعات التى كانت قبل سنوات تعانى من الأمراض المسببة للعدوى لانعدام الصرف الصحى وتلوث المياه.

والكثير الآن من هؤلاء المستفيدين صار فى مقدورهم التفرغ لزراعة حدائق صغيرة للخضروات حول بيوتهم الصغيرة، وأصبح بوسع الأطفال الالتحاق بالمدارس، وقضاء الوقت فى المذاكرة بدلا من السير المتواصل للبحث عن مصدر للمياه، ويؤكد أصحاب مبادرة Charity Water أن الاستثمار فى البنية التحتية للمياه هو استثمار ذكى وآمن، فيمكن بواسطة عشرين دولارا فقط توفير المياه النقية لشخص واحد لمدة عشرين عاما كاملة.

وتقوم آلية عمل Charity Water على إطلاق الحملات الإلكترونية للتبرع لصالح مشروعات تنقية المياه ليس عبر المشروعات القومية الكبرى، بل من خلال وسائل بسيطة جدا كحفر الآبار، أو الفلاتر الرملية، أو إقامة مجمعات لمياه الأمطار.

أقيمت العديد من المشروعات فى إثيوبيا، وبنجلاديش، وملاوى، وأوغندا، وليبريا، وهاييتى، وكينيا، وكوت ديفوار، وكمبوديا، وسيراليون، ورواندا وتنزانيا، وغيرها من الدول النامية. وتحرص Charity Water على الاعتماد على الشركاء المحليين فى إنشاء وتنفيذ مشروعات المياه؛ وذلك لأن هؤلاء الشركاء هم الأكثر دراية بالأرض والثقافة والسكان، وبالتالى يمكنهم تحديد تكنولوجيا المياه الأكثر ملاءمة، كما أنهم يشاركون بتقديم بيانات وخرائط تفصيلية عليها إحداثيات المواقع المفترض إقامة المشروعات فيها.

والفكرة الأساسية للمنظمة ليست فقط العمل على توصيل المياه النقية، بل إقامة مشروعات مستدامة يعمل فيها السكان المحليون، فيحصلون على دخل لعائلاتهم، وبالتالى خفض معدلات البطالة، والعمل على تحسين أحوال المعيشة والرفاهية للفئات المحرومة والفقيرة، ومشاركة الأفراد أنفسهم فى تنمية المجتمع بكاملهـ بدلا من الاعتماد على الصدقات والمعونات الموسمية.

المياه للمدارس

من بين الحملات التى أطلقتها منظمة Charity Water، حملة "المياه للمدارس"، وهى عبارة عن حملة بين طلاب المدارس للتوعية بالحاجة لوصول مياه نقية للفقراء فى الدول النامية، فالأطفال فى عمر الثامنة فما بعدها يشاركون آباءهم فى رحلة الوصول إلى المياه، والتى يقضون فيها حوالى ثلاث ساعات يوميا، وبالتالى لا يتمكنون من حضور الفصول الدراسية فيكثر غيابهم، وكثيرا ما يتسربون من التعليم لهذا السبب.

ومشروع المياه للمدارس يضم ثلاثة مكونات أساسية هى: الماء، وغسل الأيدى، والمراحيض الصحية، فالمشروع الواحد يمكنه أن يخدم أكثر من ألف تلميذ، وكذلك مجتمعهم المحيط؛ حيث يحصل التلاميذ داخل المدرسة على مياه نقية للشرب، ويعودون كذلك لعائلاتهم بفائض هذه المياه.

كما يتمكن التلاميذ من غسل أيديهم، وبالتالى يتم خفض معدلات الوفيات بنسبة 50% تقريبا، فالمشروع يعمل على توفير صنابير للمياه لتدريب الأطفال على غسل أيديهم بمياه نقية، واتباع عادات صحية، ويمول المشروع كذلك إنشاء مراحيض صحية تضمن خصوصية وكرامة التلاميذ، وفى الوقت نفسه تحافظ على نقاء موارد المياه وعدم تسرب فضلات الصرف الصحى للتربة.

ويحض العاملون على مبادرة Charity Water على التعرف على المشروعات التى أقيمت، وكذلك المشروعات المعتزم إقامتها، ومن ثم التبرع لصالح هذه المشروعات، كنوع من ممارسة المسئولية الاجتماعية الفردية والجماعية تجاه الفقراء والمعوزين، فدولار واحد يمكن أن يساهم فى إنقاذ حياة شخص لعام كامل.

ويضم موقع Charity Water العديد من قصص النجاح والصور ومقاطع الفيديو من أرض الواقع لمشروعات أقيمت فى عديد من الدول النامية، ويمكن للجميع التعرف على ميزانية المنظمة من إيرادات ونفقات وفق مفهوم الشفافية والثقة؛ كى يضمن جميع المتبرعين وصول أموالهم لمستحقيها.

كما يضم الموقع متجرا إلكترونيا لشراء هدايا منوعة تحمل شعار المنظمة يتم التبرع بثمنها لصالح مشروعات تنقية المياه، ويمكن الشراء مباشرة بوسائل الدفع الإلكتروني، ومن لا يرغب فى الشراء يمكنه تقديم تبرع نقدى للمشروعات، أيضا من خلال وسائل الدفع الإلكتروني، ويشجع الموقع كذلك الجميع للمشاركة فى حملات المياه النقية للمحرومين، سواء بالتبرع أو التدوين أو حملات الدعاية.

ghiras

Amal Khairy researcher

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

127,325