سبيل ، وسلسبيل
*************
مياه الزير باردة برغم حر الصيف الشديد، وهي تقبع تحت "عشة" سقفها من الجريد الناشف الذى تدلى خوصه حتى وقع أرضا، السيدة التي وهبته للطريق عقيم لا تلد، وضعته كي يشرب منه الشارد والوارد، وعلى حمالته التي بنيت من الطوب ودهنت ببعض الطين حتى يبس، لوّنتها ببعض الجير الأبيض، وجعلت أحد المارة يكتب عليها: ندعوكم لقراءة الفاتحة لصاحبة هذا السبيل بنية الحمل والولادة.. مرّ عليه صبى صغير متشرد، وعندما قرأها وقف أمامها طويلا وقال: لو تركَتْ عنوانها لذهبتُ إليها، وقلت: لها أنا الولد الذى أرسله لك الرب دون عناء الحمل والولادة، ثم انصرف يطرق الأبواب يطلب صدقة تشبع جوعه. ثم مرّ رجل على السبيل، وعندما اغترف منه شربة ماء وشعر بالارتواء جلس بجوار الزير يطلب من رطوبة جسمه بعض الهواء البارد من الحر، وعندما قرأ المكتوب انتشى وشرد لحظات يفكر ثم همس لنفسه، لو كان زوجها فحلا لروى أرضها بالأطفال، آه لو أعرف عنوانها فأذهب لها كي أروي أرضها بما تريد، وأخذته سِنة من نوم، وغاب في انتشائه حتى ابتلت ثيابه بماء الزير الذى يتساقط من الشاربين، وعندما استيقظ كان ماؤه قد اختلط بماء الزير والوحل على الأرض، فنبتت حشيشة خضراء بجوار الزير، نظر إليها ومضى وعلى وجهه ابتسامة رضى. ثم مرت امرأة تحمل طفلا وتجّر اثنين، تنهر الكبير ليتقدم، وتمسك بيد الصغير حتى لا يتأخر، عندما رأت الزير، وكأن النجاة قد أتتها، فكم بكى الصغار في هذا الحر رغبة في شربة ماء والطريق طويل من البيت وحتى بيت أهلها الذى تقصده غاضبة من زوجها، جلست المرأة تحت العشة، وأمسكت بالماء تسقى أولادها وتروى عطشها وتمسح بقايا الدمع على وجهها، انتعشت لبرودة الماء وصمت الأطفال، ونسمة الهواء التي لفحت وجهها، تذكرت أيامها الأولى في بيت زوجها، والسعادة التي كانت تملأها، والجسد الممشوق الذى تتخايل به، ويترك زوجها يلهث وراءها، ثم نظرت إلى أطفالها، الذين كبلوها بقيودهم وطلباتهم وجعلوا من أيامها جحيما مع زوجها فلا هي تستطيع إرضاءه، ولا هو يتحمل ما آلت إليه، ثم لمحت ما دوّن على حاملة الزير وخطر لها أن لو كان هناك عنوان لذهبت إلى تلك المرأة ووهبت لها أحد أطفالها، وتركته عندها هبة من الله لها دون عناء، لعلها ترضى، ولعل زوجها يرضى، وتعود لها السعادة التي فقدتها، وبعد أن ارتاحت وشعرت بقوتها تعود لها، وابتسامة أطفالها تجعل منهم أقماراً يشع ضوؤها ليلا ونهارا، ضمتهم لحضنها وشعرت بحركة غريبة في بطنها، تنقبض وتنبسط فرحة بتلك الضمة وكأنهم مازالوا فى الرحم، ثم خطر لها سؤال توجهت به إلى السماء، لماذا جعلتني أرنبة ألد كلما ضاجعني زوجي، وحرمتها هي، ثم انتبهت إلى ضحكات أطفالها، وعرفت لماذا سميت بـ"سلسبيل".
ساحة النقاش