نحو قـانون أسرة أكثر عـدالـة

هذا الموقع خاص بعرض مقترح بتعديل قوانين الأحوال الشخصية

لقد برزت العلاقة ما بين الدين والسياسة كأحد أهم شواغل القوى الوطنية السياسية وهى تتلمس طريقها فى بناء المستقبل واختيار طريق التغيير انطلاقا من ثورة 25 يناير. ولا نبتعد كثيرا عن الصواب إذا قلنا إن المشهد السياسى ــ الذى لعبت فيه الكتلة الصامتة دور الحاضر الغائب ــ انتهى إلى طرف يطالب بدولة مدنية يقر بهويتها الثقافية الإسلامية ويقبل ــ راضيا أو مضطرا ــ بنص الدستور على ديانتها، مقابل طرف يرفع شعار دولة مدنية ذات مرجعية دينية إسلامية. وتجلت قيم الحرية والعدالة والمساواة كأرضية مشتركة اتفق عليها ــ نظريا أو خطابيا ــ طرفا الصراع السياسى الدائر فى مصر، بصفتها أساس مفهوم المواطنة فى الدولة المدنية وفى نفس الوقت أساس مبادئ الشريعة الإسلامية. وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال يفرض نفسه بقوة: ما هى حقيقة الفروق بين الشعارين على أرض الواقع؟

ثمة قضايا تسلط الضوء بقوة على بعض إشكاليات بناء الدولة المدنية، خصوصا فى ظل المرجعيات المتداخلة فى تشكيل معنى المواطنة بالنسبة لبعض الفئات الاجتماعية، مثل «المرأة» والأقباط». وتنبغى هنا الإشارة إلى أن هذه فئات تُقام بإبراز أحد محددات الهوية على حساب غيره (الدين أو النوع على حساب الطبقة مثلا)، ومن هنا فهى فئات تحليلية أكثر من كونها اجتماعية.

<<<
لا يوجد أبلغ من قانون الأحوال الشخصية كمثال يبرز جوانب معينة من إشكاليات المواطنة فى مصر على مر تاريخها الحديث. ففى حين تتمتع النساء فى المجال العام بالحقوق المرتبطة بتعريف المواطنة، يضع هذا القانون للنساء تعريفا فى «المجال الخاص» بصفتهن رعايا يقعن تحت قوامة الرجال ولا يتمتعن بنفس حقوق الذكور فى الزواج والطلاق، والميراث، والولاية على الأطفال.

إن عملية ترجمة الشريعة الإسلامية إلى نصوص قانونية سارية مسألة اقتصرت تاريخيا على مجال الأحوال الشخصية، أى ما يمس حقوق النساء فى المجال الخاص، وفيما عدا ذلك كان بوسع الدولة «علمنة» سائر سياساتها وقوانينها. وهى مسألة نشأت واستمرت أشبه ما تكون بصفقة أبدية فى موازين القوى بين الدولة واحتياجاتها العصرية والتيارات التحديثية فى المجتمع من جهة، وبين جبهة التيارات المحافظة والدينية من جهة أخرى، شكل فيها قانون الأحوال الشخصية الخط الأحمر أمام الدولة التى فيما عدا ذلك كان بوسعها فرض قدر كبير من المساواة بين النساء والرجال فى المجال العام، أى فى الحقوق السياسية وقوانين العمل، لتلبية احتياجات الدولة الحديثة. وعلى مر عدة عقود اختلفت فيها توجهات الدولة السياسية والاقتصادية ومرجعيات المجتمع المدنى، ظل هذا الوضع قائما بدون تغيير يذكر.

ولأن الحديث عن المواطنة والدولة المدنية هو حديث الساعة، لابد من ثمة مكان لهذا الملف الشائك فى الجدل السياسى والمجتمعى حول الديمقراطية. إذا كانت الديمقراطية تعنى سيادة رأى الأغلبية السياسية، فهذا الحق مشروط بأن تلتزم الأغلبية بمبدأ المساواة بين الأفراد فى الحقوق. أمام هذه المخالفة الصريحة ــ فى حق النساء ــ لأحد مبادئ الديمقراطية، هل نجد مبدأ آخر يعيننا على الخروج من هذا المأزق بشكل أو آخر؟ إذا اتفقت الأغلبية على انتقاص حقوق المواطنة للنساء، فهل يجب استفتاء فئة النساء نفسها بصفتها الفئة (الاجتماعية) المعنية بهذا التمييز الذى اختصتها به الأغلبية (السياسية)؟ وإذا وافقت أغلبية النساء، فماذا عن حقوق الأقلية من النساء التى تطالب بحق المواطنة غير منقوصا؟ وأخيرا، ما هى الشرعية التى تستند إليها الدولة المدنية الديمقراطية فى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية فى مسائل الميراث على المواطنات المصريات المسيحيات؟

<<<
هذه قضية لم تدخل حيز الجدل السياسى، لا من قبل ثورة 25 يناير ولا بعدها. وإذا كانت التيارات المحافظة والدينية والإسلامية قد حسمت موقفها تاريخيا، فما هو موقف التيار الليبرالى أو العلمانى أو المدنى؟ تنص مبادئ الأحزاب الليبرالية على ضرورة إلغاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة، فما هى الترجمة العملية لهذا الشعار؟ هل تعتزم هذه الأحزاب المطالبة بحقوق قانونية متساوية للنساء من منطلق مبدأ المواطنة؟ وإذا ثبت أن أرض النساء تقع خارج الحدود الشرعية للمواطنة، فهل من الممكن أن تقوم القوى «الأكثر انفتاحا» ــ علمانية كانت أم دينية ــ باستدعاء قيم الحرية والعدالة والمساواة، للمطالبة بتغيير من منطلق المبادئ المشتركة بين مرجعية المواطنة ومرجعية الدين؟ «إذا كان من المباح شرعا ــ ولتحقيق العدالة الحقيقية ــ ألا يقام حد قطع اليد على سارق فى مجتمع لم ينجح فى أن يحمى كل فرد من الجوع، فهل يمكن مناقشة معنى العدالة فى أن ترث المرأة نصف نصيب الرجل فى مجتمع يفرض فيه واقع الحياة على ملايين النساء أن يقمن بأشق أنواع العمل بأدنى الأجور ليعلن أطفالهن، بل ليعلن أنفسهن بدون مساعدة من أحد»

هذا التوتر بين حقوق الفرد والجماعة، بين القانون المدنى والشريعة الدينية، يفرض وجوده أيضا فى حالة المواطنين المسيحيين. ولعلنا نجد مثالا قويا فى القضية التى تفجرت فى أواخر عام 2008 بسبب التعارض ما بين شرعية الدولة وشرعية الكنيسة. فقد حكمت المحكمة الإدارية العليا لصالح رجل من الطائفة الأرثوذكسية مؤيدة حقه فى الزواج مرة أخرى، ولكن الكنيسة أصرت على الرفض من منطلق عدم اعترافها بطلاق لغير علة الزنا. وأثارت هذه القضية ضجة اجتماعية كبيرة، وارتفعت الأصوات تطالب الكنيسة باحترام الدولة وقضائها. وفى حين جاء موقف عدد كبير من الأقباط مساندا لموقف الكنيسة القائل بأنه لا شرع فوق شرع الله وكلام الإنجيل، تبلورت مواقف أخرى، منها رأى يدعو إلى إلزام الدولة بالسماح لمواطنيها بالزواج من خلال الشهر العقارى، وبذلك لا تضطر الكنيسة إلى مخالفة التعاليم الدينية ولا يضطر المواطن إلى التنازل عن حقه فى الزواج.

يتفق أغلب المواطنين ــ مسلمين ومسيحيين ــ على رفض فكرة الزواج المدنى، فهل يجوز أن تتمسك الدولة بإتاحته كإمكانية أمام من يشاء من الأقلية ــ الاجتماعية ــ التى تجد فيه الحل الوحيد لحماية حقوق الفرد وحرياته؟ إن الدولة المدنية تحمى حق الأفراد (الملتزمين) فى ممارسة الدين، وليس من مهمتها أن تحمى الدين من الأفراد (غير الملتزمين). من حقوق المواطنة أن يتمكن الفرد من طاعة الله وممارسة شعائر دينه والالتزام بما يراه من تعاليمه، ولكن ليس من مسئوليات المواطنة أن يحاول الفرد أو الجماعة فرض الالتزام الدينى بقوة القانون، وإن ظل لهم حق الدعوة والتبشير عن طريق المؤسسات الاجتماعية الدينية. مرة أخرى هذه إشكالية لا تأخذ حقها من النقاش العام، وإن كان موقف التيار الدينى معروف، فما هو موقف التيارات الأخرى، هل تجد فى المواطنة بمفهومها الليبرالى شرعيتها؟ إن العدالة قيمة مطلقة ولكن معايير العدل والظلم تتشكل فى سياقات، فهل «الثقافة المصرية السائدة» شىء لا يخضع للزمن والظروف التاريخية، أم ينبغى النظر إليها كمرجعية قابلة للتطوير من داخلها؟

<<<
إن هذه التساؤلات لا تعبر عن اعتقاد بأن التغيير القانونى كفيل وحده بتغيير الأفكار والممارسات وتحقيق المساواة على أرض الواقع، بقدر ما ترمى إلى إعادة صياغة قضايا قديمة بمفردات ما بعد ثورة 25 يناير، وبقدر ما ترى فى فتح باب النقاش ورفع سقفه شوط هام على طريق ممارسة الديمقراطية وتعلم المواطنة وبناء مجتمع جديد يتمتع بالحرية ويواجه مسئولياتها.

 

المصدر: الشروق
gawahereltaher

مؤسسة قضايا المرأة المصرية

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 63 مشاهدة
نشرت فى 7 إبريل 2012 بواسطة gawahereltaher
gawahereltaher
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

11,537