أدركت صباح الدنيا ومعها أدركت نفور أمها منها وكراهيتها لها والقساوة عليها ، تنبسط أساريرها لكل إخوتها فلا تنقبض إلا معها ، كثيرة الصريخ بها وشتمها ، وحين يطعمون تبقي صباح علي رؤوسهم لتلبية ما يطلبون فلا تذوق ذواقا إلا بعد فراغهم ومن الفتات الذي يتركون ، تشتري أمها فاخر الثياب لأخواتها وهي لا نصيب لها إلا من الردئ ، لا تعرف اللهو كيف يكون غير أنها كانت تختلس النظرات إلي أترابها في لهوهم من نافذة البيت وويل لها إن أبصرتها أمها تنظر .
‏كبرت صباح وكبرت معها جفوة أمها وقساوتها ، حرمتها من التعليم وأوقفتها علي خدمة البيت ، تقوم علي رعاية الماشية وإعداد الطعام وغسل ثياب الأسرة ، ولم تكن تسلم من بطش أمها إن توانت عن تنفيذ أمر لها .
‏في هذا البؤس بلغت صباح مبلغ الرشد وتقدم لخطبتها من هو في عمر أبيها وعلي الفور باركت أمها بالموافقة ، وكأنها تري ابنتها رجسا يجب التطهر منه سريعا وبأي وسيلة تتاح ، لم تعترض صباح وأني لها أن تعترض وأمها قد باركت ، وأمضت ليالي طوالا في سهاد وبكاء وألم وخوف ، حتي حان الموعد المضروب للزواج ، لم تعرف صباح طعما للسعادة التي تبلغ ذروتها بيوم الزفاف ، ساهمة واجفة يعتصر الألم قلبها غير أن شيئا من الأمل كان يداعبها أن تذهب إلي بيت قد يكون فيه انعتاقها من هذا العذاب الأليم ، ومضت ليلة العرس وخرجت صباح بصحبة زوجها وركبت السيارة بجواره تتقاذفها المشاعر بكل ألوانها ، والخوف كان سيد هذه المشاعر .
‏ما إن وطأت صباح بيت زوجها في ليلة عرسها حتي استقبلتها أخت لزوجها بوجه عابس ، هي عانس فاتها القطار وذلك يكفي لحقن صدرها بالحقد والبغضاء ، ثم الأخ الأكبر لزوجها متجهم الوجه يصدر أوامره بصوت جهوري لأخيه أن يصعد بعروسه سريعا ولا يتمهل ، وكانت تلك إشارات لا تبشر بخير قرأتها صباح فتبددت بها بوادر الأمل الذي داعبها ، وانطفأ بصيص الضوء أمام عينيها ، صعدت خلف زوجها وقد اغتمت وتملكها ألم يعصر قلبها فلم يترك للسعادة فيه من أثر .
‏في غلس الفجر من صبيحة عرسها استفاقت صباح من طرق عنيف علي باب حجرتها فقامت مذعورة لتفتحه لتبصر أخت زوجها العانس منتصبة متجهمة الوجه لتقول لها بصوت آمر متعجرف أن تنزل من حجرتها ففي البيت أشغال ثقال ، أصدرت أمرها وانصرفت وعادت صباح مشدوهة مصدومة فوجدت زوجها قد نهض من نومه وقبل أن تنطق هي بكلمة اعتراض بادرها هو بأن تطيع الأمر فقد كان واهي الشخصية ممسوحها أمام أخيه المتلسط وأخته الأكثر تسلطا .
‏ارتدت صباح لباس البيت ونزلت إلي صحنه فأكملت العانس بقية أوامرها مفصلة للأشغال المتوجب عليها إنجازها ، وأدركت صباح أنها لا محيص لها عن التنفيذ فشرعت تنجز ما أوكل إليها ، وكم كان شاقا مرهقا حتي انقضي يومها الأول بشر ما يكون ، ولم يكن اليوم الثاني بأقل سوءا من الأول ولا بقية الأيام حتي أيقنت صباح أنها ما خرجت من جحيم أمها إلا إلي ربقة عبودية أشد جحيما ، صبرت وصابرت وتحملت ما تنوء به طاقة أعتي البشر ، فلما بلغ بها العناء مبلغا فوق ما تطيق هرعت هاربة إلي بيت أبيها ، بلغت البيت فتلقتها أمها علي بابه بشر ما يكون وهمت بطردها لولا تدخل جارة لها وتوسلها ، أذنت لها بالدخول وما إن خلت بها حتي انهالت عليها بالسب والشتم والتقربع ثم أوعزت إلي إخوتها أن يتركوها بلا طعام فأجاعوها بل وأهانوها تزلفا إلي الأم المتغطرسة ، بقيت صباح أياما في براثن جوع وهوان حتي لم تجد بدا من العودة أدراجها إلي بيت زوجها ، وهناك استقبلتها العانس بأسوأ ما يكون .
‏توالت العذابات علي صباح بيدي أخت زوجها وأخيه الأكبر المتسلط عليه الظالم له ، وزوجها رجل هزيل ضعيف غير قادر علي حمايتها ولا حماية نفسه ، وذات يوم داهمها مخاض الولادة فانتهرتها العانس طاردة أن تذهب للوضع عند أمها فخرجت في دماءها تكاد لا تقدر علي الخطو حتي وصلت بيت أبيها فأبت أمها كل الإباء أن تدخلها البيت وصرخت بها أن تعود لبيت زوجها وعادت المسكينة تتقاطر منها الدماء حتي وضعت وليدها بعيد دخولها لبيت زوجها .
‏دام العذاب فلم ينقطع ، وأعتمت الدنيا بوجه صباح علي عتمتها ، وضاقت أشد ما يكون ، استنزفت الآلام دمع عيونها ، استهلكت رصيدها من الصبر فما عاد في قوسه منزع ، كبر وليدها وهي تتجرع المرارة كتجرع السم بيد أنها لا تموت ، حتي إذا ما بلغ الفطام واستغني عنها بدأت تراودها رغبة في الخلاص من حياتها ، وكبرت الرغبة فيها مع توالي أيام العذاب والعناء ، فليس من يوم يمر دون أن تأخذ نصيبها الموفور من العمل الشاق والضرب والإهانة ، وذات يوم اجتمع أخو زوجها وأخته علي ضربها حتي أشرفت علي الموت وفي هذا اليوم قررت قرارها وعقدت العزم علي وضع النهاية .
‏غربت شمس اليوم الموعود ، واجتمع البيت علي مائدة العشاء ومعهم جلست صباح تتظاهر بأنها تطعم معهم ولكنها غير مزدرة للقمة واحدة وقامت من بينهم وانتظرت حتي فرغوا ، قامت بتنظيف المائدة وجمعت بقايا الطعام ثم صنعت لهم الشاي وشربوا ، وانتظرت حتي جن الليل وآوي الجميع إلي مهجعه ، وصعدت هي إلي غرفتها وكان زوجها قد سبقها والأولاد ، دخلت وزوجها يغط في نوم عميق لفرط العناء من العمل الشاق ، طفلاها نائمين علي بساط أرضي وقد أخذهما النعاس ، دخلت صباح وأغلقت الباب وجلست بجاور زوجها تنظر إلي ولديها ، ثم نهضت وجلست عند رأسيهما وأخذت تتأملهما وتمسح علي رأسيهما والدموع تنساب من عينيها ثم تميل فتقبل جبينيهما وتظل تبكي في سكون ، ثم تميل فتضع خدها علي خديهما وتحتضن رأسيهما في رحمة وحنان ودمعها يهطل بغزارة ، إنها في وداع لفلذتي كبدها فقد انتوت الرحيل ، ظلت عند رأسي ولديها تبكي وتبكي غير أنها لم ترجع عن عزمها ، حتي جاء المنتصف من الليل وسكنت الأصوات فلا تسمع حتي همسا ، وقامت صباح ووقفت وعيناها معلتقتان بولديها والدمع ينساب من عينيها وخطت نحو الباب ووقفت عنده ونظرت ولا تكاد تري ولديها من غزارة الدمع ، مسحت عينيها وجففت أنفها ثم خرجت وأغلقت الباب ، نزلت علي الدرج حافية القدمين كي لا يشعر بها أحد ، نزلت إلي صحن البيت وأخذت حبلا غليظا من الحبال ، جاءت بما تصعد عليه وصعدت وربطت طرف الحبل في حديدة وطرفه الآخر ربطته حول عنقها ، أنزلت ذراعيها وأغمضت عينيها ثم راحت في لحظة شرود ، فكأن ولديها قد حضرا يلعبان أمامها وضحكاتهما تدوي في أركان البيت ، فتحت عينيها وتبسمت وكأنها تراهما ، ثم همت أن تفك الحبل عن عنقها لتنزل وتجري مسرعة وترتمي محتضنة لولديها ولكن سرعان ما عاجلتها أطياف العذاب والهوان وسنين القهر والذل فأنزلت ذراعيها كرة أخري وسكنت قليلا مغمضة العينين ، وفجأة دفعت ما تحتها لتتعلق مخنوقة بالحبل ولتعالج ما لا ندريه من خروج الروح حتي خرجت وبقي جسدها مشدودا بالحبل إلي سقف البيت لتكتب نهاية مؤلمة لحياة من الألم قد نسجت .

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 186 مشاهدة

جمال بخيت

gamalbeghit
»

أقسام الموقع

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

742