الابداع الثقافى

يضم الثقافة فى شتى مجالاتها

 أ.د الشيخ مخلص أحمد الجدة (1)

يعتبر النظام القضائي الإسلامي من أروع النظم المكتوبة والمدونة في القضاء ، منذ أكثر من ألف عام ، ونحن إذ نقول : أكثر من ألف عام ، لا بمعنى أن نواته قد وضعت منذ هذه الفترة الزمنية البعيدة ، بل أن نواة ومباديء وتطبيقات القضاء الإسلامي قد ولدت بميلاد الرسالة الإسلاميّة ، منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة ، وذلك من خلال الآيات القرآنية المباركة ، والأحاديث النبوية الشريفة ، ويهمنا هنا أن نرسم الخطوط العريضة للنظام القضائي في الإسلام ونحدد الهيكلية العامة دون الدخول بالتفاصيل ، ليتضح لدينا أن مثل هذا النظام يعد صالحاً لكل زمان ومكان ، وكما أشار إليه قوله تعالى : ?وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيراً ونذيراً?(2)

إنّ النظام القضائي الإسلامي هذا ، لم يعالج قضايا المسلمين فحسب ، بل عالج كذلك قضايا أهل الذمة ، من أصحاب الديانات السماوية الأخرى ، والذين يحيون تحت كنف الإسلام ، إذ أجاز لهم أن يترافعوا في المحاكم الإسلاميّة ، والتي تحكم لهم وفق القوانين الإسلاميّة ، لا وفق قوانينهم ، إنّ أرادوا أن يترافعوا فيها ، ومن خصائص النظام القضائي في الإسلام ، أنّه يستطيع استيعاب أية قضية ويعالجها وفق أهدافه في تحقيق العدل والأنصاف.

ويحسن بنا قبل الدخول في الموضوع أن نعرف القضاء ونبين الفرق بينه وبين الفتوى . ثم نتطرق إلى خصائصه العامة وأبعاده المختلفة ومنه تعالى نستمد العون. لاتجد فرقا واسعا بينها وبين سلفها المكتوب قبل أكثر من ألف عام ، اللهم إلاّ في المسائل المستحدثة والتي أعطوا آراءهم فيها ، فإذا طالعنا الرسائل الفقهية القديمة منها والمعاصرة نجد أن القضاء يعني : (فصل الخصومة بين المتخاصمين ، والحكم بثبوت دعوى المدعي أو بعدم حق له على المدعى عليه) (3).

الفرق بين القضاء والفتوى:

هناك فروق مهمة بين القضاء والفتوى ويمكن إجمالها فيما يلي:

1 ـ (أن الفتوى عبارة عن بيان الأحكام الكلية من دون نظر إلى تطبيقها على مواردها).

2 ـ إنّ الفتوى لا تكون حجة إلاّ على من يجب عليه تقليد المفتي بها.

3 ـ العبرة في التطبيق ـ أي تطبيق الفتوى ـ إنّما هي بنظره دون نظر المفتي.

4 ـ أما القضاء : فهو الحكم بالقضايا الشخصية التي هي مورد الترافع ، والتشاجر ، فيحكم القاضي بأن المال الفلاني لزيد ، أو أن المرأة الفلانية زوجة فلان ، وما شاكل ذلك ، وهو نافذ على كلّ أحد حتّى إذا كان أحد المتخاصمين ، أو كلاهما مجتهداً) (4).

حكمه:

ذهب فقهاؤنا إلى أن حكم القضاء يعتبر واجباً كفائياً بحيث إذا تولاه من هو أهل له سقط عن الآخرين ، وذلك بقولهم : (القضاء واجب كفائي) (5) وليس واجباً عينياً ، فالواجب العيني يكون متعيناً على كلّ المكلفين وإن الذي يتولى القضاء يسمى قاضياً ، وهو على نوعين:

1 ـ القاضي المنصوب : ويكون أمر تعيينه بيد المدعي ، أي أن المدعي يطلب تنصيبه كي يتولى القضاء في القضية التي نصب من أجلها.

2 ـ قاضي التحكيم : ويكون أمر تعيينه بيد المتخاصمين كليهما ، وفي حالة اختلافهما ، فالمرجع في تعيينه يكون بالقرعة.

القضاء مسؤولية عظيمة :

لقد أولى الإسلام القضاء المسؤولية الكبرى أمام الله ، والمجتمع ، فقد روي (عن ابن عباس "رض" عن النبي (صلى الله عليه وآله)أنّه قال : من جعل قاضياً فقد ذبح بغير سكين ! فقيل : يارسول الله ، وما الذبح ؟ قال : نار جهنم) (6)

فنحن نرى تحذيراً شديداً في هذا الحديث الشريف لمن يتولى منصب القضاء ، فيجب أن يعلم في نفسه الكفاءة العلمية ، والقدرة على الحكم ، واحقاق الحق ، وإلاّ ، فالنار موعده.

الشروط التي ينبغي توفرها في القاضي:

لقد شدد الإسلام في شروط من يصلح للقضاء ، وذلك لأن القضاء مسلط على دماء ، وأعراض ، وممتلكات الناس ، وهو الذي يحكم، ويفصل في كلّ ذلك ، فينبغي في رجال القضاء توفر شروط دقيقة، وهذه الشروط قد جاءت في قول الإمام علي (عليه السلام) لقاض : (هل تعرف الناسخ من المنسوخ ؟ قال : لا ، قال : فهل أشرفت على مراد الله عزّوجلّ في أمثال القرآن ؟ قال : لا ، قال : إذا هلكت ، وأهلكت".

والمفتي يحتاج إلى معرفة معاني القرآن ، وحقائق السنن ، وبواطن الإشارات ، والآداب ، والإجماع ، والاختلاف ، والاطلاع على أصول ما اجتمعوا عليه واختلفوا فيه ، ثم إلى حسن الاختيار ، ثم إلى العمل الصالح ، ثم الحكمة ، ثم التقوى ، ثم حينئذ إنّ قدر (7) فنحن نرى شروطاً دقيقة في من يتولى القضاء ، وقد فصل فقهاؤنا هذه الشروط كما يأتي :

1 ـ البلوغ 2 ـ العقل 3 ـ الذكورة 4 ـ الإيمان 5 ـ طهارة المولد 6 ـ العدالة 7 ـ الرشد 8 ـ الاجتهاد ، بل الضبط على وجه ، ولا تعتبر فيه الحرية كما لا تعتبر فيه الكتابة ولا البصر ، فإن العبرة بالبصيرة) (8).

فنحن إذا تمعنا في هذا النص الفقهي نجد أن الإسلام اهتم أولاً في أن يكون القاصي بالغاً ففي البلوغ يكتمل النضوج الذهني للإنسان ، فليس صحيحاً أن يتولى القضاء من لم يبلغ السن القانونية ، وهي البلوغ إضافة لذلك الشرط يجب أن يكون عاقلا ، وليس فيه نقص في قواه الذهنية ، ويجب أن يكون ذكراً فإن الإسلام حرم تولي المرأة (9)لهذا المنصب الحساس ، لان المرأة بطبيعتها الأنثوية مرهفة الأحاسيس ، ولما لها من شفقة وحنان بحيث يمكن أن تخدعها دموع المتخاصمين ، فتحكم وفقا لعواطفها ، كذلك المرأة معرضة لحالات الحمل ، والولادة ، والعادة الشهرية ، ورضاعة الأطفال ، والسهر على تربيتهم ، فكل هذه العوارض الطبيعية التكوينية تؤثر سلباً على قابلياتها سواء من الناحية النفسية أو الجسدية ، فلكل هذه الأسباب حرم الإسلام على المرأة أن تتولى أمراً لا طاقة لها به ، فهو دين يسر لا يمكن أن يكلف الإنسان فوق طاقته لقوله تعالى : ?لا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها لها ما كسبت ، وعليها ما اكتسبت?(10).

وقد ذكر الشيخ المفيد في حديث طويل عن ابن عباس (رض) عن النبي (صلى الله عليه وآله) فصل فيه عوامل عدم صلاحية المرأة للقضاء (11).

ومن شروط القاضي هو الإيمان ، فيجب أن يكون مسلماً مؤمنا بالله تعالى ، ورسوله (صلى الله عليه وآله) ، وبكتابه ، وبرسله ، وباليوم الآخر وغيرها من شروط الإيمان ، والتي تكون الأساس في تقويم شخصيته ، واستقامتها ، كذلك من شروط القاضي أن يكون طاهر المولد ، وليس معروفاً بأنه ولد من سفاح حتّى تتعزز مكانته في المجتمع ، ولا يكون فيه مطعن يمكن أن ينفذ إليه المنافقون لا لأن ولد الزنا يتحمل خطيئة أبويه ، فقد قال تعالى : (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (12) فإن ولد الزنا لا يتحمل تلك الجريمة لأنه ولد بريئاً ، ولكن للمجتمع أعرافاً وتقاليد ينبغي مراعاتها ، ولا يمكن أن يكون الحاكم ، والقاضي المسلم فيه ثغرة يمكن أن ينفذ منها من في قلبه مرض ، وشك ، ونفاق ، الشرط الآخر ، وهو الأهم أن يكون القاضي عادلاً منصفاً غير مرتكب للمعاصي التي تخل بالعدالة ، وأن يكون راشداً ذكياً مستقيماً ، وأن يكون عالماً بالفقه ، ومجتهداً (13) ومطلعاً على القوانين الإسلاميّة ، وإذا لم يكن مجتهداً ، فيجب أن يكون ضابطاً للأمور الفقهية ، والمسائل القانونية ، فهذه هي أهم الشروط الواجب توفرها في من يتولى القضاء ، ومن الأمور التي استثناها الإسلام في شروط القاضي هي مسألة (الحرية)، فهو لا يشترط في القاضي أن يكون من عليّة القوم ووجهائهم كما تشترطه بعض القوانين الوضعية سواء القديمة، منها مثل القانون الروماني ، الذي كان يشترطه بعض القوانين الوضعية سواء القديمة ، منها مثل القانون الروماني ، الذي كان يشترط أن يكون القاضي من النبلاء ، أو كما يشترطها القانون البريطاني الملكي في وجوب كون القاضي من اللوردات ، أو من المحافظين ، فإن الإسلام أجاز القضاء ومنصبه الرفيع حتّى للعبيد الّذين لا يملكون حريتهم ما دامت تتوفر فيهم الشروط الأساسية الأخرى ، وهذه هي عظمة الإسلام ، كذلك يجوز أن يتولى القضاء من لا يستطيع القراءة ، والكتابة لعلة العمى ولفقدانه البصر ، فإن العبرة بالشروط الأخرى والتي تؤهله لتولي هذا المنصب من قبيل العلم ، والتقوى، والعدالة ، والذكاء وغيرها من الشروط الأساسية لتولي منصب القضاء.

هل يجوز الترافع عند حكام الجور؟

إنّ الإسلام عندما يتشدد في شروط القاضي ، ويؤكد على كونه عادلاً ، فهذا يعني أنّه لا يجوز أن يتقاضى المسلمون إلى حاكم جائر ، فعن أبي بصير ، عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) : في قولـه تعالى :ألم تر إلى الّذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ، وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكوا إلى الطاغوت?(14) فقال : (يا أبا محمّد ، أنّه لو كان لك على رجل حق ، فدعوته إلى حكام أهل العدل ، فأبى عليك إلاّ أن يرافعك إلى حكام أهل الجور ليقضوا له ، كان ممن حاكم إلى الطاغوت) (15).

فنحن نرى في هذا النص الشريف نهياً صريحاً عن الترافع عند حكام الجور ، وهذا ما أكده حديث الرسول (صلى الله عليه وآله)، الذي رواه القطب الراوندي في كتابه "لب اللباب" (مخطوط) : (إني أخاف على أمتي من بعدي ثلاثة : زلة عالم ، وحكم جائر ، وهوى متبع) بل أن الأولى أن يترافع المسلم إلى قاض يعرف ، ويعلم أحكام الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله)، وأهل بيته الطاهرين ، فعن جعفر بن محمّد (عليه السلام)، أنّه قال يوماً لأصحابه : "إياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم ، فإني قد جعلته قاضياً ، فتحاكموا إليه".(16)

إذا فالقاضي الذي يحكم بكتاب الله ، وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله) وبالروايات الصحيحة المنقولة عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) والصحابة الأخيار فهو قاض شرعي يعتبر بمثابة القاضي الذي نصبه الإمام ، فحكمه نافذ وصحيح ، وهذا الأمر يشمل الفقيه المجتهد القادر على معرفة أحكام الله تعالى ، فهو الحاكم والقاضي وحتى أن كان غير مجتهد ، فيجب أن يكون مطلعاً على أحكام الله ، ومخولاً من قبل الفقيه المجتهد.

حرية اختيار القضاة واستقلاليتهم:

انفرد الإسلام في قضية حرية اختيار القاضي من قبل المتخاصمين ، فإن للمدعي الحق أن يعين له قاضياً للنظر في الخصومة وليست للسلطة صلاحية التدخل في أمر إجبار المدعي أن يترافع إلى محكمة ، وقاض معين كما هو المعمول عليه الآن في معظم دول العالم وهذا الأمر يعتبر قمة التطور القضائي، فقد اقره الإسلام قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام ، فعن علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ أنّه قال : "دخلت المسجد فإذا برجلين من الأنصار يريدان أن يختصما إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ، فقال أحدهما لصاحبه : هلم نختصم إلى علي ، فجزعت من قوله ، فنظر إلي رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، وقال : انطلق واقض بينهما ! قلت : وكيف اقضي بحضرتك يا رسول الله ؟ قال : نعم فافعل ، فانطلقت فقضيت بينهما ، فما رفع إلي قضاء بعد ذلك اليوم إلاّ وضح لي" (17).فنحن إذا تمعنا في هذا النص الشريف نجد أن الإسلام كان ينظر في الدرجة الأولى إلى مصلحة المترافعين ، وضرورة إعطائهم الحرية الكافية كي يختاروا من ينظر ، ويقضي في قضاياهم ، وليس للسلطة العليا في الدولة الحق في التدخل لإجبارهم على التقاضي عند قاض معين ، وهذا المبدأ السامي قد أقره رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ في هذه الحادثة التي رواها لنا الإمام علي ـ عليه السلام ـ .

كذلك للقضاة استقلاليتهم ولا يجوز لأحد أن ينقض حكمهم ، أو يلغي مسار المرافعات ما دام حكمهم موافقاً للشرع الحنيف ، فقد أكدت النصوص الفقهية على أنّه : "لا يجوز الترافع إلى حاكم آخر بعد حكم الحاكم الأول ، ولا يجوز للآخر نقض حكم الأول إلاّ إذا لم يكن الحاكم الأول واجداً للشرائط ، أو كان حكمه مخالفاً لما ثبت قطعاً من الكتاب والسنة"(18).

حق تمييز الأحكام ، والإدعاء العام:

هناك نوعان من الأحكام يجوز للمترافع أن يميزها إلى السلطة القضائية العليا ، المتمثلة بالنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ، أو الإمام ، أو الفقيه الجامع للشرائط ، وفي يومنا هذا تسمى (محكمة التمييز) أو المحكمة العليا ، والتي يكون لها الحق في النظر في الحكم الصادر من المحكمة البدائية:

1 ـ إذا كان الحكم مخالفاً لكتاب الله ، وسنة رسوله ، والقوانين الإسلاميّة الثابتة في الكتاب ، والسنة ، ففي هذه الحالة من حق المتداعيين تمييز هذا الحكم.

2 ـ إذا كان القاضي لا تتوفر فيه الشروط المرعية في تولي القضاء ، من قبيل العدالة ، والعقل ، والبلوغ ... الخ من الشروط الأخرى ، أو كان مشهوراً بالجور، والظلم ، ففي هذه الحالة يكون للمتداعيين الحق في تمييز حكم هذا القاضي.

فعن أبي عبدالله عن أبيه عن آبائه ـ عليهم السلام ـ ، قال : "قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : من حكم في درهمين بحكم جور ، ثم جبر عليه كان من أهل هذه الآية : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (19) فقلت : يا ابن رسول الله ، وكيف يجبر عليه ؟ قال : يكون له سوط ، وسجن ، فيحكم عليه ، فأن رضي بحكومته وإلاّ ضربه بسوطه ، وحبسه في سجنه"(20).

وعن الصادق ـ عليه السلام ـ أنّه قال : (الحكم حكمان : حكم الله عزّوجلّ ، وحكم الجاهلية) (21).

وعن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ : أنّه لما استقضى شريحاً ، اشترط عليه أن لا ينفذ القضاء حتّى يرفعه إليه ) (22).

وهذا هو حق الادعاء العام ، فله الحق بالاطلاع على الحكم وتمييزه ، فنحن نرى في هذه الأحاديث الشريفة : أن الحكم إذا كان مخالفاً للكتاب ، والسنة فيجوز حينئذ تمييزه ونقضه ، أما إذا كان مطابقاً للكتاب ، والسنة، وكان القاضي تتوفر فيه الشروط الشرعية ، فلا يجوز نقضه ، وتبديله حتّى وإن استجدت فيه بعد زمن أمور أخرى ، كما جاء ذلك في حديث نقله الشيخ المفيد (رحمه الله) في أماليه عن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ قال : "وكان علي يقول : لو اختصم إلي رجلان فقضيت بينهما ثم مكثا أحوالاً كثيرة ثم أتياني في ذلك الأمر لقضيت بينهما قضاءاً واحداً ، لأن القضاء لا يحول ولا يزول أبداً" (23).وهذه هي (الثبوتية في أحكام القضاء الإسلامي) فأحكامه ثابتة ، ومستقرة ما دامت موافقة لما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وآله ـ ، وليست صادرة عن غير ذلك فقد نهى الإسلام عن أن يحكم القاضي برأيه وبالقياس نابذاً كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وآله ـ ، فعن جعفر الصادق ـ عليه السلام ـ أنّه قال : "نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ عن الحكم بالرأي والقياس"(24). ونقل الشهيد الثاني (رض) في منية المريد : عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أنّه قال : (من أفتى بفتيا من غير تثبت (علم) فإنما اثمه على من أفتاه) (25).فكل حكم وكل حادثة لها حل في الشريعة الإسلاميّة بحيث لم تترك قضية واحدة إلاّ أعطت فيها الرأي المناسب ، وهذه هي عظمة القوانين الإسلاميّة ، فعن جعفر بن محمّد ـ عليه السلام ـ : أنّه (سئل عما يقضي به القاضي قال : بالكتاب ، قيل : فما لم يكن في الكتاب ، قال : بالسنة قيل : فما لم يكن في الكتاب ، ولا في السنة ، قال : ليس من شيء هو من دين الله ، إلاّ ، وهو في الكتاب ، والسنة ، قد أكمل الله الدين ، فقال جل ذكره : "اليوم أكملت لكم دينكم"(26)، ثم قال ـ عليه السلام ـ : "يوفق الله ويسدد لذلك من شاء من خلقه ، وليس كما تظنون"(27) والإمام ـ عليه السلام ـ يعني بالعبارة الأخيرة أن الله يوفق عباده المخلصين للاجتهاد في الشريعة ، واستنباط الأحكام من مظانها الأصلية بحيث يعطون الأحكام المناسبة لمستحدثات المسائل المستجدة بعد زمن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ، وقد أغنت أحاديث ، وممارسات الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ وأهل بيته ـ عليهم السلام ـ المكتبة الإسلاميّة ، وأعطت لكل واقعة حلاّ ولا يمكن لأحد أن يخالف ما سنّهُ الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ وأهل بيته ـ عليهم السلام ـ والذين هم اقضى المسلمين عموماً ، فعن الصادق ـ عليه السلام ـ في حديث طويل أنّه قال لأبي ليلى : ... (ألم يبلغك قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ لأصحابه : أقضاكم علي ؟ قال : نعم ، قال : فإذا خالفت قوله : ألم تخالف قول رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ؟) .. الخ (28) الحديث ، فإن الإسلام قد حذر القاضي من أن يخطأ حكم الله ، فكيف به، وهو يخالف هذا الحكم، فعن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أنّه قال: "من حكم في قيمة عشرة دراهم فأخطأ حكم الله جاء يوم القيامة مغلولة يده ، ومن أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماء، وملائكة الأرض"(29)، وهذه الأحاديث أن دلت على شيء فإنما تدل على كبر وعظم مسؤولية القضاء، وخطورته في المجتمع ككل.

للقاضي صك مفتوح في الإسلام:

تعتبر رواتب القضاة في الإسلام أعلى رواتب يتقاضاها موظف في الدولة الإسلاميّة ، فلم يحدد الإسلام لهم مرتباً معيناً ، بل لهم صك مفتوح كي لا تلجأهم الحاجة ، والفاقة إلى أخذ الرشوة من المتخاصمين ، فتختل الأحكام القضائية ، وتختفي العدالة ، فعن الإمام علي ـ عليه السلام ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : "ثم أكثر تعاهد أمره ـ أي القاضي ـ وقضاياه ، وأبسط عليه من البذل ما يستغني به عن الطمع ، وتقل حاجته إلى الناس ، واجعل له منك منزلة لا يطمع فيها غيره ، حتّى يأمن من إغتيال الرجال أياه عنك ، ولا يحابي أحداً للرجاء ، ولايصانعه لاستجلاب حسن الثناء، أحسن توقيره في مجلسك ، وقربه منك"(30).

فنحن نرى في هذا الحديث الشريف عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ سمو مكانة القاضي في النظام الإسلامي ومكانته الرفيعة ، فليس هناك رتبة في السلطة الإسلاميّة أرفع من رتبة القاضي إلاّ رتبة الإمام ، وولي الأمر بحيث لا يلجأ القاضي إلى أحد الوزراء ، أو القادة كي يقربوه من الحاكم الاعلى للمسلمين ، أو يمدحوه لديه حتّى لا يصبح أداة طيعة في أيدي هؤلاء المسؤولين كي يحكم لصالحهم إنّ حدثت لهم قضية لديه بل هو أرفع ، واسمى منهم جميعاً ، وأقرب شخص لدى الإمام ، وهذه هي عظمة وسمو النظام القضائي في الإسلام ، فقد حذر الإسلام القاضي من أخذ الرشوة وقبول الهدية ، كذلك ، وسد عليه الطريق أن سولت له نفسه يوما ما في ذلك الأمر ، فعن جعفر الصادق ـ عليه السلام ـ أنّه قال : "من أكل السُحتِ الرشوة في الحكم"(31)ففد اعتبر الإمام ـ عليه السلام ـ الرشوة مالاً محرماً كالذي يأخذ الاجرة على القيادة والسحر والبغاء وكتب علي ـ عليه السلام ـ إلى رفاعة : "احذر التحف من الخصوم ، وحاذر الدخلة"(32) ففي هذا النص الشريف نجد الامام ـ عليه السلام ـ يحذر رفاعه القاضي من قبول التحف ، والدخلة من المتحاصمين ، وقبول رشوتهم بأي عنوان كانت سواء بعنوان الهبة ، أو الهدية ، فكل ذلك محرم على القاضي ، كذلك لا يجوز للقاضي أن يسمح لغير المتخاصمين أن يتدخل في سير المرافعات ، ويتوسط لديه بأن يحكم لصالح فريق دون الآخر ، وهذا هو المراد من قوله ـ عليه السلام ـ : (... وحاذر الدخلة).

الحكم الغيابي واستئناف الدعوى ، ومبدأ الكفالة والضمان:

لقد أعطى الإسلام للقضاء حق الحكم على المدعى عليه غيابياً ، حتّى لا يقع غبن على المدعي ، ولكن إذا عاد المدعى عليه (المحكوم غيابياً) فله الحق حينئذ أن يستأنف الدعوى من الأساس ، بحيث يعطيه القضاء الإسلامي الحق في الدفاع عن نفسه حضورياً ، فعن الباقر والصادق ـ عليه السلام ـ : "الغائب يقضى عليه إذا قامت عليه البينة ، ويباع ماله ويقضى عنه دينه ، وهو غائب ، ويكون الغائب على حجته إذا قدم، قال : ولا يدفع المال إلى الذي أقام البينة إلاّ بكفلاء" (33) فإذا إذا صدر الحكم عليه ، وهو غائب ودفع ماله إلى المدعي ، فيجب حينئذٍ أن يأتي المدعي بكفلاء يضمنون المال ، لأنه في حال عودة المدعى عليه يكون ماله مضموناً ، وهذا هو (مبدأ الكفالة والضمان) في القضاء الإسلامي وهو من أرقى الأنظمة القانونية في العالم ، وقد سبق الإسلام في هذا الجانب الدساتير والقوانين الوضعية الحديثة.

المحاكم الخاصة بأهل الذمة:

لقد أعطى الإسلام الحرية التامة لأهل الذمة من اليهود ، والنصارى في أن يتحاكموا فيما بينهم طبقاً لشريعتهم ، لا يتدخل القضاء الإسلامي في ذلك ولا يعترض على أحكامهم ، ولكن إذا أراد الذمي أن يترافع في محاكم المسلمين، فله الحق في ذلك ، ويحكم له القاضي المسلم وفقاً للشريعة الإسلاميّة ، لا وفقاً لشريعته ، فعن علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ أنّه قال : "إذا ترافع إلى القاضي أهل الكتاب ، قضى بينهم بما أنزل الله جل وعز ، كما قال تبارك اسمه" (34) بل أن الإسلام أمر القاضي أن يقبل دعوى الكتابي في إهراق خمره ، أو قتل خنزيره من قبل المسلم لأن الخمر ، والخنزير يملكهما الكتابي ، وهما من الأمور المباحة لديه ، أما القضاء الإسلامي ، فلا يقبل دعوى المسلم على الغير في هاتين القضيتين لأن الإسلام قد حرم الخمر ، والخنزير عليه ، وهذه هي منتهى حقوق الإنسان في الشريعة الإسلاميّة كما أكدته لنا النصوص الفقهية التالية: "يعتبر في سماع الدعوى أن يكون متعلقها أمراً سائغاً ، ومشروعاً ، فلا تسمع دعوى المسلم على آخر في ذمته خمراً ، أو خنزيراً ، أو ما شاكلها"(35).

فمفهوم المخالفة يقتضي : بأنه تقبل تلك الدعاوى لأصحاب الكتاب لأن متعلقها أمر سائغ في شريعتهم.

مبدأ المحاماة والدفاع في القضاء الإسلامي:

أجاز الإسلام للمتداعيين انتخاب المحامين ، والمدافعين ، والوكلاء ، كي يقوموا بواجب الدفاع ، والحضور بدلاً عنهم ، خاصة إذا كانوا بحاجة إليهم ولم يستطيعوا أن يباشروا هذا الأمر بأنفسهم ، أو أنهم ليس لديهم الرغبة في الحضور لأمور شتى ، أو لا يستطيعون البيان الواضح للدفاع عن مطالبهم ، فقد أعطاهم القضاء الإسلامي كلّ الحق في انتخاب محام أو وكيل يتولى أمرهم كما أكدته لنا النصوص الفقهية فقد ذكر الشيخ الطوسي (رض) في النهاية في حديث طويل عن الإمام علي ـ عليه السلام ـ في قضية الرجل الاخرس الذي ترافع لديه ـ عليه السلام ـ فقال : "إئتوني بوليه ، فأتي بأخ له فأقعده إلى جنبه.." (36) الخ الحديث ، كذلك نرى نصاً فقهياً آخر يقول : "إذا كان الموكل غائباً ، وطالب وكيله الغريم بأداء ما عليه من حق ، وأدعى الغريم التسليم إلى الموكل ، أو الابراء ، فإن أمام البينة على ذلك ، فهو ، والافعليه أن يدفعه إلى الوكيل"(37) فإن كلمة الوكيل أو الولي تعني : المحامي الذي يتولى الدفاع عن الخصم (38) أو الخصم الآخر ، فمبدأ المحاماة مبدأ إسلامي لا غبار عليه ما دام المحامي يدافع عن الحق والصدق الظاهريين ، أما حقيقة الأمرين فغير مسؤول عنها.

القضاء والقوة التنفيذية :

لابد للأحكام الصادرة عن القضاء الإسلامي من قوة تنفيذية قادرة على تنفيذها ، وتطبيقها، وإلا لاصبحت قرارات القضاء الإسلامي حبراً على روق من دون تنفيذ ، وبهذا تفقد هيبتها، ولا معنى لها ، فقد أكدت النصوص الفقهية على ضرورة تنفيذ أحكام القضاء الإسلامي ، وأعطت الحق كلّ الحق للقاضي في أن يستخدم القوة لتنفيذ أحكامه من قبيل إقامة الحدود ، والقصاص ، والتعزيرات، والحبس ، والمصادرة ، والبيع ، وما شاكلها من الأحكام للقضايا المختلفة : "إذا حكم الحاكم بثبوت دين على شخص ، وامتنع المحكوم عليه عن الوفاء جاز للحاكم حبسه ، وإجباره على الأداء..." (39) وفي حديث عن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ عندما سأله سائل : (فقلت : يا ابن رسول الله ، وكيف يجبر عليه ؟ قال : يكون له سوط وسجن ، فيحكم عليه فإن رضي بحكومته وإلا ضربه بسوطه وحبسه في سجنه)، (40)فنحن نرى في هذه النصوص الفقهية قوة تنفيذية فاعلة لتنفيذ الأحكام الصادرة عن المحاكم الإسلاميّة ، فبذلك يصبح القضاء الإسلامي قضاءاً فاعلاً ، ومؤثراً ، وعملياً.

من آداب القضاء الإسلامي:

لقد جعل الإسلام للقضاء آداباً ، وسنناً في غاية الكمال ، والرفعة منها:

أولاً: عدم جواز القضاء ، والحكم ، والقاضي في حالة غضب ، أو اضطراب ، أو نعاس ، حتّى لا تؤثر هذه الحالات النفسية على صحة الأحكام الصادرة عنه ، فعن علي ـ عليه السلام ـ ، أنّه قال لرفاعة : (لا تقض وأنت غضبان ، ولا من النوم سكران) (41).

ثانياً : المساواة بين الخصمين ، وعدم جواز تلقين الشهود ، فعن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : "أنّه نهى أن يحابي القاضي أحد الخصمين ، بكثرة النظر ، وحضور الذهن ، ونهى عن تلقين الشهود"(42) فالكل سواسية أمام القانون سواء الفقير أو الغني ، أو السيد ، أو المسود.

ثالثاً : لا يجوز للقاضي أني يحكم في القضايا دون سماع قول المتداعيين ، فعن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أنّه : "نهى أن يتكلم القاضي قبل أن يسمع قول الخصمين، يعني يتكلم بالحكم"(43).

رابعاً : لا ينبغي للقاضي أن يقضي في بيته ، فعن علي ـ عليه السلام ـ (أنّه بلغه أن شريحاً يقضي في بيته فقال : يا شريح ، أجلس في المسجد ، فإنه أعدل بين الناس ، فأنه وهن بالقاضي أن يجلس في بيته) (44) وهذا دليل على أن مكان القضاء مكان مقدس ، وطاهر ، وحيادي.

خامساً : عدم رفع القاضي صوته على الخصم ، فقد روي أن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ولي أبا الأسود الدؤلي القضاء ثم عزله ، فقال له : لم عزلتني ؟ وما خنت ولاجنيت ! فقال ـ عليه السلام ـ : "أني رأيت كلامك يعلو كلام خصمك"(45)

سادساً : أن يقف المدعي عن يمين المدعى عليه ، ففي فقه الرضا ـ عليه السلام ـ : "فإذا تحاكمت إلى حاكم ، فأنظر أن تكون عن يمين خصمك ـ إلى أن قال ـ فإذا أدعيا جميعاً ، فالدعوى للذي على يمين خصمه"(46).

سابعاً : لا يجوز أن ينزل أحد الخصمين ضيفاً على القاضي دون الخصم الآخر ، فعن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ (أنّه نهى أن ينزل الخصم على قاض) (47) ونزل رجل على علي ـ عليه السلام ـ بالكوفة فأضافه ، ثم جاءه في خصومة ، فقال له : (أخصم أنت ؟ تحول عني ، فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ نهى أن ينزل الخصم إلاّ ومعه خصمه) (48)

وقد روى أحمد بن حنبل (رض) ، وأبو داود والترمذي رواية مشابهة وهي : (أن عليا لما بعثه رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ إلى اليمن قاضياً قال : يا رسول الله ، بعثتني بينهم وأنا شاب لا أدري ما القضاء قال : فضرب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ في صدري وقال : "اللهم أهده وثبت لسانه" قال علي : "فو الذي فلق الحبة ما شككت في قضاء بين اثنين".

وعنه ـ عليه السلام ـ أن الرسول قال : "يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتّى تسمع من الآخر ، كما سمعت من الأول فانك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء"(49).
المصدر: from كلية الحقوق جامعة المنصورة by فرعون القانون
  • Currently 55/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
17 تصويتات / 547 مشاهدة
نشرت فى 5 مايو 2011 بواسطة foxrever

ساحة النقاش

عبدالوهاب اسماعيل

foxrever
»

ابحث

عدد زيارات الموقع

812,866

تسجيل الدخول