الشيطان منبع الشرور والآثام ، فهو القائد إلى الهلاك الدنيوي والأخروي ، ورافع الراية في كل وقت ومكان ، يدعو الناس إلى الكفران ، ومعصية الرحمن ، فهل في خلقه من حكمة ؟ وما هذه الحكمة ؟
أجاب عن هذا السؤال ابن القيم رحمه الله تعالى فقال (1) : " في خلق إبليس وجنوده من الحكم ما لا يحيط بتفصيله إلا الله " .
فمن ذلك :
1- ما يترتب على مجاهدة الشيطان وأعوانه من إكمال مراتب العبودية :
فمنها أن يكمل لأنبيائه وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة عدو الله وحزبه ، ومخالفته ومراغمته في الله ، وإغاظته وإغاظة أوليائه ، والاستعاذة به منه ، واللجوء إليه أن يعيذهم من شرّه وكيده ، فيترتب على ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية ما لم يحصل بدونه ... والموقوف على الشيء لا يحصل بدونه .
2- خوف العباد من الذنوب :
ومنها خوف الملائكة والمؤمنين من ذنبهم بعدما شاهدوا من حال إبليس ما شاهدوه ، وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المنزلة الإبليسية يكون أقوى وأتم ، ولا ريب أن الملائكة لما شاهدوا ذلك ، حصلت لهم عبودية أخرى للرب تعالى ، وخضوع آخر ، وخوف آخر ، كما هو المشاهد من حال عبيد الملك إذا رأوه قد أهان أحدهم الإهانة التي بلغت منه كل مبلغ ، وهم يشاهدونه ، فلا ريب أن خوفهم وحذرهم يكون أشد .
3- جعله الله عبرة لمن اعتبر :
ومنها أن الله جعله عبرة لمن خالف أمره ، وتكبر عن طاعته ، وأصرّ على معصيته ، كما جعل ذنب أبي البشر عبرة لمن ارتكب نهيه ، أو عصى أمره ، ثم تاب وندم ورجع إلى ربه ، فابتلى أبوي الجن والإنس بالذنب ، وجعل هذا الأب عبرة لمن أصرّ وأقام على ذنبه ، وهذا الأب عبرة إن تاب ورجع إلى ربه ، فلله كم في ضمن ذلك من الحكم الباهرة ، والآيات الظاهرة .
4- جعله فتنة واختباراً لعباده :
ومنها أنّه محك امتحن الله به خلقه ، ليتبين به خبيثهم من طيبهم ، فإنه – سبحانه – خلق النوع الإنساني من الأرض ، وفيها السهل والحزن ، والطيب والخبيث ، فلا بد أن يظهر ما كان في مادتهم ، ففي الحديث عن أبي موسى قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جمع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، منهم الأحمر والأبيض والأسود ، والسهل والحـزن ، والطيب والخبيث ) .رواه أحمد والترمذي وأبو داود (2) .
فما كان في المادة الأصلية فهو كائن في المخلوق منها ، فاقتضت الحكمة الإلهية إخراجه وظهوره ، فلا بدّ إذاً من سبب يظهر ذلك ، وكان إبليس محكّاً يميز به الطيب من الخبيث ، كما جعل أنبياءه ورسله محكّاً لذلك التمييز ، قال تعالى : ( مَّا كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتَّى يميز الخبيث من الطَّيب ) [ آل عمران : 179 ] ، فأرسل رسله إلى المكلفين ، وفيهم الطيب والخبيث ، فانضاف الطيب إلى الطيب ، والخبيث إلى الخبيث .
واقتضت حكمته البالغة أن خلطهم في دار الامتحان ، فإذا صاروا إلى دار القرار يميز بينهم ، وجعل لهؤلاء داراً على حدة ، ولهؤلاء داراً على حدة ، حكمة بالغة ، وقدرة باهرة .
ساحة النقاش