دلالات باحثة عن رؤية مختلفة
قراءة في قصة الكاتبة المصرية نهلة الحوراني بعنوان "رؤية مختلفة"
فراس حج محمد/ فلسطين
{رؤية مختلفة/ طلبت من زوجها أن يعاملها كما فعل (رشدى أباظة) ... تجاهلها ... توسلت إليه ... فوجئت به يتوسل إليها أن تغير الفيلم ... ففضلت تغيير الزوج ...}
ماذا تريد المرأة من الرجل؟ سؤال يبدو غريبا، لاسيما ونحن نطرحه في الأدب الحديث بشكل أو بآخر هنا وهناك، في القصة والمقالة والشعر، ونعيد طرحه وقد دخلنا الألفية الثالثة، يبدو أنه لا اعتبار للزمن وتراكماته الكمية في أعمار مجتمعاتنا وتفكيرنا، ما زلنا كما نحن.
في "رؤية مختلفة" تطرح الكاتبة نهلة الحوراني هذه الإشكالية في قصتها القصيرة جدا، وتعرض فكرتها متوسلة بمخزون فني رومانسي من عهد أفلام السينما العربية، أفلامٌ فيها من الحبّ ما فيها، مستعينة بشخصية رشدي أباظة، المعروف بأنه (دنجوان) السينما المصرية في وقته، وهنا تظهر الكاتبة حسن توظيف المفردات من وعيها الثقافي والفني وحتى العاطفي، في رؤيتها المختلفة، ولكن ما هو الاختلاف؟
تقوم القصة القصيرة جدا هنا على عنصر السرد، ونقل حوار زوجين، وقد بدت العلاقة بينهما علاقة باردة عاطفياً، يشاهدان فيلما مشتركا رومانسيا، فترى الزوجة كيف تكون طقوس الحب بين الممثلين وتلاحظ ذلك هي وليس الزوج، فيثر اهتمامها، فتطلب من زوجها أن يعاملها بالمثل، لعلّ فضولا يستولي على القارئ هنا ويريد أن يتعرف الدلالات المبطنة لتوظيف السينما والشخصيات؛ فهل كانت هذه الزوجة تطلب الأمر ولو كان تمثيلا، وليس شرطا أن يكون حقيقة، وكأنها تقول: مثّل عليّ على الأقل وأظهر لي ولو بالتمثيل أنك تحبني، ألم تر هؤلاء وهم ممثلون يصنعون الحب؛ صورا وكلاما، يا ليتك تقول كما يقولون وتفعل كما يفعلون"!!
كم هو مؤلم أيها القارئ أن تصل المرأة إلى حد اقتناعها واكتفائها بتزييف المشاعر من زوجها، فقط لترضي عطشها العاطفي والوجداني، إنها وقفة تأمل عند هذه الفكرة التصالحية، ولكنها خادعة تماما.
لقد كان طلب الزوجة شرعيا وفطريا، فمن حقها أن تشعر بالامتلاء العاطفي، ولكن، يا لهول ما رأت، ويا لتلك الصدمة الوجدانية من زوجها، يتجاهلها، ويتمادى في رفضه بأن يطلب منها تغيير الفيلم، وهنا موقف آخر جدير بالملاحظة ولقطة فنية بارعة، تصوغها الكاتبة بجمل قصيرة ذات أفعال مضارعة، تنم عن الحركة والانفعال (يتوسل، تغيير)، ومن حقنا هنا أن نكتشف مدى المسافة الفاصلة بين المرء وزوجه، إنها جد مسافة بعيدة، فلقد تجاهل ورفض وابتعد في تحقيق مطلب الزوجة، التي يجب أن لا يكون مطلبا من حيث المبدأ، يجب أن لا تشعر المرأة بهذا الاحتياج المفضي إلى التوسل والغرغرة النفسية العاطفية، إنه حق يبادر إليه الرجل، وهنا أيضا، إيحاء آخر وتعريض بالزوج، فلماذا يتعامل مع زوجته بهذه الطريقة؟ إن المرأة لا تحتاج اتصالا جنسيا خاليا من طقوس الحب وتفاصيله، بل ربما تحبذ تلك الطقوس على ذلك الاتصال الحميميّ، الذي يكون في الحالات الطبيعية تتويجا لعلاقات عاطفية مندمجة في كيان واحدة ومتناغمة تناغما تاما. فلا يكفي للرجل أن يمارس ذكوريته بعيدا عن إنسانيته المغلفة بالحب، وأشيائه الصغيرة، وأحبّ أن أشير هنا من باب التداعي إلى ما كتبه درويش حول تلك اللحظة في قصيدته العشقية البارعة "درس من كاموسطرا".
وتصل الكاتبة إلى النهاية، فهل كانت صادمة؟ وهل كانت فعلا تستدعي كل هذا؟ إن النص يشكل ثورة أنثوية على وضع غير سليم، وفضلت تغيير الزوج، وأيضا لا تنسى الكاتبة ببراعتها المواضعات الاجتماعية، فلم تقل، وغيرت مباشرة، ولكنها قالت: ففضلت تغيير الزوج، وهذا التعبير يعطي عدة احتمالات وتفسيرات، أقلها احتمالان؛ أحدهما الفراق، وأما الآخر ربما أرادت المرأة هي نفسها أن تغير من زوجها وطباعه، لعلها تظفر بحب يشبع رغباتها المكبوتة.
لقد نجحت الكاتبة في قصتها القصيرة جدا هذه وقد عرضت لنا ثلاثة مواقف باختصار، وذات دلالات اجتماعية وثقافية وسياقات فكرية، بلغة بسيطة اعتمدت على المفردات الشائعة، ونقلت تلك المشاهد لتقدم لنا رؤيتها هي، ولعلها لم تكن مختلفة تماما كرؤيا في الحل، ولكننا إذا ما قابلنا المشهد وعموميته في كثير من علاقات المتزوجين أدركنا الاختلاف الذي تطلبه الكاتبة! وربما كانت تقصد كتابة رؤية بالتاء وليس بالألف القائمة (رؤيا)، وكأنها تعيد همهمات نساء كثيرات يرين ويشاهدن ما ترى وتشاهد، لعل هذه الرؤية تشكل وعيا عاما نسويا لصناعة الرؤيا المختلفة.