فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

 

الناس بين الوعي الحقيقي والوعي المزيف

من منشورات صحيفة السبيل الأردنية

الثلاثاء، 26 شباط 2013 23:30

فراس حج محمد/فلسطين
ينطلق سلوك الناس من نبع المفاهيم التي يحملونها، ومن مشكاة الأفكار التي يطبقونها، وتكون هذه الأفكار عادة في الوضع الطبيعي ناتجة عن إدراك حقيقي لها ولمراميها وأبعادها في كل المجالات التي قد تدور في فلكها، بدءاً من الذات وانتهاءً بالأنظمة المجتمعية؛ سياسية واجتماعية وثقافية، وبالتالي فهي تحكم تصورات الناس حول الموضوعات المختلفة، فيتباينون فيما بينهم في الرؤية والهدف والسلوك، لأنهم في الأصل مختلفون في الأفكار والمفاهيم.
وتساهم الأوضاع الثقافية بشكل عام في صناعة الوعي المجتمعي، على الرغم من أنّ صياغة أفكار المجتمع لا تكون في ابتدائها إلاّ من لدن شخص صاحب رؤية ومنطق وفلسفة ما، فكل المجتمعات قديمها وحديثها كان الشخص الفرد هو المؤثر فيها، على ألاّ يُفهم هذا بشكل مبسط وساذج، إذ تكشف الحركة التاريخية للمجتمعات الإنسانية أنّها دوما كانت تترقب قائدا فردا يقودها بأفكاره وفلسفته ووجهة نظره، مع عدم استفراده أحيانا فيما بعد بالحكم والسيطرة والجبروت، أو تحكّمه المطلق في أحايين كثيرة بالعباد والبلاد، فيقول لهم ما قال فرعون: «ما أريكم إلاّ ما أرى وما أهديكم إلاّ سبيل الرشاد».
ومع دوران عجلة الحياة تتسع الدائرة وتصبح تلك الأفكار فرديةُ المنشأ جماعيةَ التوجه، وشيئا فشيئا يزداد المتوافقون على صحتها، ومع تلاقح الأفكار وتلاقيها وتشعبها، يغيب الفرد وتحضر الجماعة صانعة وعيها الكلي الذي يميزها، ويبدو ما عرف بالوعي الجماعي، والموافقات الفكرية والفلسفية شيئا متأصلا في حركتها السياسية والثقافية والاجتماعية، ويصعب على تلك الجماعة التغيير، ولا تستسيغه بأيّ حال من الأحوال، بل وتقف ضده بكل ما أوتيت من قوة وجبروت، ليكون لسان حالها: «إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنّا على آثارهم مقتدون».
ولذا فإنّنا ووجدنا المصلحين الاجتماعيين قد عانوا الأمرّين في سبيل صياغة أفكار المجتمع صياغة جديدة بوعي جديد، فهذا أرسطو قد مات شهيد أفكاره التي آمن بها، ودفع حياته ثمنا لجهود التغيير، والشيء نفسه يقال عن فلاسفة عصر التنوير في أوروبا، وقبل ذلك ما واجهه الأنبياء عليهم السلام من عنت من أقوامهم، فكل هؤلاء الأفراد واجهوا الصدّ والمنع والتشويش والتهويش لأنهم أرادوا تغيير القناعات واستبدالها، فمنهم من قتل ومنهم من شرّد ومنهم من مات لم يحقق أيّ مصلحة تذكر، ولكنه ترك بذوره في الأرض، فإذا ما تهيأ لها المناخ المناسب نمت وترعرعت وآتت أكلها حلوا سائغا لا شائبة فيه، ولكن بعد مسيرة من نضال اقترب فيها أصحابها من اليأس ووصلوا إلى حافة القنوط «حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنّهم قد كذّبوا جاءهم نصرنا»، تلكم هي مسيرة التغيير لن تكون سهلة ولن تكون بسيطة، ولن تكون بلا ثمن، فلا بد لها من تبعات يتحمّلها أصحابها راضين بكل ما يأتيهم من قِبَلها.
لقد مرّت الأمم والشعوب بمراحل رقود نتيجة أوضاع لها تفسيراتها السياقية التاريخية، ولكنها بغير شك ليست شعوبا ذليلة أو مستكينة أو ضعيفة، بل الشروط الموضوعية للتغيير لم تَحِن، ولم تنضج ثمار الوعي الحقيقي بعد، أو لأنها كانت تعيش وعيا مزيفا، جنّدت الأجهزة المتسلطة لصناعته الكثير من الأدوات.
ويعدّ الدين وتوظيفه بشكل غير سليم من أشدّ تلك الأدوات خطرا، إذ تمارس تلك الأجهزة النصوص المقدسة إمّا بتأويلها بما يتوافق مع مصالحها، أو باقتطاع النصوص من سياقاتها التاريخية والفكرية، لتكون شاهدا على ما تريده، وعندها من سيخرج على مقررات تلك الأجهزة سيكون منحلا وزنديقا، فيفتي أحبار السلطان بوجوب العقاب وأليم العذاب، ولذا فإنّ الدين والحالة هذه سيكون فعلا أفيون الشعوب، وهذا ما حدث في أوروبا قبيل عصر التنوير، وما حدث عند العرب في بعض فترات من الحكم عندما جمدت الأمة الاجتهاد، وركنت إلى شروحات قدّمت في سياقات ليست هي سياقاتها الطبيعية، وغابت فكرة النص الثابت والتأويل المتغير حسب الظروف والأحوال، وخاصة في النصوص التي اقتضت طبيعة صياغتها الانفتاح على آفاق من التأويل المناسب لعصور ومساقات مختلفة ومتعددة، حتى وصلت الحالة الاجتماعية في تلك المجتمعات إلى الانغلاق ومورس عليها نوع من الوعي المزيف، وصارت مقتنعة بأنّها لا ترى من أمرها إلاّ رشدا.
وإذا ما تضافر مع العامل السابق عوامل أخرى سياسية واقتصادية، تمارس على الناس ألوانا من القهر المتقن المدروس التبعات النفسية والاجتماعية تساهم هي الأخرى في صياغة الوعي المزيف فإنّ الطامة ستكون كبرى، ووهم التخلص من الحالة التي هي عليها ستكون شبه مستحيلة، وستصل المجتمعات إلى ما يشبه الموت والرضا والقناعة بالواقع، لأن لسان الحال عندها أنّ التغيير مستحيل، أو ليس في الإمكان أبدع ممّا كان! ويسود أبناء تلك المجتمعات صمت مطبق لا تعليق سلبا أو إيجابا، عندها قل إنّ تلك الأمة في حالة موت سريري، ولن ينتشلها من وهدة انحدارها سوى الهزات العنيفة، لتغيير القناعات واستبدال قناعات جديدة بأفكارها القديمة البالية.
ولو حاولنا تطبيق هذا المنطق الذي ندّعي على أمتنا في الوقت الحاضر فسنراه صائبا لدرجة كبيرة، فالأمة التي كانت تعيش حالة موت سريري مقتنعة بواقعها الزاهر! وأنّها لم تجد لقضاياها نصيرا سوى تلك الأجهزة التي حكمتها ردحا من الزمن حتى استقرّ وعيها المزيف على أنّ حكامها من نعم الله عليها، ويجب أن تشكر الله العلي العظيم على عطاياه لها، لأنه خصّها بتلك النخب المميزة! فرأت في فترة من فتراتها وهي في سبات، أنّ ملوكها ورؤساءها وأمراءها هم رافعوها إلى سلم العزة والكرامة، فأسطرتهم وأوشكت أن تؤلّه بعضهم، فحكموها وأحكموا حولها حبال الجهل والعمى، فصارت تسبّح بحمد النظام بكرة وأصيلا، مقالات وقصائد وخطبا رنانة ودعوات عقب صلاة الجمعة وفي ليلة القدر وفي عرفات الله، حيث يوم الحج الأكبر، كان هذا حقيقة نابعا من وعي أفراد تلك الشعوب، من وعي لم يغصبها أحد عليه، لكنه للأسف الشديد كان وعيا مزيفا بامتياز، وقد كنت ألاحظ في سنوات طفولتي أنّ الناس في قريتنا عندما كانت تعقد قمة عربية يتلهف الناس لمتابعتها ثانيةً بثانية، وإذا ما انفضّ السامر سردوا المديح مطولا لتلك النخب التي هزّت الناس بقولها، لكنها لم تصنع واقعا يهزّ ذنب كلب ينبح على أحد أفرادها في غربة عرضها السموات والأرض أعدّت للمشردين من أبنائها.  
لقد استمرّت هذه الحالة طويلا، وعاشت الأمة ردحا تعاني من الموت والدمار في ظل أفكار صنعها وعي تلك النخب الحاكمة بأوساطها السياسية والثقافية، حتى إذا ما تعرّضت الأمة لهزات عنيفة أخذت تعيد حساباتها وبشكل جدي، فأخذت تتململ وتصحو تدريجيا، فربّ ضارة نافعة كما يقول المثل العربي القديم، وسأذكّر القارئ العزيز ببعض تلك الهزّات التي ساهمت في رفع حالة الوهن، لتنتقل الأمة من حال إلى حال:
وأول تلك الأحداث رحيل الرئيس العراقي صدام حسين وإعدامه وسكوت الحكام العرب وتواطئهم عليه وعلى العراق عامة، عندما جيّش الاستعمار الحديث جنوده للسيطرة والاحتلال، فكان ذلك أول بذرة ساهمت في خلق وعي على أنّ هذه الأنظمة هي عامل تخلُّف وشرذمة، وما تبع ذلك من احتلال للعراق وتدمير بنيته الثقافية والسياسية والعسكرية.
ثانيا: تعثُّر المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية وصلف «إسرائيل» غير المحدود ساهم هو الآخر بشعور الشعوب العربية بالهوان، وقد ساعد اليهود على ذلك مؤتمرات القمة العربية وبعض الأنظمة، وخصوصا نظام مبارك، ممّا زاد من إحباط الشعوب ويأسها، فساعد ذلك على إيجاد أجواء من نمو تلك البذور في مناخ جديد مشجع، ومحاولة التخلص من تلك الأنظمة التي تحمي «إسرائيل» فعلا، وأهمّها مصر وسوريا والأردن.
ومن جهة ثالثة رفعت الحرب الإسرائيلية على غزة وعلى جنوب لبنان، ووقوف بعض الأنظمة مع العدو الصهيوني جهارا نهارا، رفعت من وتيرة ترعرع وعي جديد لتلك الشعوب، فشعرت بالنقمة غير المحدودة ضد تلك الأنظمة، فكيف قلبت تلك الأنظمة الحق باطلا والضحية جلادا؟ لا سيما وأنّ الموقف الدولي وقف إلى جانب «إسرائيل» وهيّأت كل الظروف لحمايتها وإذلال الدول العربية، فدفع ذلك الشعوب لتنظر إلى نفسها على أنّ عليها واجبا يجب أن تقوم فيه.
وكذلك ما حققته بعض حركات المقاومة من مكاسب عسكرية ضد أحلاف الغرب وأمريكا، وهي لا تملك من العتاد إلاّ أقلّه جعل الشعوب تفكر بأنّ باستطاعتها عمل شيء معين بشكل ما من التضحية، فالدول الكبرى بترساناتها المخيفة لم تخضع بضعة مئات من المجاهدين ولم تحسم المعركة لصالحها، فما بالكم لو هبّت الشعوب بأجمعها، فإنّ طوفانها سيقلب الأوضاع ويغيّر وجه المنطقة ويربك خطط الآخرين، وهذا ما حدث.
وأخيرا وليس آخرا ما قام به الفضاء المفتوح الإلكتروني والتلفزيوني من دور فعّال وتوفّر حرية رأي بحدود معينة ساهم برفع الوعي الشعبي بضرورة التغيير، وساهم هو الآخر برفع درجة حرارة ذلك الجسد الذي قارب على الموت لتدبّ الحياة فيه من جديد في ثورات كان يحكمها في الغالب وعي حقيقي، ستجني الأمة ثماره عاجلا أم آجلا، وإنّ عملية التدجين والتضليل انتهى زمانها، وانقطعت إلى غير رجعة، فكل ذلك ساهم في خلق الثورات وإصرار الناس على التضحية حتى بالروح من أجل مكسب أغلى وأثمن، ألا وهو الحرية والانعتاق من أنظمة مستبدة ومتواطئة.

المصدر: صحيفة السبيل/ فراس حج محمد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 171 مشاهدة
نشرت فى 27 فبراير 2013 بواسطة ferasomar

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

722,691

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.