قصة قصيرة
موعد قد يكتمل!!
فراس حج محمد
بدأ معها قصته هكذا دونما سابق إنذار، ربما لأنه شخص ظل يبحث طوال السنين الخمسين من عمره عن حب فلم يجده، ظل مشتاقا ليكون معشوقا لامرأة تخلص له طوال عمره وعمرها، لا تمنحه جسدها فقط، ليروي غلة غريزته المجنونة، كان يريد امرأة أجمل من أن تكون مجرد جسد ناعم مرمري أو حريري، أراد امرأة تنصف روحه وتنقذها من ألمها. كان طول عمره الخريفي يحلم بربيع عيني امرأة تتلهفان لرؤيته وتشتاقان لعناقه، قبل لمسة اليد وقبل افتراش الأرض ليتناول على عجل غوايتها، وينهض عنها وقد امتلأ بالعطش أكثر، كان طوال عمره الذي مرّ كحسك الشوك يحلم بتلك الأيدي التي ترتب له أشياءه، وتمنحه الحب صافيا لا لشيء إلا لمجرد الحب، لم يكن يحلم بأنثى الشهوة والجنون، كان يحلم بالروح وذوبان الروح في الروح، كانت اشتياقاته تلك بعيدة المنال، وتقارب المستحيل، لا يستطيع أن يتمناها ولا أن يحدث خاطره عنها، إنها وجع أمنية دفين لا يستطيع أن يبوح به، حتى أنه لم يكن يصرح فيه بكتاباته على كثرتها، وغزارتها وتنوع مجالاتها كان يهرب من أمنياته لأنها لم تكن لتتحقق.
ظهرت في حياته على غير عادة شيء متوقع أو خيالي، تصورها حورية هاربة من الجنة الموعودة لتكون له، سأل نفسه: هل مجرد صدفة أتت بها؟ هل هي قدر أتى وهلّ في وقته؟ هل تكون حلما عزيزا؟ هل يمكن أن تضحك لك الدنيا أيها المغسول بأوهام الرؤى، والمجبول بماء الملح والمعمد بعرق التعب؟ تزيد هواجسه كل ليلة لا ينام، ليس له إلا صورتها وصوتها الذي أتاه من بعيد بنغمته الحادة القوية الصافية، صحيح أنها كانت تتحدث معه بهمس في ليلة شتائية قارسة البرد، إلا أنه شعر بالدفء يسري في أوصاله، ولم يعد يحس بشيء. هل يمكن لموقف عابر ومحادثة عابرة ورؤية آنية أن تغير مجرى حياتك بعد خمسين خريفا، فقد ذرفت عليك الأحلام نحيبها، واكتملت دائرة السواد، فارقد بفراشك وانتظر موتك القادم. حدث نفسه بهذا والأفكار تنقله حيث هي، متأملا ذلك المشهد بكامل تفاصيله، كيف له أن يتحدث معها الآن، وهو وحيد في غرفته، لا يؤنس وحدته سوى صوت الريح العاصف التي تبذل له كل ما استطاعت من برد لتميت روحه فيستقر وجعه عند حد لا يبحث فيه عن أمل.
تمتد يده إلى الهاتف، يبحث عن الرقم، هل سترد عليه، هل ستتفهم شوقه والتياعه؟ هل يؤجل ذلك؟ تصالح مع نفسه، ترك الهاتف، وأدار التلفاز على محطته المفضلة، يستمع لبعض كلام لم يعجبه تلك اللحظة، أغان عن اللوعة والفراق، فهو لم يبدأ بعد، فكيف سيبدأ بالفراق وهو لم يجرب، ضحك من نفسه واستكان لغصة الأمنية في نفسه، وراح يسرح في تأملاته.
يرنّ هاتفه، فيظهر ذلك الرقم مرة أخرى إنها هي، ما الذي أتى بها هذه اللحظة؟ ربما حركها الفضول لتعرف عنه ما كان خافيا عنها، يرفع سماعة الهاتف ليسمعها تقول:
- مساء الخير، كيف حالك؟ أما زلت سهران؟ لم تنم بعد.
- مساء النور، الحمد لله، برد قاتل في الخارج لم أستطع النوم، وكيف لي أنام؟
صمتت لبرهة، برهتين، ثلاثة، يسمع أنفاسها تتردد فيأتيه نفسها شهيا عبر الهاتف، بم تفكر يا ترى؟ لم يدر ماذا يقول، وكيف يتخلص من ارتباكه، ويخلصها من مأزقها ومأزقه. يطول الصمت أكثر مما يحتمل، فيكسر تلك اللحظة الرهيبة بقوله:
- أرجعت من العمل؟
- نعم، رجعت من توي، لم يمض على دخولي المنزل سوى بعض دقائق، ولكن لم يزل أمامي عمل، ينتظرني بعض الطلبة، يأتون بعد قليل لأدرسهم بعض دروس الرياضيات، فالاختبارات على الأبواب.
- وكم سيمكث هؤلاء، وهل يمكننا أن نتحدث أكثر؟
- سنتحدث ولكن بعد ساعتين يا عزيزي، ومن المحتمل أن يأتوا في أي لحظة.
لم تكد تنهي جملتها الأخيرة، وبعد صمت قليل، تستأنف الحديث:
- ها هم قد أتوا، فجرس الباب ينذر بقدومهم، أعتذر منك، سأعود لك لاحقا، فانتظرني، لا تنم، سأعود بعدما أنهي الحصة، ونتحدث أكثر.
أقفلَتِ الهاتف، ووضع السماعة بتكاسل، كأنه شعر بخيبة أمل، كيف يمكن للعمل أن يقطع اتصالا وحديثا لعله يغير حياته وينقله إلى هناك حيث هي، ليكونا رسمين مكتملين في لوحة حياة جديدة بألوان زاهية، تخطها يد القدر. يا لله كم من وقت سيقضيه وهو ينتظر رجوعها! حاول أن يقلّب أوراقه، يراجع بعض المقالات والقصص والقصائد، يحاول تصنيفها استعدادا لنشرها في كتاب، يشعر بالملل، يعود لهواجسه، يتمنى لو بقيت معه فترة أطول، تمنى لو أنه استطاع أن يقول لها بما شعر به هذا اليوم، وقد أتت بكامل زينتها، ولكن ما حيّره مسحة الحزن التي ارتسمت على ملامحها، بدا له وجهها الأبيض شاحبا، تذكر حادثة موت صديقتها، وكيف أنها شعرت بالخيبة من الحياة.
لكنه لم يخف سعادته بحضورها، فاسترجع تلك اللحظة وهو يسترق النظر لوجهها ويتأمل ملابسها، وعنايتها بأناقتها، يستعيد رسم ذينك الخطين المرسومين بعناية فوق عينيها، لقد بدت له غامضة، ومثيرة، يستسلم لأقداره، ويحاول أن يعود لأعماله، لم ير فائدة لكل ذلك ما لم تكن هي معه، لكم تمنى أن تعد له فنجانا من القهوة هذا المساء ليشرباه معا، نهض من فراشه الدافئ الوثير، وتوجه للمطبخ ليعد هو فنجانه ليشربه على ملامح طيفها الذي بدا مشتعلا مع كل لمعة برق تأتيه من الشباك، يشرب فنجانه، وهو يتمتم، وربما هذى باسمها وهو لم ينتبه، يا ليتها تحبني، وتستعيدني من هواجسي، يسرقه النوم فيغفو والأحلام تصارعه، على أمل أن يرن هاتفه من جديد لينبهه، فلم يصحُ إلا وقد بان الصباح، ليعدّ نفسه ليوم عمل شاقّ، يكاد روتينه يقتل روحه، ظل منتظرا أن يرنّ هاتفه، ولكنها لم تفعل.