"الفولة لا تُبلّ بفمي":
وقفة مع كتاب "الثرثرات المحبّبة – الرسائل"
حسن عبادي| حيفا
وسم فراس حج محمد كتابه "الثرثرات المحبّبة": رسائل (292 صفحة، صممت الغلاف الفنانة ميسم فراس، لوحة الغلاف: "قارئة الحسناء" (La Liseuse) للفنان الفرنسي جان هونوري فراجونارد، الصادر عن دار الفاروق للثقافة والنشر في مدينة نابلس).
لفتت انتباهي لوحة الغلاف كعتبة نصيّة أولى؛ لوحة رُسمت بالزيت على القماش عام 1776، لفتاة جالسة على الأريكة جلسة مستقيمة، عكست جمال المرأة حين تحمل كتاباً، تقرأه بشغف، لا لدراسة أكاديميّة بحثيّة، بل من أجل المطالعة، لا غير.
وكذلك حال الإهداء كعتبة نصيّة، يخصّ به نساءه، وهن كُثُر "إلى كلّ امرأة راسلتها وراسلتني مع خالص الحبّ والتقدير، وإن انتهت العلاقة إلا أن اللغة لن تنتهي، فما زال في جعبتها الكثير لتقوله…"
يضم الكتاب مجموعة من الرسائل (حوالي 150 رسالة) التي كتبها فراس إلى مجموعة من الشاعرات والكاتبات؛ لم يبُح بأسمائهن، بل عاد للعبة الحروف وأشار لكلّ منهن بحرفين من اسمها، سبعُ نساء: "أميرة الوجد (ش. ح)، صوفي، ف. ع، ل. م، إ. س، ر. غ، ص. ز". وتبدو للوهلة الأولى رسائل عشق ومجون وفُحش، ولكن حين قراءتها بتأنّ وتمعّن وجدتها ذات بعد فلسفيّ عميق، تتناول مواضيع اجتماعيّة وسياسيّة وأدبيّة وتربويّة، يحاول إيصالها عبر أجساد "نسائه"، ضحايا؛ كنّ شمّاعات يحاول عبرهنّ رمي سهامه الفلسفيّة وأفكاره لعلّها تصيب، وكلّما هربت منه إحداهن يصطاد بديلة لها، وعلى الرغم من تحفظّ غالبيّتهن إلا أنّه يتصرّف وكأنّ من حقّه نشر غسيلهما، وما يدور بينهما، على الملأ، ويقولها بصريح العبارة "أنا أعتقد أن كلّ شخص يرسل لي جملة من أي مكان، وبأيّ شكل كانت، أصبحت جزءاً من معرفتي، ويحقّ لي أن أقتبسها وأستخدمها، فقد قيلت لي، فهي ملكي إذاً بمعنى أو بآخر".
حين قرأت الكتاب استوقفني ما كتبه "صديقي المقرّب يقول لي… فالفولة لا تُبلّ بفمي، بمعنى أنّ كلّ شيء أسمعه أحوله إلى موضوع كتابيّ. الأمر مزعج مؤذٍ، هذا ما يريد أن يقوله لي صديقي، فهو دائماً حذر في الحديث معي، لأنّني سأقول كلّ شيء يوماً ما وأكتبه، فلذا فأنا مصدر قلق وأذى له ولغيره من الأصدقاء". (ص 236) وأترك الأمر للقارئ كي يحسم أمرهما!
راقت لي نظرته للسلطة وموقفه الثاقب منها؛ "الوطن كلّه لعبة للفاسدين، وعزبة للمسؤولين، لكن "الحق كله علينا" نحن الذي نصّبناهم علينا، يجب علينا أن نثور ضدهم قبل أن نثور ضد المحتلين، فلا حريّة لنا دون أن نتحرر من فسادهم وإفسادهم، لقد بتّ على قناعة أننا نعيش تحت ظل نظام عربي فاشل وغبي وانتهازي، ولا يمتلك أي نوع من الحكمة، يواصل مسؤولوه تقاسم الوطن المنهوب أصلا. كأنه لا يكفينا احتلال واحد، ليجتمع علينا شرّان متحدان ضدنا. نعم إنهما متحدان ضدنا والله، وإنهما في وئام معاً ومتفقان علينا لإذلالنا". (ص 225)، وللسياسة، وموقفه المعارض لما يجري على الساحة الفلسطينية، حضور عبر رسائله.
تناول الكاتب ظاهرة الشلليّة المقيتة المتفشّية في عالم الأدب والأدباء، العلاقة بين الكتّاب والناشرين في العالم العربي وظاهرة (ادفع تطبع)، والجوائز الأدبيّة وركض الكتّاب صوبها وأثرها على تردّي المستوى الأدبي، ما يجري في اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين والانتخابات لمؤسساتها والكوتة الفصائليّة المقيتة، وأثر مقالته "الشعراء الصراصير" على فشله في الانتخابات، حسب تصوّر صديقي إياد شماسنة، ظاهرة "الحذف" السلطوي الرخيصة المقيتة "لقد تم حذفنا جميعا: أنا وحسن ولينا كليّة من المشهد، فقد قصقصوا التقرير الذي أعددته ونشروا ما يخصهم، هذا الفعل ينم عن وقاحة بالفعل (ص 196) (بسيطة يا فراس، والله متعوّدين عليها… وأكثر)، المثقّف الموسمي (ص 126)، دوره في مواكبة ومرافقة وتشجيع الأقلام الصاعدة، الشاعر لطفي مسلّم مثالاً، علاقته بالأصدقاء، الرائد رائد الحواري مثالاً، وشبح أستاذه عادل الأسطة يلاحقه في كلّ زمان ومكان.
فراس قارئ ومثقّف لأبعد الحدود، لكنّه مصاب بهوس العظمة والعظماء والتقرّب من عالمهم؛ وتروق له رِفقة فرناندو بيسوا وأوفيليا، فدوى طوقان وسامي حداد، فرانز كفكا وميلينيا، جبران ومي زيادة، هنري ميلر الثمانينيّ وبرنتا الثلاثينيّة، الفيلسوف الألماني مارتين هيدغر واليهوديّة حنه آردنت، وغادة السمان تتقلّب بين أحضان غسان كنفاني وأنسي الحاج، والفارق بينهم أنّ فراس يودّ تخليد مُراسلاته في حياته وليس في مماته كمن سبقوه.
صوّر الكاتب بحرفيّة مشاهد جنسيّة بورنويّة فاضحة من خلال تراشق الرسائل بينه وبين (ش. ح.) أو كما يحلو لهه تسميتها "أميرة الوجد"؛ حيث كتبت له: "أردنا الوصال… بدأ الوصال بحجمه الكبير ويكبر ويكبر يريد غمده ليغلق منافذه يركض نحوه مندفعاً بخوذته، يرتفع الصراخ وتعلو التأوهات يستمر في محاولة الاستقرار، يخرج ليتنفس ويعاود الكرة، يهتز ويهز الجسد، استقراره لا يكون سوى بتدفق الدفء وسيلانه"، ويجيب على رسالتها: "… تتقدم خطوة أخرى فتصف الإيلاج وكيف تشعر فيه داخلها، وقد انتفخ العضو وامتد ليسد منافذ الوردة القطنية، يكبر ويكبر، يحشر نفسه فيها ليعطيها إحساسا بالامتلاء والانتفاض والهزة الكاوية. لتصل إلى اكتمال العملية" (ص 21-22). والله كثير هيك يا فراس!
جاءتني رحلته الجنسيّة الماجنة مع (ش. ح) (نعم؛ ذات الأميرة الماجنة!) لأربع ليالي فندقيّة، كلّها لذّة ونشوة ووصل وجماع "أولجت فيها ثلاث مرّات، وفي كلّ مرّة أرى دمها عليّ، أسترجع تلك اللحظة كيف كانت نشوتها لا يمكن وصفها، ارتبكنا معا، لنعرف في الصباح أنه كان دم بكارتها". (ص 101 في كتاب سابق له "متلازمة ديسمبر")
تناولت في حينه ديوانه الشعريّ "على حافة الشعر: ثمة عشق وثمة موت" ولفتت انتباهي خمريّته، حضور النبيذ والخمرة في الديوان، وتساءلت بيني وبيني عن العلاقة بين الدين والخمر وأشعاره، فوجدتها "خمراً عذرياً"، خمريات رمزية، مجازية، وكأنّي بها مناجاة الذات الفراسيّة والذات الإلهية، والتعبُّد، كأنّي به "الحبّ الإلهي"، إن جاز التعبير، وجدت الخمر عنده رمزاً لرغبته في الانتشاء والشعور بالسعادة، وتدلّ على رغبته في التمرّد والمشاكسة الفراسيّة، وها هو في هذا الكتاب يقولها بصريح العبارة أنّه لم يذق طعم الكحول.
وهنا أكاد أجزم بأنّ العلاقات الجنسيّة الإباحيّة مع مُراسلاته عبر الرسائل ما هي إلا "جنس عذريّ" إن صح التعيير، وكأني بـ (ر. غ)، أو غيرها، يتقلّبن في فراشهن ينتظرن تلك القبلة و/ أو ذاك الجماع المتخيّل، مع زير النساء، فراس، عبر الكيبورد، وأراد الكاتب تمرير فلسفته عبر نهودهن وأجسادهن وعبر تلك القبلة المشتهاة يقصّر المسافات ويسهّل إيصال الفكرة.
لا بدّ من وقفة مع الرسائل المتبادلة بين الكاتب وصوفي (ص 255- 260)؛ حيث وجدت لها ميزة خاصّة وبعداً آخر؛ تبدّلت الأدوار فهي من اتخذت القرار، وحدها، وما كان له إلّا أن يستسلم راضياً مرضيّاً، رفعت لها القبّعة حين حطّت الحد عالجُميّزة وكتبت: "أعرف أن القرار الذي اتخذته اليوم سيكون صعبا على كل من حولي، بل وصعبا عليّ، لكنّي أمّ أولا وآخرا، وكل همي أن أسلّم الأمانة وأنا مطمئنة وراضية، لقد قررت اليوم العودة إلى زوجي والد أبنائي، اعترضت العائلة كلها على هذا القرار لكني أعرف تماما أن هذا هو ما يجب أن يكون، لا أريد أن يموت أحدنا وقلب أبنائي ممزق بالشكوك والظنون، لا أريد هذا الشتات لأطفالي، لقد رأيتهم كيف يضيعون مني، تائهون بيني وبينه، خاصة بعد فحوصاتي الأخيرة وبدء انتشار المرض" (ص 257)… وهذا كلّه رغم أنها تقول: "يدفعني إليه، ينتصب فوق أحلامي وشغفي أمنحه جسداً فائضاً بالشهوة، وأشعل له لهيب غنجي ودلالي، أغرز أظافري لذة في ظهره ويمنحني كثيرا من القبل. أباعد بين شجرتين عالقتين في جسد الحب… فيهتز الكون" (ص 260). يا لها من إيروسيّة فاضحة، وأكاد أجزم، ثانيةً، أنّهما لم يلتقيا البتّة وما زالت تنتظر تلك القبل الموعودة المشتهاة. يا له من جنس فاحش صاخب، ولكنّه بقي عذرياً.
همسات لا بدّ منها: لم يرق لي لبسه قبّعة المرشد التربوي والمُريد لتمرير فلسفته الحياتيّة بنصوص موجِّهة، بعيداً عن كاتباته وشاعراته وغزله العذريّ الفاحش والنص وبمعزل عن مجرياته.
كما ويظهر جلياً نرجسيّته المفرطة، (ع فكرة، مش غلط).
تبيّن الرسائل علاقة الكاتب السمبيوزيّة بقرّائه وما يكتبون عنه، وهوسه بالبحث والغوغلة عمّا يُكتب عنه وعمّا يُنشر له هنا وهناك وفي كلّ مكان، فله حضوره اليومي عبر الصحف والمجلات ومواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك متابعته الحثيثة، المرضيّة أحياناً، لإصدار ونشر كتبه.
راق لي ما كتبته الصديقة مادونا عسكر "الأستاذ فراس أستاذنا كلنا. يعلّم ويوجّه ويمنح من خبرته دون غاية، ما لا نجده إلّا نادراً في زمن المصالح على جميع المستويات"، والصديق المقدسيّ إبراهيم جوهر: "هذا الفتى الطّريد المشاكس (فراس) يكتب بوعي وحزن كبيرين ليعرّي المرحلة التي يراها الناس عارية لكنها تصرّ على أنها ترفل بثياب التفاؤل والبهجة…!"
وأخيراً؛ كم أتوق للقاء يجمعني بفراس وكفكا ونيتشة!