قراءة في كتاب:
الازدواجية في كتاب متلازمة ديسمبر للكاتب فراس حج محمد
رائد الحواري| فلسطين
أي كتاب يصدره الكاتب يكون له هدف/ غاية، شخصي أم اجتماعي، وعندما يكون الهدف/ الغاية شخصية فإن هذا يجعل المُؤلف متعلقاً بذات الكاتب، ومن ثم يجعل الشخصي مسيطراً/ مهيمناً ليس على الكاتب فحسب، بل على ما يقدمه في عمله، وبما أننا نتحدث عما هو شخصي/ ذاتي فسنجد صورة من التناقض/ الازدواجية تلازم الكاتب، ونجده يتخلى عن دوره كأديب/ ككاتب/ كشاعر/ كنبيّ، عليه واجبات تجاه ذاته وتجاه شعبه/ أمته، متناولا هموم شخصية كان عليه تجاوزها بعد أن وصل إلى ما وصل إليه من مكانة كأديب/ كشاعر/ كناقد، كمسؤول تربوي، ليغرق في الأنا المطلقة، لتنطلق عليه الآية القرآنية: "واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فنسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين".
لقد كان على فراس حج محمد كشاعر/ كناقد/ كأديب أن يتجاوز ما مرّ به (أذى/ رفض) ويطبق الآية "ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم"، "لكنه أخلد إلى الأرض واتّبع هواه"؟ من هنا أقول إن هذا المُؤلف/ الكتاب "متلازمة ديسمبر" زائد عن الحاجة، وليس له أو بنا حاجة إليه، فقد تحدث عن الأفكار/ الأحداث/ الشخصيات التي جاء بها في كتبه السابقة، "نسوة في المدينة، الإصحاح الأول لحرف الفاء، الرسائل/ الثرثرات المحببة" وفي دواوين الشعر "أميرة الوجد، وأنت وحدك أغنية، ما يشبه الرثاء، الحب أن".
كل هذا يجعلنا نقول إن فراس تخلى عن أكثر من إيجابية في هذا الكتاب، فهو تخلى عن نُبْله، وعن نبوّة كان يفترض أن يبقى محافظا عليها، في الزمن الذي نحن بأمس الحاجة فيه إلى أن نرى/ نشاهد/ نسمع فيه عن أخلاق أنبياء، نبلاء، إلا إلى الذين ينزلقون نحو أهوائهم/ وانفعالاتهم، كما تخلى عن نهجه في الكتابة، فكل من يتابع كتابات فراس يجد فيها ما هو جديد، لكن في هذا الكتاب كرر نفسه، وكشف أشياء/ شخصيات/ أحداث تناولها في أعمال سابقة، وكان أفضل له ولنا نحن القراء لو بقيت داخله، لكن هذا ما كان عليه.
التناقض والازدواجية في الشتاء:
وهنا لا بد من التوقف عند ما جاء في "متلازمة ديسمبر" لتبيان الازدواجية/ التناقض الذي جاء في الكتاب، (والخيانة) التي اقترفها فراس بحق ذاته قبل أن تكون خيانة من أعطته ما كان يحلم به وسعى إليه، ونبدأ من التناقض/ الازدواجية التي جاءت في فاتحة الكتاب: "السارد في هذه القصص شخص غريب عني لا أعرفه إطلاقا، ولم يسبق أن التقينا إلا في هذا الكتاب، لذلك فإن هذه الأفكار من صنعه وحده، وهو يتحمل مسؤوليتها القانونية والاجتماعية".
"قفوا هنا قليلا واقرؤوني، على المرء أن يعيد اكتشاف ذاته على ضوء مصابيح الآخرين، لعله يدرك بعض سر" ص 7، نلاحظ أن الكاتب يتحدث بصيغتين، صيغة السارد الخارجي، وصيغة أنا السارد "اقرؤوني" ومثل هذه الازدواجية لم توقف عند فاتحة الكتاب فحسب، بل طالت الأفكار، الأحداث، لغة الشخصية المُتحدثة، والأفكار التي تطرحها، فنجده يتحدث عن "ديسمبر"/ الشتاء بصورة سلبية: "أجد الأمر نفسه، كم كنت مكتئبا في "ديسمبرات" تلك الأيام" ص 16، لكنه عندما يتحدث عن جدته التي كانت تروي له الحكايات والقصص وهو طفل نجده يتناول "ديسمبر/ الشتاء بصورة مغايرة: "هل يعلمنا الشتاء سرد القصص؟ أكثر شيء أتذكره من طفولتي الشتاء والقصص، قصص جدتي التي ترويها بحماسة بالغة، الشتاء القارس كان دائما عاملا مساعدا على تلاوة تلك الحكايات، الشتاء له قدرة تدفع المرء ليتذكر، ويكتب الحكايات أو يقولها أو ربما فقط الاستماع إليها" ص 79، هنا، جاء الشتاء/ ديسمبر إيجابي، فهو الزمن الذي تعرف/ تعلم فيه "فراس" الاستماع، والسرد والحكايات والقصص، ودون الجدة وحكاياتها الشتائية ما كان له أن يكون الشاعر والكاتب والناقد، وهذه الصفات/ الحالات تمثل رافعة إيجابية له، فهي من جعلته يكتب أكثر من ثلاثين كتابا، وأن يكون ما هو عليه الآن، شاعر وناقد وكاتب، حتى أن هذا الكتاب "متلازمة ديسمبر" يعد أحد نتائج الزمن/ الشتاء الذي يسبب له الكآبة حسب قوله، فأي الحالتين نأخذ، شتاء الكآبة، أم شتاء القصص والجدة؟
ازدواجية الحب:
الكتاب بغالبيته يتحدث عن النساء والحب وما مر به الكاتب من علاقات وأحداث، فنجده مرة يتحدث عن الحب العذري كما هو الحال في هذا المقطع: "ها هو الصباح يا أيلولنا الحزين يخلو منها ومن عبقها.
كنت أراها ساهرة حتى ساعات الفجر الأولى، في مثل هذا الوقت من بداية النهار عند السابعة صباحا، أراها لقد كانت هنا من أربع ساعات أو من ثلاث. أين هي الآن، لم أعد أعرف إن كانت تنبض حيوية أو هزمتها الهواجس كما أكلني غول التكهنات والشيطنات" ص 54. نلاحظ المشاعر والأحاسيس التي يحملها الكاتب تجاه المرأة، حتى أنه يظهر بصورة المعذب/ الواله، لكنه في موضع آخر يتحدث عن علاقته بالمرأة بصورة فاضحة، وحتى إباحية: "تستسلمين بلا مقاومة وتعودين إلى الفراش فتتمددين وأنهال عليك دكا للحصون واحدا واحداً، حتى إذا انغرست الألف في الوردة الناعمة تأوهت تأوها أشعل كل شيء فيّ، فزدنا في الجرعة، وانتصبنا مستقيمين ملتصقين، امتلأت وردتك بماء الحياة، ورشحت على فمي أمواه وردتك الممزوجة بحليب ثدييك الدافئ، واشتعلت كل الجوارح والأركان فينا" ص 239، هذا التناقض يربك المتلقي، ويأخذه إلى أن هناك حالة غير سوية/ متزنة يمر بها الكاتب، فمرة يكون عذريا ومرة إباحياً.
ازدواجية اللغة:
اللغة تعكس/ تمثل الحالة النفسية التي يمر بها الكاتب/ الأديب، وعليه بما أن عنوان الكتاب "متلازمة ديسمبر" جاء بصور حزينة/ كآبة، فمن المفترض أن تكون اللغة لغة حزن/ يأس، لكننا نجد الازدواجية في اللغة، فمرة يتحدث بلغة الحزن الخريفية: "تتابع هذه الأوراق تساقطها في تشرين، حيث الخريف المكفهر العابس، ورقة في تلو أخرى، تسقط فيسقط جزء من القلب معها، ليتناثر قطعا تحمله الريح نحو آفاق المجهول" ص 152، وهو هنا منسجم مع العنون ومع الفاتحة ومع الفكرة التي أراد تقديمها، ومرة نجده يستخدم لغة بيضاء وحتى ناصعة البياض: "كانت امرأة كما وصفتها "مصوغة من رحيق الورد" لقد تبدت لي شعاعا خارجا من مشكاة الغيب لتملأ أركاني، وتحل في ذرات عقلي ووجداني، ولتصبح الأنموذج الذي أنهل منه كل قصيدة" ص 161، مثل هذه اللغة تشير إلى أن هناك أكثر من حالة يمر بها الكاتب، مما جعل لغته تتباين بين البياض والسواد، بين الفرح والحزن.
تناقضات رؤية الكاتب للمرأة:
ونجد التناقض في رؤية الكاتب للمرأة، فمرة يقدمها بصورة مطلقة/ كاملة وكأنها المخلص: "كنت أعتقد لفترة طويلة من حياتي، وما زال في نفسي شيء من هذا الاعتقاد، أن المرأة الواحدة في حياة الرجل أكذوبة كبرى، لكن امرأة واحدة تستطيع أن تسيطر على كل أولئك النساء" ص 19، فهنا يتحدث عن المرأة الكاملة، المرأة المثلى/ المطلقة، والتي إن فقدها سيجبر للبحث عنها في نساء أخريات، بمعنى يبحث عن الكل/ المطلق في متفرقات، فهو يسعى للوصول إلى المرأة الكاملة/ المطلقة، لكنه في موضع آخر يتحدث عن المرأة بطريقة مهينة، فيصورها وكأنها تركض خلف الجنس وإشباع جسدها: "هذه المرأة السمراء الطويلة المكتنزة ذات اللغة الرقيقة والصدر المكتظ والعجيزة الشامخة، كأن كل تلك الكثافة في نهديها وعجيزتها منحتها إياها الطبيعة لتعوض رقة الكلام التي تبدو منها، خاصة عندما تريد إيقاع الرجال في شراكها، يتغير كل جهاز نطقها ويصبح فارسيا رقيقا، تختفي الضاد والقاف والطاء والظاء، تختلط الحوابل بالنوابل، صوتها ينخفض هامسا إلى درجة تشعر فيها أن بشرتها أصبحت رقيقة بما يكفي ليفر منها الدم من شدة الوله" ص 115، هذا التناقض يحير المتلقي، ويجعله يرتبك/ يحتار، أيهما من النساء أراد الكاتب تقديمها، أهي المرأة المطلقة، أم تلك التي تركض خلف الرجال مستعينة بما في جسدها من مفاتن؟
حقيقة فراس:
وهناك تناقض في الحالة/ الصورة التي قدمها الكاتب عن نفسه، فمرة نجده يركض/ يسعى خلف النساء اللواتي يرفضنه ويهربن منه: "أريد أن أهرب إلى حضن أي امرأة لأتخلص من بعض ما استقر في عقلي، وبأن من ترضى بي مهما كانت مواصفاتها هي امرأة عظيمة، لأنها رضيت أن ترتبط بي إنسانا معاقا مشوها، وفوق هذا وذاك فقيرا معدما، ولم تعنيني مشاعر الحب والغرام وطقوس الوله والهيام، كنت أبغي أن أنسى أوجاع نفسي ليس إلا" ص 175، الكاتب يبدو هنا ضعيفا/ مسكينا/ يستجدي الحب، ينشد عطف أي امرأة تقبل به، لكنه في موضع آخر، يتمادى في وصف تفاصيل جسدها، وكأنه الرجل الوحيد على الأرض: "أعتقد أن فرجها ذو حجم كبير كما يظهر من هيأتها العامة المكتنزة، صدرها مكتظ جدا، يحتله ثديان أكبر من رمانتين... فرجها جعلني أفكر مليا بمؤخرتها، تبدو رائعة ومسطحة وليست ناتئة كرأس ثور" ص 105 و106، هاتان الصورتان تمثلان تناقضاً في فكرة الكاتب عن المرأة، وتمثل خيانة للصورة/ للمرأة الأولى التي قبلت به زوجا لها، فبعد أن أخذ مراده من الأولى، ذهب إلى أخريات وهن كثر ليفعل بهن ما يسد به جوعه الجسدي.
كذب الكاتب:
ونجد الكاتب (يكذب) مُدعي المحافظة/ الخجل، رغم كل البوح والسفور الذي تحدث به: "لا أستطيع قول كل ما أريد قوله" ص 224، فأي حديث يبقى بعد ما جاء في "متلازمة ديسمبر"؟ لقد كفيت ووفيت، ولم يتبقَّ مكان لأي كلام آخر.
الكتاب من منشورات دار بدوي للنشر والتوزيع (ألمانيا) الطبعة الأولى 2023.