القراءة مهنة: عن برنار بيفو وفراس عمر
نداء يونس| فلسطين
ليس الاعتقاد بان القراءة مهنة طرح راسخ فقط لدى أشهر مقدم للبرامج الثقافية في فرنسا الكاتب برنار بيفو، بل عنوان لأحد كتبه العشرين والذي يحمل عنوان "مهنة القراءة".
بهذا التعريف، يؤسس الكاتب لاشتغال منهجي ومدرسيٍّ على القراءة كوظيفة، لا كحالة اعتباطية دراجة يعفي المتلقي من خلالها نفسه من الجهد والمسؤولية، ومن القراءة والتفاعل بحجة صعوبة النص، وتقصر استهلاكه للمعرفة على المعنى السطحي والنص البسيط؛ وبهذا التعريف أيضا، نفترض أيضا أن الفهم يتحول أيضا إلى مهنة، فحتى تفهم عليك أن تشتغل قارئا، وكي تقرأ وتفهم، عليك أن تمتلك الأدوات المعرفية والمتطلبات الضرورية لممارسة مهنة كهذه.
أثناء دراستنا العليا في الماجستير والدكتوراه، يعرفنا أساتذة لنا لهم باع طويل في مهنتيْ القراءة والكتابة، إلى ما يسميه الغرب Book Reviews أو مراجعة الكتب، والتي يمكن انجازها من خلال اكتفاء القارئ بعرضٍ لمحاور الكتاب وفصوله وأهم طروحاته مع خاتمة تتضمن أهم الخلاصات لعمل الكاتب كما يقدمه. نستعير سميح القاسم هنا لوصف المراجعة على "انها مجرد منفضة" أو عمل روتيني غير ابداعي، وفعل قراءة بالمستوى السطحي. فبالنسبة لقارئ لا يتقن مهنة القراءة، سيكون ذاك التلخيص غالبا جيدا ويضيء على المحتوى، لكن بالنسبة لقارئ محترف في مهنة القراءة، فإن الأمر سيذهب معه إلى حد أبعد، إذ سيتناول هذا القارئ الكتاب وطروحاته الرئيسية بالنقد والتحليل اتفاقا واختلافا مع ما قبل وما بعد، كما سيجري مقاربات مع كتاب آخرين، وبين مفاهيم وطروحات مجاورة وداعمة أو مؤسسة أو نقيضة، ومع أخرى سابقة أو أحدث. سيخلق قارئ ممتهن للقراءة والفهم حجاجا وجدلا غالبا ما يخرج من خلاله بإضاءات على أهمية الكتاب أو عكس ذلك، وبما يحول القراءة وفعل المراجعة إلى مائدة مستديرة لتحريك دوائر المعنى والمعرفة.
وعليه، نسحب نفس القول على النقد الأدبي، فالأمر هنا يحتاج إلى مهنية عالية واحتراف لمهنة القراءة، وهذه يمتلكها فراس عمر، الناقد والشاعر الفلسطيني غزير القراءة والإطلاع والإنتاج.
تتجاوز خصوصية القراءة لدى فراس العرض الآلي المعتاد للنقد كفعٍل شخصي، أو كفعل تمجيد أو تهجم أو نحو ذلك، أو اكتفاءٍ بإسقاط حمولات نظرية ومعرفية تحاول تطويع النص وسحبه إلى مربعات الجاهز والمدجن والمقنن أو لاستعراض المعرفة، إنها قراءته واعية وعميقة وشاملة ومتأنية قد يخالطها بعض الأيدولوجيا أحيانا، لكن بالمجمل، تكش قراءة منجزه النقدي عن اتقانه ليس فقط لمهنة القراءة كمهنة، بل وذهابه إلى الكشف عن طبقات متراكبة من المعنى وعن توظيفٍ حقيقي للمعرفة المكتسبة والمنتجَة. إنها قراءة تأخذ الكاتب إليه أو للتعرف على ذاته من خلال الالتقاطات مصهورة بالمعرفة وصيد الجمالي فيها أو نقيضه حيث يلزم.
ان القراءة بالمحصلة منظور شخصي للقارئ مضافا إليها ماهية الناقد كقارئ موسوعي في مجاله، لهذا يكون للنقد سلبا وايجابا شرعيته المكتسبة من احتراف للمهنة وامتلاك لأدواتها، كما سيكون للتفسير الشخصي للنص بعدان: ما تعلق منه بالمعرفة والاجتهاد والكشف عن تعيينات فعلية أو جديدة او مفاجئة للدلالة، ومنه ما تعلق بالكشف عن طبقاتٍ للمعنى - التي قد لا تكون أيضا مقصد الكاتب، وبهذا تعطي النص مدلولات أعمق، أو تعطيه ما يبني عليه من تطوير لازم؛ كما أن قراءته تعطي حياة للنص، بصفته أي النص قابلا للحياة من خلال قابليته لتعدد المعاني.
اتذكر بيفو اليوم حين أرى كاتبا فلسطينيا لا يقل انتاجا ولا معرفة ولا حضورا عنه هو فراس عمر حج محمد. أحب ان اقرأ لفراس نقده سواء كان ذما أو مدحا، وأحب أن أقرأ نقده أيضا بكل أوجهه على أنه تأويل أو وجه واحد من أوجه مسلة النص، فقد يكون تأويل الخطأ كما أقول دائما صواب.
يتوافق هذا مع ما يحب أن يؤكده فراس دائما بقوله أنّ قراءته النقدية تكشف عن بعض خبايا النص، بينما يشدد لا على قراءته بل على كلمة بعضه، لأنه هذه البعض تفتح الباب واسعا لآراء النقاد والدارسين اتفاقا او اختلافا او اضافة وإدهاشا. الناقد شريك ليس في كتابة النص، بل في كتابة المعنى. هكذا، يتحقق في الواقع أحد الأوجه لفهم كيف تكون القراءة مهنة.