فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

تخليد الأصـدقاء في الكتـابة أمر بالغ الأهمية

فراس حج محمد| فلسطين

كم بدت لي هذه المسألة مُهمّة، الكتابة عن الأصدقاء، هكذا فعلتُ- على سبيل المثال- في ديواني "على حافة الشعر ثمة عشق وثمة موت"، وهكذا فعل الصديق منجد صالح عندما كتب عني وعن غيري من الأصدقاء في كتبه الأربعة ومقالاته القصصية، ولا أقصد بهذه الكتابة، الكتابة النقدية، إنما الكتابة الإبداعية. كتب ذلك محمود درويش في قصيدة "فرس للغريب" عن الشاعر العراقي صديقه سعدي يوسف، كما كتب عن آخرين كسليمان النجاب، وفدوى طوقان، وعن إدوارد سعيد، وعن راشد حسين وسميح القاسم، وعن آخرين كثيرين في كتبه النثرية وافتتاحياته الصحفية.

تبدو لي الكتابة عن الأصدقاء؛ راحلين أو أحياء، نوعا من التقدير والوفاء والتواضع والمشاركة الوجدانية والفكرية، وهي تساهم في بقاء ذكر المرء حيا، لأن الكتابة عمرها أطول من عمر كاتبها. فالرثاء والمدح والغزل- على سبيل المثال- أغراض شعرية لها هذه الميزة التي قد يفكر فيها الآخرون، ولعل فيما يرويه الأصمعي دليل على ذلك: "قال عمر- رضي الله عنه- لبعض ولد هرم بن سنان: أنشدْني مدح زهير أباك. فأنشده فقال عمر: إن كان ليُحسن القول فيكم، فقال: ونحن- والله- إن كنّا لنُحسِن له العطاء. فقال: ذهب ما أعطيتموه، وبقي ما أعطاكم". وفي قول آخر منسوب إلى عمر بن الخطاب أيضا جاء فيه: "ما فعلت الحلل التي كساها هرم أباك؟ قال: أبلاها الدهر. قال: لكن الحلل التي كساها أبوك هرماً لا يُبليها الدهر".

هذا هو أثر الكتابة؛ الخلود والبقاء، فلولا كثير من الشعر المحفوظ في الكتب لانقرض كثير من الساسة وانمحت أسماؤهم. وعليه تبدو حكمة أمير الشعراء أحمد شوقي بالغة وبليغة في قوله: "والذكر للإنسان عمر ثانٍ" بهذا المعنى، وليس فقط طِيب الذكر. وهذه هي مَهَمّة الكتابة؛ تمنحنا الخلود ونحن مكتبون في كتب أصدقائنا.

لا أخفيكم سرا أنني أحب أن أخلد أسماء أصدقائي فيما كتبت، وأحب أن أخلّد اسم المرأة التي أحببتها، وأكون معنيا بذلك. لكن ثمة عوائق اجتماعية تحول دون ذلك، فحرمت من هذه الميزة، هذا المنع الذي أشرت إليه في بعض قصائدي. لكنني أعوض ذلك بطرق ملتوية، كالتورية والترميز واللعب باللغة، فلن أترك لهذا الظرف مجالا أن يهزمني؛ فلا أمنحها شيئا من الخلود في كتابتي، تلك الكتابات التي آمل أن تكون ذات عمر أطول من عمري. لذلك أحرص أن تكون في الشعر أو في النقد أو في السرد أو في المقالة، حتى أضمن لها حضورا أكثف مما يتوقع الآخرون، فإن متُّ شاعرا لعلي أكون حيا وأنا ناقد أو كاتب فتكون هي التي تتنفس في نلك الكتابات.

في اللقاء الذي جمع عددا من الأصدقاء ممن كتب عنهم منجد صالح في كتابيه: "سلم لي على السفارة" و"سيدة من لاباز"، وقد اجتمعنا على مائدة الغداء بعد ندوة الإشهار، تنبهت إلى هذا الأمر مرة أخرى، فالمسألة لا تدخل في باب الوفاء للأصدقاء فقط، وإنما لهذا المعنى الفلسفي المرتبط بشرعية الحياة عبر الكتابة، ولذلك على الطرف المقابل لا أحبذ أنا أو غيري أن نذكر غير الأصدقاء في كتاباتنا، وإنما نتجاهلهم بالكلية- وهكذا فعل القرآن الكريم بخصومه- وإن كنا مجبرين على ذكرهم نشير إليهم عرضا بضمير الغائب دون أن نمنحهم حق الإقامة في النصوص التي نكتبها. هذا ما أفعله أيضا بعنف أشد إقصاءً مع قادة العدو والحكام ومتنفذي السلطة الفاسدين، فأتجنب ذكرهم في كتاباتي بالاسم إلا ما ندر، فهم أهون من أن يكونوا هوامش فيها، فكيف سيكونون متناً ويتمددون في لغتي؟ فلم أسمح لهم بهذه المساحة اللغوية، وعليه أيضا فهم أهون من أن أهجوهم حتى، ترفعاً، وانتقاماً منهم أشد الانتقام بمحوهم من سجلات القراء فيما بعد، فعلى التاريخ أن يمحو ذكرهم وذكراهم، وأنا أساعد التاريخ على إنجاز هذه المهمة العظيمة، فلا شرعية لهم لا في الواقع ولا في الكتابة، فهم لحظة عابرة، سينتهون تماما عندما تنتهي أعمارهم، وحسبنا منهم هذا الذي نراه منهم.

بهذه الكيفية أتعامل مع الأسماء، انطلاقا من أهمية تلك الأسماء من عدمه بالنسبة لي، فالأسماء عناوين، وإشارات للوجود الحيّ. ومن هذا المنطلق نفسه ناقشت في كتابة سابقة أهمية "الكتابة عن المقربين"، ففي هذا النوع من الكتابة كثير من القيم العليا النابعة من تجليات هذه العلاقة التي منحتنا إياها الحياة وظروفها. فالكاتب عندما يكون أنانيا يخلص للكتابة التجريدية العامة، أما عندما يكون أكثر واقعية فإنه سيمنح أصدقاءه هذه الهدايا التي تفوق حلل الحكام وذهب الخلفاء وعطايا الولاة، فكل شيء سيبلى إلا الكتابة.

المصدر: فراس حج محمد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 299 مشاهدة
نشرت فى 7 مارس 2023 بواسطة ferasomar

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

743,091

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.