شيء عن المتتالية القصصية
فراس حج محمد/ فلسطين
ما تتغياه هذه الكتابة من هدف هو الإضاءة قدر الإمكان على علاقة فن القصة القصيرة بالرواية، ومتى تلتبس المجموعة القصصية بالرواية، سواء أأطلق عليها متتالية قصصية أم لا، بعيدا عن الاستقصاء أيضا، لأنه مهما حاول الباحث من حشد للأمثلة، ستغيب أمثلة أخرى، ربما كانت أكثر أهمية ودلالة على الفكرة والمبتغى من هذه الكتابة.
انتبهتُ إلى هذا الجنس الأدبي- إن صحت التسمية- وأنا أقرأ كتاب "جرائم لا يعاقب عليها القانون"[1] لصاحبته شادية عمر كمال[2]، ليثير العديد من الأسئلة ويطرح الكثير من المسائل، وأخذت أتتبع علاقة الأجناس الأدبية بعضها ببعض، وخاصة مفهوم القصة القصيرة والقصيرة جدا والأدب الشخصي وارتباطها بفن الرواية، وفوجئت بكثير من الأعمال التي تحمل هذه الصفة التجنيسية على الغلاف الخارجي.
سؤال الرابط بين "فتافيت السرد" كان يشغلني على نحو خاص كثيرا في كتبي السردية الأربعة، واقتربت أكثر من هذه الوحدة المتآلفة في "تلك الفتافيت" في كتاب "نسوة في المدينة"، شغلني كثيراً هاجس "الشبهة الروائية" في الكتاب، وحاولت في شهادة خاصة[3] أن أبين الحدود الفاصلة أو تلك التي تتماس مع الصفة "الروائية" في الكتاب دون أن أنسب الكتاب إلى عالم الرواية مكتفيا بإصداره تحت تجنيس "قصص وسرد"، هذا التجنيس الذي استوعب كتبي السردية الأخرى وأصر عليها في كتبي السردية القادمة.
ثم يعود هذا الحديث إلى الواجهة مرة ثالثة مع كتاب القاص والروائي الفلسطيني محمود شقير "حليب الضحى" (2021). يصنف شقير الكتاب تحت جنس "القصة القصيرة جدا"، وهو ليس أول كتاب قصصي لشقير تحت هذا التجنيس. يبدو لي أن الكاتب تعمد الالتباس التجنيسي وأراد أن يضع القارئ والناقد في سؤال التجنيس الإبداعي، عندما ربط المجموعة منذ البداية برواية "ظلال العائلة". ولأي كاتب الحق في مخاتلة النقاد ومراوغتهم، فإن لم يفعل الكتّاب ذلك، فمن سيقوم بهذه المهمة إذاً؟
سبق وأشار الناقد الدكتور محمد عبد الله القواسمة إلى تقنية كتابة الرواية بتوظيف القصة القصيرة من خلال مناقشته لبعض الأعمال القصصية في مقال حمل عنوان "رواية القصة القصيرة"[4]. وتبرز هذه التقنية السردية في البناء الروائي في العديد من الأعمال، من بينها على سبيل المثال رواية الروائي السوري نبيل سليمان "تاريخ العيون المطفأة"، فقد جاءت مكونة من عدة قصص قصيرة أو حكايات، تؤلف معا الفكرة العامة للرواية، وتؤسس مجتمعة لمقولاتها الفكرية.
ومن اللافت للنظر أن غسان كنفاني في مقال له نشر عام 1968، يتناول فيه مجموعة قصصية بعنوان "حكايات من بلدتنا" للدكتور شاكر خاصباك، يقول في وصفها: "ورغم أن المؤلف يقول إن كتابه مجموعة قصص يبلغ عددها عشرا، إلا أن الحقيقة هي أن "حكايات من بلدتنا" رواية واحدة من عشرة فصول"[5]. وينحاز كنفاني إلى هذا التجنيس فيعنون مقالته بـ "الرواية الشظية تستل مخالبها"، ويتعامل معها بناء على ذلك في مقاله ذاك، كلما استدعى أن يصف هذا العمل.
كثيرة هي الأعمال القصصية التي اشتبهت بالرواية غير ما ذكرت أعلاه، إذ اعتبر النقاد مجموعة إيميل حبيبي القصصية "سداسية الأيام الستة" رواية، وليست مجرد مجموعة قصصية متناثرة القصص. والشيء نفسه يقال عن المجموعة القصصية للكاتبة الجزائرية أمل بوشارب "عليها ثلاثة عشر"، فهذه المجموعة كما صرحت الكاتبة في حوار معها "عمل يتضمن ثلاث عشرة قصة قصيرة تكاد ترتبط عضوياً ببعضها البعض إذا ما تمت قراءتها بنفَس واحد، على نحو تتابعي متصل لتجد حلاً لعقدتها جميعاً في القصة رقم 13، لكنها من ناحية أخرى يمكن أن تقرأ كقصص منفردة دون أي ترتيب كأي قصص قصيرة أخرى تتمتع بحقوق وواجبات هذا الجنس الأدبي"[6]. ولا تبتعد مجموعة طارق إمام "مدينة الحوائط اللانهائية" عن هذا البناء الذي يتراوح بين القصة القصيرة والرواية، إذ يمكن قراءتها "كقصص، وبنفس القوة تطرح عالما متصلا يجعلها قابلةً للقراءة كرواية"[7].
وأصدر الكاتب المصري إدوار الخراط عام (1991) كتابه القصصي "أمواج الليالي" تحت تجنيس "متتالية قصصية"، مع أن نجيب محفوظ سبقه في عدة إصدارات ينطبق عليها هذا التجنيس، لكنه ومعه الناشر أغفلا الإشارة إلى الجنس الأدبي الذي تنتمي إليها تلك الكتاب. وأهم تلك المؤلفات كتابه "حكايات حارتنا"، صدرت طبعته الأولى عام 1975، ثم أصدر محفوظ كتاب "أصداء السيرة الذاتية" وبعد عدة سنوات أصدر كتاب "أحلام فترة النقاهة". لقد أُهمل الإشارة إلى جنسها الأدبي كذلك.
تتضح المسألة أكثر في حالة الكاتبة المصرية منصورة عز الدين وتعاملها مع مجموعتها القصصية "مأوى الغياب"، إذ تصرح الكاتبة أن هذا العمل قد وصلت فيه "إلى حل ملائم ومساحة بينية بين القصة القصيرة والرواية"[8]. وتوضح الكاتبة في حوار آخر معها هذا الحل الملائم عندما تحدثت عن كيفية كتابتها لهذه المجموعة القصصية، بقولها: "كتبت أول قصة في المجموعة في 2013، وكانت وقتها جزءا من مسوّدة روايتي "أخيلة الظل"، إذ شكلت فصلًا محوريًا فيها، ثمّ في مرحلة لاحقة انتبهت إلى أنّ نبرة القصّة/ الفصل مختلفة عن عالم ونبرة "أخيلة الظل"، فالأولى أكثر غرائبيّة وتكاد تشكّل عالما قائما بذاته، لذا فقد استبعدتها من الرواية واشتغلت عليها لأجد نفسي أنتهي منها لأبدأ نصا آخر يتماس معها، ومن نصّ لآخر عرفت أنّ ما أكتبه متتالية قصصية، كلّ قصّة فيها يمكن قراءتها وحدها، لكن القصص كلها تكمل بعضها بعضا"[9].
وفي مقالة للناقدة الدكتورة فاطمة العلي تناولت فيها المجموعة القصصية للكاتب علي المسعودي "جلسة تصوير" بينت العلي أن المجموعة "ليست- في رأيي- مجرد مجموعة قصصية تجسد تأملات الإحساس بالنهاية، بل هي بمنزلة رواية تجسد ذلك الإحساس عبر مشاهد متصلة منفصلة جاء كل منها في صورة قصة قصيرة"[10].
وأما من الأدب العالمي فسأشير إلى ما يشبه عمل الكاتبة فيما أصدره الكاتب والفيلسوف الفرنسي جورج باتاي من مجموعته القصصية "حكاية العين"، فهي مجموعة قصص، ولكن الشخصيات هي عينها التي تتحرك في كامل الفضاء السردي للقصص جميعها.
ومن زاوية أخرى، ولاتصال هذا الكتاب بالشبهة الروائية أشير إلى رواية "عشر نساء" للكاتبة التشيلية مارثيلا سيرانو، إذ تتحدث هذه الرواية عن حيوات متعددة لمجموعة نساء، ومع أنه يمكن أن تقرأ هذه القصص بوصفها قصصا مستقلة إلا أنها تشكل معا لوحة روائية ذات هدف محدد، وهذا ما كان في العديد من المجموعات القصصية الوارد ذكرها آنفاً.
ولعل الدارس والمتابع يلاحظ أن هذه العملية بدأت عفوية دون أن ينتبه إليها الكتاب، كما عند إيميل حبيبي وشاكر خاصباك، لكنها صارت أكثر إدراكا عند كثير من الكتاب كما عند محمود شقير ومنصورة عز الدين وقبلهما نجيب محفوظ وإدوار الخراط، ولا بد أن هناك عشرات النماذج الأخرى التي نحا فيها الكتاب هذا النهج، ما يجعل هذا الأسلوب السردي الممتزج بين القصة والرواية جديرا بأن يُدرس مستقلا دراسة منهجية، فقد أخذ ينحو منحى الظاهرة البنائية في الأدب السردي الحديث، وبدأ يظهر كجنس أدبي مستقل تحت عنوان "المتوالية القصصية"[11].
يعرّف الناقد الدكتور ثائر العذاري المتوالية القصصية بأنها "قصص كتبت أصلا لتكون كتابا وتنتمي كلها إلى عالم سردي واحد"[12]، وبهذا تختلف عن المجموعة القصصية التقليدية، وعليه؛ فإن كثيراً من المجموعات القصصية التي أشرت إليها قد تشكل كل واحدة منها متوالية أو متتالية قصصية، لتكون كتابا واقعاً بين الرواية والمجموعة القصصية التقليدية، وبذلك تشتبه هذه المجموعة القصصية بما أطلق عليه "رواية الحلقة القصصية"[13]، فقد جمعت بينها عدة عناصر، وهي: الراوي الواحد، والتشابه في المضمون، بالإضافة إلى الجو العام، واللغة، وطريقة المعالجة السردية، عدا حضور بعض الشخصيات في تلك القصص التي تشكل تلك المتوالية.
هناك الكثير من الأعمال السردية التي تقوم على تقنية التقطيع السردي إلى مشاهد مستقلة أو قصصية كما في "حليب الضحى"، لكن من وجهة نظري ليست كل مجموعة قصصية أو كتاب سردي قصصي يمكن أن يكون رواية، أو متتالية قصصية. فالثيمات الواحدة المسيطرة على المجموعة لا تؤهلها وحدها لتكون رواية، أو أن تكون ضمن هذا التجنيس الجديد "المتوالية أو المتتالية القصصية"، كما في كتب سردية وقصصية كثيرة، يحرص الكتاب فيها على توحيد الموضوع المتحدث عنه في مجموعاتهم القصصية، إذ ليس من المقبول أن تتنوع القصص وتتبعثر موضوعاتها أو تقنياتها وتتشتت في المجموعة الواحدة، بحيث لا يكون الجامع بينها إلا اسم المؤلف ودفتي الكتاب المطبوع.
ثمة بناء فني منضبط بخطوط عريضة وقواعد عامّة يلتزم بها الروائيون لكتابة الرواية، ووجود قصص متتابعة بشخصيات واحدة كما فعل هؤلاء الكتاب والكاتبات جميعاً، إنما يندرج ذلك ضمن "الشُّبْهَة" الروائية أو الالتباس الروائي، إذ توجد في العمل سمات الرواية دون أن تجعله رواية كاملة الانتساب إلى عالم الرواية، ربما مع تراكم التجارب والتأمل والاشتغال الإبداعي ستنضج هذه الطريقة في الكتابة لتتمخض عن رواية تجريبية تبتعد عما استقرت عليه شروط الكتابة الروائية الكلاسيكية وما وصلت إليه الرواية التجريبية أيضا، وإن بقيت ضمن مفهوم "المتتالية أو المتوالية القصصية" فقط دون أن نجبر العمل على زجّه في فلك الرواية، فإننا سنكون أمام أعمال أدبية ذات شخصية مستقلة بعناصر مميِّزة لها عن غيرها من فنون السرد الأخرى، وإن تقاطعت تلك الأعمال مع بعض عناصر الرواية أحياناً في بعض تلك السمات أو الملامح. فمن المعروف أن الفنون السردية على اختلاف أنواعها تشترك فيما بينها بالكثير من العناصر، ولا يكاد يفترق أحدها عن الآخر إلا بسمات محددة خاصة ومحدودة ومع ذلك لا يدخل فيها مثل هذا الارتباك وهذا التردد.
وعلى أية حال فالأدب يقوم على التجريب، واستقرار الأنواع وعدم تجاوزها ما هو إلا نوع من السكون إن لم يكن صورة من صور الموت، فلا بد- إذاً- من وجود الكتاب الشجعان، فهم وحدهم المؤهلون لتحطيم المستقر أو القفز عنه بلباقة على أقل تقدير، فالمتعة في الأدب لا تتحقق دون هذا الكسر الفني لقواعد الفن التي تصبح مع الزمن "كليشهات" جاهزة، فهذا الكسر أو التجاوز هو الذي يساعد على خلق منظومة فنية جديدة، وهكذا هو شأن الإبداع والمبدعين على السواء، فمن رضي أو اطمأن لما هو قائم لا ينتج أدبا يستحق البقاء والقراءة.