فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

authentication required

في تأمّل تجربةِ الكتابة

قطتي وقطط المحررين وقطة نزار قباني

فراس حج محمد| فلسطين

أعجبتني فكرة أن ألمّ صور تلك القطط التي اختارها المحررون لقصة "أفتقد تلك القطة بالتأكيد". وأصنع منها مادة أخرى للكتابة. خمس قطط صاحبت النص في مواقع مختلفة. نشر النص أولا في موقع ألترا صوت، والقطة المختارة كانت لوحة للفنان بابلو بيكاسو بعنوان "Cat catching a bird"، لوحة سريالية، تعود إلى عام 1939، كما جاء في الموقع الذي نشر اللوحة والتفاصيل حولها.

هذه القطة مخيفة، تثير في الناظر مشاعر الريبة والتوجس والارتباك، كبيرة الحجم أيضا، ما يجعلها قريبة إلى النمر، بل إنها تشبه النمر أيضا في لونه. في حقيقة الأمر لم تعجبني تلك القطة البيكاساوية غير اللطيفة، ولأول مرة أشعر بكرهي الحقيقي للقطط. لكنني أحترم اختيار المحرر، وأشكره على اختياره، إذ عرّفني على نوع شرس من القطط.

القطة الثانية التي تثير فيّ مشاعر الخوف أيضا القطة السوداء التي جاءت مرفقة مع النص في موقع جريدة عالم الثقافة. ارتبطت القطة السوداء منذ صغري بالجن، جدتي كانت تقول لي إن الجن والشياطين يتحولون إلى قطط سوداء، عندما كنت أتفرس عيني القطط السوداء كنت أشعر بالخوف. الغريب أنني لم أكن أرى في صغري قططا صغيرة سوداء، بل كلها كانت كبيرة، ما عزز لديّ فكرة تحول الجن على شكل قطط. جدتي كانت تقول أيضا أن الجن ذوو قدرة على التحول إلى حيوانات كثيرةـ وليس فقط إلى قطط سوداء. لكنني لم أكن أخاف من تلك الحيوانات، كنت أصدق فقط تحول الجن إلى قط أسود. كانت جدتي تحرّم عليّ ضرب القط الأسود حتى لا يؤذيني. العجيب أن القطط الأخرى كانت تخاف القطط السوداء وتتجنبها باستمرار، ولم أكن ألاحظ تعارك قطين أحدهما أسود.

القطة الثالثة؛ القطة المنشورة في موقع السنابل، قطة تبدو حقيقية، في مشهد واقعي، برفقة أحد الأشخاص، لم يبد الشخص كامل الهيئة في الصورة/ اللوحة، يجلس في وضع القرفصاء، وفي يده صحن صغير، ربما كان فيه ماء، أو لبن أو حليب، القطط تلعق الحليب بلسانها بسرعة كبيرة، هكذا كنت ألاحظها في صغري، كم كانت ماهرة في هذا الفعل. المشهد إنسانيّ جدا، قريب إلى أجواء النص الذي كتبته. أحببت المشهد كله، وبدت القطة مألوفة، فمثلها الكثير في بيئتنا القروية، شكلها وحجمها، وملامحها الكليّة.

القطة الرابعة؛ قطة موقع شموس نيوز، قطة مرفهة على ما يظهر، تغوص في الأريكة، تعطي لعدسة التصوير كل جسمها الأمامي، المشهد بعيد عن أجواء النص الذي كتبته، لأن قطتي التي كتبت عنها هي قطة متشردة ولا تسكن معي في البيت، ثمة مشهد في النص يلتبس مع الصورة، فعندما قلت إنني وجدت القطة تجلس على الأريكة لم تكن جلستها بهذه الأريحية البادية في الصورة. على أي حال المشهد جميل، ومريح. وأريكتي لم تكن بهذه الفخامة المتوهمة في الصورة.

أما أجمل تلك القطط على الإطلاق من وجهة نظري، كانت القطة التي نشرتها مجلة فلسطين الشباب في عدد (يناير، 2022). القطة- على ما يبدو- عمل فوتوغرافي من أعمال الفنان حسن الباري، القطة تجلس بأريحية، تتابع مشهدا ما، مفتوحة العينين كأنها تراقب موقفا ما، أذناها إلى الأعلى، مشدودة الحواس، عيناها لا تخلوان من بعض القلق.

لا تحمل هذه القطط أي رمزية غير أنها تجسد نصا مكتوبا عن قطة قروية، فهل من داعٍ لأقول إن النساء قطط، كما فعل نزار قباني مع قطته البيضاء أو قطته الشامية؟ ثمة ما هو شائع أن النساء تخرمش مثل القطط. في بعض قطط المحررين ملامح أنثوية، شكل الجسد الانسيابي، والنظرة، والتوجس، والرفاهية، وحب الدفء والأناقة، وحب النظافة. القط حيوان نظيف كما أخبرتني جدتي، يدفن روثه، ولا يحب أن يراه أحد، وينظف جسده بلسانه، ويحب الحرية والتشميس والدلع واللعب مع الصديق، كلها موجودة في النساء كذلك.

إلا أن تلك القطط تحب ممارسة الحب علانية في شهر فبراير، فلا يتورع قط أن "يركب قطته" أمامنا ونحن ننعم بشمس شباط أمام منزلنا، منظر كثير ما أثار الفكاهة أو السخرية أو الحرج، لكنني كنت أتجنب أن أنهرهما؛ أتركهما حتى يقضيان شهوتهما دون أن أنغص عليهما تلك المتعة المنتظرة التي تحدث كل عام مرة واحدة. ممارسة القطط للحبّ، ومصادفة "عيد الحب"، وعيد ميلاد "حبيبتي" في شهر "شباط"، ثلاثة إلهاماتٍ أوحت إليّ لأكتب قصيدة "الحب في شهر فبراير" المنشورة في ديوان "وشيء من سرد قليل"، أكتفي منها بهذا المقطع:

"ليس في شهر فبراير شيء مميّزٌ

سوى أنّه في هذا العامِ يولد اليوم التاسع والعشرون

فليكن كلّ العام في الحبّ فبراير

لننعم بالحبّ سويّاً كلّ حين مثل شمس الله

في الهواء الطلق دونما خجلْ!"

ألمح أشياء أخرى في قطط المحررين، ثمة عنف، فقطة بيكاسو العنيفة في سرياليتها، وتمسك بين أنيابها عصفورا، وملامحها الشريرة ذكرتني ببعض النساء اللواتي قد تنقضّ على أحدنا فيصبح مجرد عصفور صريع بين أنيابها، لله در القطط ما أجمل شرّها!

على أي حال، قطتي في النص كانت قطة حقيقية، وقطط المحررين ما بين الواقعية والسريالية، وأجمل ما في تلك القطط تنوعها، ولعلني أجد قطتي الشامية البيضاء يوماً، لأناديها كما نادى نزار قباني قطته البيضاء، مع أنني لا أستطيع أن أحقق لها شيئا مما ذكره نزار، إنما هو الشعر، أليس أعذب الشعر أكذبه؟ فلأكن كاذباً لعلي أصبح عاشقا يلعب مع قطته البيضاء:

يا قطتي البيضاء، يا عمري

قومي، سأهديك تيجاناً مرصعةً

وأشتري لك ما في البحر من دُرَرِ

وأشتري لك بلداناً بكاملها

وأشتري لك ضوء الشمس والقمرِ

رحم الله نزاراً كم كان يحب القطط البيضاء، ويحب التهويل والمبالغة وتوريط الشعراء والعشاق، ويُطمعُ النساء في الرجال، ولكن مَنْ منا لا يحب تلك القطط وخرمشاتها على جسده؟ وإن كانت أطماعها لا تقف عند وعود نزار قباني القادر على ما لا نقدر عليه نحن الشعراء العاشقون الفقراء الكادحون. فلم يكن شاعرا معدما كأكثرنا، وإنما كان رجل سياسة وثروة وجاه.

أحبّ أن أبوح بسرّ في نهاية هذه الكتابة أن "قطتي" التي وعدتني بزيارة مع أول المطر إلى الآن لم تأتِ، ولعلها تركتني إلى غير رجعة، وتحررت من وعدها وميعادها، وفي آخر محادثة بيننا قالت إنها ستكون معي في الربيع القادم. تكون القطط حينئذٍ قد أخذت نصيبها من الحب، وتنتظر صغارها ثمار ما زرعته في شباط، لأظل أعيش على أمل ما، قد يأتي ألف شباط وألف ربيع ولن تأتي قطتي المنتظرة. فالقطط أيضا لها هذه العادة من الهجران، ومسح الذاكرة، لله ما أجملها لو أنها أتت مع المطر أو في الربيع! حتى لو خرمشتني سأكون راضيا، لكنّ الأهم من ذلك، هل تفعل ذلك إن حدثت المعجزة والتقينا؟ فيا ليتها تدمي شفتيّ بقضمة من شفتيها الناعمتين!

فبراير 2022

فيديو خاص بالقطط

المصدر: فراس حج محمد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 272 مشاهدة
نشرت فى 15 يناير 2022 بواسطة ferasomar

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

731,594

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.