مقابلة خاصّة مع شخصيّة روائيّة
فراس حج محمد| فلسطين
كيف لو خرجت جميع الشخصيّات من الروايات التي خُلقت فيها وانتشرت في هذه الحياة؟ هل ستفضح الكتّاب؟ هل سيكونون سعيدين بها وهي تحيا بكلّ تصرفاتها البشعة؟ ألم يحتط الكتّاب لهذا الأمر؟ هل سيكون بمقدورهم أن يعيدوها إلى الروايات مرّة أخرى لتظلّ تتردّد بين دفتي الكتاب ويلوك بها سارد غبيّ، ويطيح بها مرّة ويعلو بها أخرى؟ ربّما حدث ذلك ذات كتابة عند كتّاب معيّنين؟ ما هو شعورهم؟ ألم يخجلوا من شخصيّاتهم وهم يجعلونها غير منطقيّة وشرسة؟
اليوم شاهدتُ شخصيّة روائيّة في مكتبي، دخلت مكتبي ووجدتها بانتظاري، عرّفتني على نفسها، تحدّثتْ قليلاً، جلست على الكرسي وأنا أحدق فيها كي أعرفها. تذكّرت أنّني قرأتها في رواية ما. ذكّرتني هذه الشخصيّة ببعض الأحداث المربكة في روايتين أو ثلاثة، وربّما أكثر، وذكّرتني بتلك الملاحظة التي كتبتُها على هامش الرواية، كانت الملاحظة كما تقول هذه الشخصيّة ملاحظة سلبيّة جدّاً. صمتنا أنا وهي، وهي بالمناسبة ليست امرأة، وليس رجلاً، فقط هي محضُ شخصيّة روائيّة، أتت إليّ على هيأتها كشخصيّة روائيّة، فقط هكذا شخصيّة روائيّة.
فكّرت أن أمدّ يدي إليها، لم تلامس يدي جسماً، ولم أشمّ رائحة كائن حيّ، لذلك لم أفكّر بتضييفها كأس شاي أو فنجان قهوة صباحيّ. ولم يكن هناك حاجة لأعرض عليها سيجارة إذاً، لكنّها ما زالت تحدّق بي وبحقد واضح، يبدو أنّ ملاحظتي تلك قد أزعجتها تماماً. لم أعد أذكر تماماً تلك الملاحظة. لعلّني وضعت الملاحظة نفسها في هوامش روايات متعدّدة. أيّ تلك الشخصيّة هي إذاً؟ ومن أيّ رواية؟ لقد اختلط الأمر عليّ جدّاً إلى حدّ الضياع والتوهان، لم تعش في ذهني أيّ شخصيّة روائيّة حتّى الآن، وأنا قارئ نهم للروايات. لماذا تبقى الشخصيّة في الرواية ولم تعش في عقول القرّاء؟ خشيت أن أسألها هذا السؤال. كنت أتمنّى لو نفّذتُ استبانة لأسأل قرّاء الروايات النهمين عن الشخصيّات التي يعرفونها ويصادقونها وخرجت معهم من بين مجموع تلك الروايات التي قرؤوها.
هي الآن أمامي، ما زالت تحدّق بي. قفزت إلى ذهني فكرة خجلت من التصريح بها أمام ذلك الكائن الخارج من رواية: ماذا يحدث لو أنّ كلّ شخصيّة قامت إلى أحد النقّاد وصفعته إذا أساء معها الأدب. يا إلهي إذاً، ربّما ستصفعني هذه الشخصيّة الآن مع أنّني لم أسئ معها الأدب، ولم أحملّها الذنب، كلّ الذنب على من خلقها بهذه الصورة. (هل كانت هذه هي الملاحظة التي نسيتها؟) هي كانت خاضعة لإرادة السارد، كانت مطيعة جدّاً، لم تتمرّد عليه، كانت خاتماً في إصبعه. حاولت أن أقول ذلك في حضرتها وهي تحدّق بي بغباء هذه المرّة. رأيت صورتها في تلك اللحظة تغيم وتكاد تتلاشى، وفجأة تحضر كأنّها تضيء دفعة واحدة. في تلك اللحظة من الضوء ضحكت في وجهي وتمتمت بكلمات سمعت بعضها، لم أعد أحفظ ما قالت في هذا المشهد بالذات. شجّعني الموقف في متابعة ملاحظاتي عليها، وسألتها: لماذا تسمحين للسارد المغرور أن يدخل إلى قلبك وعقلك وأحلامك ويفكّر عنك ويتسلّل إلى فراشك وهواجسك؟ لماذا تسمحين له دخول الأبواب المغلقة؟ لماذا لا تتركينه خلف الباب، مقعياً مثل كلب، أو حارساً مثل عبد؟ لماذا سمحت له أن يوقعك في الشرك والتقوقع في الصدَفة، حتّى بدوت أحقر من حشرة وأهون من شرنقة ومثالاً مطلقاً للشر؟
كنت ألاحظ أنّني كلّما سألتها سؤالاً تلاشت، وغامت صورتها، ومع سماعها كلمة الشر أضاءت من جديد إضاءة مريبة قاسية، لكنّها لم تتحدّث. كأنّها فقدت اللغة. أو أصيبت بالشلل التامّ، كانت تحترق وتتلاشى، دخل عليّ المراسل في هذه الأثناء وسألني عن هذا الورق المنثور بجانب مكتبي. ناولني كأس الشاي الصباحي، وخرج مسرعاً ليعود بعد أقلّ من دقيقة، ليلملم تلك الأوراق ويضعها في كيس للنفايات.
شربت كأس الشاي، وبقيت دوامة الشخصيّة تحوم في رأسي، ماذا لو حدث مرّة أخرى ودهستني شخصيّة روائيّة مجنونة خارجة من رواية ما، تقود سيارتها بجنون، من المؤكد أنّها ستقودني إلى حتفي. يا لله كم هي مجنونة وغير إنسانيّة تلك الشخصيّات الروائيّة.