الكتابة عن المقربين- أفكار أوليّة
فراس حج محمد/ فلسطين
في حوار مع الكاتبة البلجيكية أميلي نوثومب، نشرته مجلة الدوحة في عددها (168) الصادر في تشرين الأول 2021، يتركز الحوار على رواية نوثومب "الدم الأول"؛ رواية كتبتها أميلي عن والدها الذي توفي بالسرطان في أول أيام الحجر الصحي لجائحة كوفيد-19 (آذار 2020)، ولم تتمكن من حضور جنازته، فهي في فرنسا وأبوها في بلجيكا، فكتبت هذه الرواية على لسان والدها، وكلها أمل أن يقرأ والدها "حيث هو" روايتها، "وأن يقول لنفسه: "هذه الشخصية، في الرواية، هي أنا بالفعل!". كما قالت خلال الحوار.
في كتابة نوثومب عن أبيها إثارة للعلاقة بين البنت وأبيها، فترتدّ الذاكرة حيث المثل العربي: "كل فتاة بأبيها معجبة"، لم تكن الكاتب البلجيكية "السيدة البارونة" معجبة بأبيها فقط، بل فخورة أيضا به، ووصفته بالشجاع. فقالت: "كان والدي شجاعاً.. كان بطلا حقيقيّاً.. كان شخصية رائعة...، لقد كان رجلاً لديه من الإيثار، ومن نكران الذات، قدراً يفوق كلّ ما يمكن تخيُّله". إنّها محاولة لذكر مناقب أبيها المتوفى بطريقة سرديّة، جرياً على القاعدة العامّة من رثاء المحبين لأحبابهم.
يكشف الحوار عن مدى حبّ الفتاة لأبيها، وخاصة عندما زارت قبره بعد إطلاق الناس من جحورهم، لتشعر أنها تتحدث معه، وقد احتضنت قبره كأنها تحتضنه، وأخذت تتحدث معه كأنه حيّ يرزق ويستمع.
هذه العلاقة بهذا العمق، وبهذا التشابك الجدلي الإنساني والعاطفي والروحي، دفع الكاتبة أن تكتب روايتها متقمصة صوت أبيها، فهي التي كتبت وأبوها هو المتحدث بضمير أنا. وفي سؤال حول هذه التقنية من المحاور (فابريس غينيو) أجابت الكاتبة بعد أن سألها:
لماذا اخترت أن تتقمَّصي دوره بدلاً من استخدام ضمير الغائب، وترك مسافة بينك وبينه؟
- هذه ليست تقنية أدبية. أردت أن أقترب منه قدر الإمكان، من خلال تجربة التماهي معه، وهي تجربة تصيبني بالدوار. فلمّا وجدتني أشتاق إليه كثيراً، قلت لنفسي: "كوني أنتِ والدك". ولعلَّ ما زاد هذه التجربة قوّة أن الجميع كانوا يردِّدون على مسامعي، طوال طفولتي ومراهقتي، أنني أشبهه. وكان الأمر يزعجني كلّ الإزعاج. يمكن للمرء أن يحبّ والده، ويكره أن يشبِّهه الآخرون به. هذا الشبه، الذي كان الآخرون يرونه، أعطاني شرعية معيَّنة لأغدو والدي، حقَّاً، في فضاء هذه الرواية".
إنها رواية "تخييل ذاتي" ربّما، كما جاء في مقدمة الحوار أو رواية "سيرة غيرية". هذا الحوار جعلني أعود أيضا لما كتبته الكاتبة الفلسطينية وفاء عمران عن والدها في كتاب لها تحت الطبع "سيرة غيرية عن والدها"، متعه الله بالصحة والعافية وطول العمر. لقد اتخذت التقنية ذاتها، أن تروي الأحداث بضمير المتكلم الذي هو والدها، لتقص من خلال صوت الأب جانباً من حياته، إذ يكشف هذا العمل عند وفاء عمران كم هي فخورة بأبيها وتعتز بتجربته، ورسمت له صورة مثالية، واقعية في مثاليتها، وأعتقد أن هذا جانب مهم فيمن يكتب عن المقربين بحب، زوج أو أب أو ابن أو زوجة، أو حبيبة، أن يظهر هذه الواقعية المُقْنِعة التي تبعد الشخص عن الأسطرة وتهويل الصورة.
ويتصل بهذه التجربة أيضا؛ الكتابة عن المقربين، ما كتبته الكاتبة الصحفيّة عبلة الرويني عن زوجها الشاعر المصري أمل دنقل بعد رحيله، كتاب "الجنوبي"، مع أن الرويني لم تعطِ دنقل الصوت ليتحدث بل كانت هي الراوي بضميرين: (هو) أمل دنقل، و(أنا) التي تعني عبلة الرويني تحديدا في توضيح علاقتها بالجانب السيري التي تكتب فيه، وكشاهدة على الأحداث التي تروي عنها بدءا بتعرفها على أمل وانتهاء بموته في الغرفة رقم (8)، رقم غرفته في المعهد القومي للأورام. وتشييع جنازته.
وبعيدا عن فلسفة الكتابة وأمرها، فإنه لا يتقن الكتابة ولا يحسنها عن الأحباب إلا المقربون الذين يرتبطون بأحبابهم برباط قوي، وليس مجرد علاقة قرابة ودم، لذلك يكتسب هذا النوع من الكتابة أهمية خاصة. هل أقول يجب أن نكتب حكاية أحبابنا؟ يبدو أنّ من الواجب الأخلاقي أن نفعلها قبل أي واجب آخر.
تشرين الأول 2021