قصص وسرد:
رسائل إلى فاء نون
فراس حج محمد/ فلسطين
إلى حضرة القارئ المحترم، وإن كنتَ محترماً فعلاً لن تذهب إلى تركيب أسماءٍ على هذين الحرفين، ليس منعاً لإشباع فضولك وحسب، بل لأنّ ثمّة ما لا نهاية له من الأسماء الثنائيّة التي يبدأ أولها بالفاء، وثانيها بالنون، ومنعاً للتعب المتوقّع في استعمال البدائل دون طائل، فلا تحصر عقلك باسم محدّد، إنّها بداية للخطأ التي تحاول أن تدسّ نفسك فيه. ربّما أكبر من خطأ. إنّها دوّامة رأس مزعجة لن تخرج منها سالماً.
أمّا ما هي فاء نون هذه؟ فدعني أوّلاً أن أنبّهك إلى ما هو أهمّ من السؤال ذاته. لاحظ أيّها القارئ الكريم أنّني قلت "ما هي"، وليس "من هي"، ولعلّك تعرف الفرق بين الأسلوبين في مثل هذه الحالة، ولستُ معنيّاً أن أشرح لك هذا الفرق، فما عليك إلّا التوجّه إلى معلّم لغة عربيّة متواضع الإمكانيّات ليجيبك، فليست مسألة معقّدة، وربّما يغنيك معلّم الأجيال "السيّد جوجل"، فإنّه سيخبرك بكلّ سهولة. أرأيت كم هي بسيطة هذه العمليّة؟
انتظرْ ما هو أعقد.
أعود وإيّاك إلى فاء نون، فما هي فاء نون هذه؟ لا شكّ في أنّها امرأة من لحم ودم، لكنّ لحمها ودمها لم يجتمعا في جلد واحد، بل إنّ ذلك اللحم الطريّ الأبيض الأملس المشوب بالحمرة التي تكسوه قشعريرة محبّبة عندما يصافحه النسيم الخفيف في العضدين المكشوفين، فيجلب الصداع من شدّة الشهوة، وذلك الدم الفائر المفخّخ بالنشوة، كلاهما قد توزّعا على عدّة نساء حقيقيّات، هنّ كذلك من لحم ودم.
فاء نون موجودة بينهنّ، وهنّ شواهد على وجودها الحيّ، كونها امرأة من لحم ودم، ولها اسم وقيد في السجل المدني المحلي في مدينتها التي تسكن فيها، وتمارس عملها اليوميَّ دون أن تنقطع عنه يوماً واحداً، حتّى ليخيّل إليّ أنّها لا تتمتّع بيوم إجازة من عملها. المسألة تبدو صعبة بعض الشيء. لكن لا بأس، دعني أشرح لك هذه المسألة بشيء من التبسيط والتوضيح.
كنت أعتقد لفترة طويلة من حياتي- وما زالت في نفسي بقايا من هذا الاعتقاد- أنّ المرأة الواحدة في حياة الرجل أكذوبة كبرى، لكنّ امرأة واحدة تستطيع أن تسيطر على كلّ أولئك النساء، وتضبط إيقاعهنّ وحركاتهنّ، وذات قدرة على أن تُركن تلك النساءَ في مخازن الرجل العاطفيّة، إن حضرت هذه المرأة لن يبدو من أولئك النساء أيّ بادٍ، ويتجمّدنَ في أماكنهنّ، فإذا غابت هذه المرأة التي أطلقت عليها فاء نون، فإنّ النساء تبدأ بالتسلّل واحدة فواحدة، والخروج من تلك الأماكن الرطبة، ويتصارعن على الوجود في حياة الرجل وفكره- هنا حقيقة لا فرق بين أن يكون الرجل كاتباً أو مجرّد شخص عادي في هذه الحياة- ولن يكون قادراً على حسم المسألة بتاتاً، لأنّ أولئك النساء بالنسبة له على درجة واحدة من الإثارة والرغبة والشهوة والجمال، وحتّى الرائحة والملمس، لذلك تتحوّل حياته إلى حلبة صراع كبيرة لا تنتهي مع أولئك النساء.
عزيزي القارئ، هذا جانب والجانب الأكثر أهمّيّة أنّ الرجل يرى في كلّ واحدة من هؤلاء النساء جزءاً من فاء نون، تلك المرأة الموصوفة بأنّها "المرأة الصاعقة"، واحدة تمثّل له عينيها، وأخرى بطنها أو صدرها، وثالثة فرجها أو فخذيها، ورابعة عجيزتها وأردافها، وخامسة شفتيها وطريقة كلامها، وسادسة فكرها وجنونها ومجونها، وهلمّ جرّاً، حتّى يستغرق في التحليل والتركيب والملاحظة، هل تشعر معي- أيّها القارئ المحترم- كم هي العمليّة صعبة ومرهقة والرجل يحاول أن يعيد تركيب صورة امرأته الراحلة- فاء نون- من مجموع حضور أولئك النساء؟
اعذرني على السؤال السابق لقد كان طويلاً، ربّما ليتناسب مع كم التعقيد الذي يختزن في بنيته. لا عليك، تبدو لك المسألة، كما تبدو لي أحياناً، أنّها غير مستساغة. إجمالاً هذه هي الحقيقة التي أعاني منها تحديداً وأنا أحلّل وأركّب وأحاول القياس؛ قياس غائبتي على هذه الشواهد.
والآن نأتي، أيّها القارئ المحترم، لحسم السؤال المركزي في هذا كلّه، فما هي فاء نون. إنّها تلك المرأة التي وزّعتُها أو أجبرتني الظروف على توزيعها على نساء كثيرات، ووجدت في كلّ واحدة منهنّ شيئاً منها، لكن دون أن أكون قادراً حتّى الساعة على إعادة تركيبها بالكامل ليغنيَ حضورهنّ عن حضورها، لذلك أشعر دائماً بالرغبة في المزيد من النساء، لأنّ ثمّة شيئاً أو ملمحاً أو تفصيلاً ناقصاً، أو روحا غائباً من مجموع أولئك النساء بلحمهنّ ودمهنّ، وأخشى ألّا أستطيع تحقيق رغبتي، وأظل باحثاً عن ذلك الناقص منها في خيالي.
أنا أحبّ أن أكتب لفاء نون من خلال الكتابة لكلّ النساء الأخريات.
مرّة أخرى أقول لك- أيّها القارئ المحترم-: لا تتعب من البحث والجريان خلف سراب، كما أنا جريتُ، بحثتُ، وتهتُ، وها أنا ضائع لم أستطع العودة إلى حيث كنتُ قبل سنوات. أتت فاء نون وأخذتني في نزهة، قطعت عليّ الحلم، رجعت سالمة من أحلامها، وبقيت وحدي هناك حيث تركتني أتخبّط في أرضٍ لم أكن أعرفها، لم أعدْ من ذلك الحلم بعد، ولم تفلح النساء اللواتي يقمن حفلاتهنّ على شفاهي أن ينقذنني من هذا الحلم. عند هذه النقطة بالتحديد لا تعتقد- أيّها القارئ- أنّني أحاول أن أتفلسف في الكلام أو أتأنّق في أدبيّته، خذ الكلام على حقيقته رجاء، دون أن تزجّ به في مراجل الفانتازيا، والرومانسيّة، والمجاز الكاذب دائماً في حالتي هذه.
ذهبتْ، وذهبتِ الجنّة، وذهب كلّ شيء، وبقي منها حرفان هما فاء نون- وهما ليسا حكراً عليّ، بل إنّ كلّ رجل له فاء نون خاصّته- أحاول وحدي كلّما كتبتُ أن أتلاعب بهما؛ لألبسهما معنى جديداً جديّاً وأتذوّق طعماً مركّباً مولوداً من توّه، لكنّهما على ما يبدو أكثر مراوغة ممّا كنت أظنّ.