الجماليّات الأسلوبية للتعبير عن الذات في "تلك الأمكنة"
فراس حج محمد/ فلسطين
بأسلوب أدبي سلس وجميل ولغة متقشّفة يكتب محمود شقير سيرته الذاتية "تلك الأمكنة". لعل أكثر ما يشد القارئ في هذه السيرة أن الكاتب يقصّ عليك حكايته كأنه يتكلم معك وجهاً لوجه. إنه يفترضك أمامه. فمن يعرف الكاتب عن قرب يلاحظ أنه لا فرق كبير بين أن يتحدث معك أو أن تقرأ له. لقد انتفت المسافة بين اللغتين؛ لغة الكتابة ولغة الحديث، وتوحدت في لغة واحدة هي لغة هذه السيرة. ليكون كاتبا أليفا للقراء، وخفيف ظلّ، يمتعك بإيقاع كلامه المنثور المتزن.
محمود شقير في هذه السيرة كاتبٌ يعرّف قارئه على "تلك الأمكنة". هذا الدالّ الذي يفترض الكثير من الكتابة وببساطة شديدة. ستقول لك السيرة ما هي "تلك الأمكنة" التي عاشها أو عاش فيها أو عاشت معه. لكنْ ثمة شيءٌ تخفيه "تلك الأمكنة". ما هو هذا الشيء؟ إنها تخفي أناسها أو ربما تشير إليهم، فالأمكنة حتى تستحقّ هذا الاسم لا بد من أن يكون لها وفيها أناس تعلقوا بها أو تمكّنوا منها أو فيها، وإلا فهي مجرد جغرافيا سائلة أو باهتة بلا أي ملامح، فالمكان والحالة هذه، محدد وله طابع ومزاج وأناس وفضاءان معرفي وتاريخي، بمعنى أن له أحداثاً، فالمكان- وهو مفرد الأمكنة- ليس –صرفياً- اسم مكان فقط، بل هو البقعة الجغرافية التي تكوّنت فيها أحداث معينة عاشها أناسٌ معيّنون.
يشير الأصل الثلاثي "كان"-وهو فعل تامّ- الذي أخذ منه لفظ "المكان" إلى معنى "وجد"، لذلك فإن المكان هو "فعل الوجود"، أي فعل الصيرورة والحدث. وبذلك تكون "تلك الأمكنة" قد فعلت فعلها في الكاتب فأثّرت فيه وتحرك في فضاءاتها الممتدة، بل شكلته على نحو ما وتركت سحرها في نفسه حتى وهو يشارف على الثمانين من عمره، فقد توقفت السيرة عند عام 2015. فـ "تلك الأمكنة" كانت حاضنة للنشاط الحياتي والثقافي والحزبي والسياسي للكاتب، وتسير فيه باتجاهين، الأول من الكاتب نحو المكان، في حين يتجه الثاني من المكان نحو الكاتب لتتولد العلاقة الجدلية بينهما.
ينفلت دالّ المكان بصيغته العنوانية "تلك الأمكنة" في البنية السردية أول مرة في صفحة (39)، ويعاود الظهور دون اسم الإشارة "الأمكنة" أو مفردا "المكان" في مواضع متعددة من السيرة، فالكاتب عندما شرع في سرد أحداث هذا الكتاب أراد أن يجعل للأمكنة حضوراً مركزيّا، وهذا ما أكدته على نحو غير مباشر المقدمة التي استهلّ بها شقير هذه السيرة، فقد بيّن موضع هذا الكتاب بالنسبة لكتبه الأخرى التي اشتملت على جانب من سيرته الذاتية، واختصاص كل كتاب بجانب معيّن، هنا يحترس الكاتب من التكرار؛ تكرار الحديث عن نفسه، كأنه يريد أن يقول للقارئ، هذا كتاب مختلف عن كتبي السيرية السابقة، فهو مخصص لأمكنتي، "تلك الأمكنة" التي كان لي فيها علاقة. ومختلف عن كتاب "مدن فاتنة وهواء طائش" الذي نسبه شقير خلال السيرة إلى "أدب الرحلات"، فثمة تقاطع إذاً عنوانيّ وموضوعيّ بين الكتابين.
إن أهم سؤال تطرحه هذه السيرة إذاً علاقة الإنسان بالمكان، وعلاقة المكان به، من حيث هو إنسان، بكل تقلباته الظرفية التي جعلته يغير في الأمكنة والأسباب الموجبة لهذا التغيير، وكأن شقير أيضاً يؤكد حقيقة الألفة بين الإنسان ومكانه، تلك الحقيقة التي عبّر عنها الشاعر بقوله "كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل". والمنزل في بيت الشاعر بمعنى اسم المكان وليس البيت الصغير بطبيعة الحال. لقد ظهر هذا الحنين في السرد بشكل جليّ، فيعيد السارد قارئه إلى المكان الأول "القدس" حتى وهو يجري المقارنات بين الأمكنة. فالقدس شكلت نقطة مركزية على الدوام. وحينما يعود إليها يعود وهو مشتاق إلى مكانه الأول، كما يقول ذلك صراحة.
في حقيقة الأمر، كما يبدو من المدونة الدينية والأسطورية والشعرية، فإن المكان له تأثيره في حياة الإنسان، فمنذ وجد آدم ارتبطت محنته بصورة أو بأخرى بالمكان "الجنة"، فأخرج منها ليعود إليها، هذه الدائرة من العذاب القدري، تناسلت في عذابات صغرى فردية الطابع القدري عند الشعراء مثلا وعند الفلاسفة، وعبر عنها شقير تعبيرا غير مباشر، فقد كان هو آدم الذي أخرج من القدس/ الجنة؛ ليعود إليها وما بين الزمان الأول والزمان الأخير الرابط هو المكان/ القدس. لقد تحقق في هذه الصورة اكتمال الدائرة في رحلة آدم وهبوطه إلى الأرض من الجنة ليعود إليها مرة أخرى. هذه- على أي حال- ليست محنة شقير وحده، وإنما وجدت عند شعراء وكتاب ومنفيين آخرين، وكما عاد آدم إلى مكانه الأول عادوا إلى "تلك الأمكنة"، فرحلة الإنسان بالمجمل هي رحلة زمانية في عدة أمكنة ليستقر في المكان الذي هو خاصته، ملكه، مع أنه خلال هذه الرحلة بين الزمنين في البعد عن المكان ثمة تغييرات تصيب الإنسان وتحولات تصيب المكان، فمن قال إن الأمكنة ثابتة لا تتغير؟ إن لها طبائع كطبائع البشر، فالرسوم تمحى والمعالم تتبدل، وثمة ما يسقط منها ومن إنسانها مع الزمن، ولا يبقى منها غير الإطار العام، حدث هذا مع القدس ومع مدن أخرى كمدينة براغ ومدينة عمان-على سبيل المثال- اللتين زارهما الكاتب في زمنين مختلفين فوجدهما قد تغيّرتا.
بهذه الأسطورية الدائرية بدت القدس بوصفها المكان الأول، أما الأمكنة الأخرى فهي إما محطات استجمام، أو محطات قهر، أو محطات عيش، أو محطات معرفة. وبذلك أيضا تكتسب الأمكنة أبعادا أخرى غير الجغرافيا، أبعادا لها علاقة بالتكوين النفسي والروحي والعقلي للإنسان الذي يعيش فيها ليكتسب منها دون أن يؤثر فيها، فهو مجرد عابر لهدف قصير المدى.
تشير "تلك الأمكنة" إلى نوعين من الأمكنة، الأمكنة العامة الكبيرة، ذات الجغرافيا الممتدة، كالدول (فلسطين، الأردن، الأندلس، فرنسا، أمريكا، السويد، ....)، وداخل هذه الأمكنة ثمة أمكنة أصغر كالمدن (القدس، رام الله والبيرة، عمّان، باريس، براغ، استكهولم، ....)، وبعض هذه الأمكنة باهت الحضور، يمر مرورا عابراً، ولكن المكان المركزيّ في عقل الكاتب وسيرته هو ذلك المكان الذي يأخذ بتفصيل أمكنته، وتحتل البيوت فيه على اختلاف أشكالها ووظائفها مكانة خاصة، تلك البيوت التي سكنها الكاتب طوال فترة حياته، والشوارع، والمقاهي، والمكتبات، إلى أن يصل إلى الأمكنة الأكثر حميمية وهي "تلك الأمكنة" المحتواة داخل المكان/ البيت، ويلخص شقير مكانة البيت بقوله: "ولا بيت في العالم يعدل بيتي في الوطن".
ثمة أمكنة أصغر حجما أيضاً، إنها تلك الغرف التي نام فيها الكاتب ومارس أحلامه الشخصية والحزبية وكانت محلا لولادة كثير من كتاباته، تكتسب "تلك الأمكنة"/ الغُرَف وظيفة مركزية في حياة الكاتب وهي "الأمان"، حتى وهو يدخل بيوتها خلسة ويخرج منها "خائفاً يترقّب"، إنما وهو في داخل تلك الغرف كان يشعر بأمان من نوع ما كأنها الرحِم، ويأتي انتهاك تلك الغرف ذا دلالة مضاعفة في انتهاك روح الكاتب والتأثير في مشاعره. إلا غرف الفنادق فهي باهتة، ولم تكن حاضنة لأي فعل يذكر في هذه السيرة.
كل ذلك يشير إلى أن الكاتب كان يعيش في دوائر متداخلة بلغة الهندسة، تظل تصغر الدائرة حتى تصل إلى مركزية الكاتب في بؤرتها، وللقارئ أن يتصور المشهد الكلي الذي تحاول هذه السيرة أن ترسمه؛ عدة دوائر، تبدأ بالبؤرة/ الكاتب وتظل تكبر الدوائر دائرة بعد أخرى، وكلما اتسعت الدائرة اتسع مفهوم الأمكنة، وبالتالي تصير العلاقة أقل قوة وحضورا، ولكنها لا تتلاشى بالكليّة.
هذا المخطط الذهنيّ للأمكنة المرسوم في عقل الكاتب أولا، المنقول لعقل القارئ ثانيا يؤكد مركزية الكاتب في سيرته الذاتية، وهذا ما يجعل لهذه السيرة أهميّة كبرى في بنائيتها الهندسية المنطقية للعلاقات الكلية والجزئية للأمكنة أولا بعضها ببعض، وعلاقة تلك الأمكنة بإنسانها الذي يتحرك في فضاءاتها، بدءاً بمكان الولادة وانتهاء بأمكنة العيش والكتابة المختلفة.
تبدو هذه الصورة التي شكلتها السيرة منطقية تماما، ومتفقة مع رسالتها التي تريد أن تؤديها، لذلك فإن الأشخاص الآخرين الحاضرين في السرد هم أشباح، يتعلقون بالفكرة لإيضاحها، وليس ليكونوا أبطالا يتقاسمون الكاتب الضوء في ردهات السرد الطويلة. ومَن منحهم الكاتب مساحة في السرد كانت ضئيلة، ومجموع حضورهم جميعاً لا يشكل حضورا موازيا للكاتب، وهذه منطقية أخرى تضاف إلى المنطقية العامة في رسم "تلك الأمكنة"، فالسرد لا يستهدفهم لأشخاصهم بل إنه يستعملهم لمنفعته السردية، فكانوا "أدوات" مساعدة لترسيخ حضور الذات المركزية في كل "تلك الأمكنة" التي حلّ فيها، والأفعال التي أحدثها وجوده فيها.
هل يؤشر هذا إلى نرجسيّة ما؟ عموماً، لم يسلم كتّاب السيرة الذاتية من هذه النرجسية، هذه التهمة التي لم تعد تهمة، بل ربما ارتقت لتكون مزية هذا النوع من السرد. هذه النرجسية لم تكن بادية للعيان في سيرة محمود شقير هذه، فـ "أنا" الواضحة المباشرة الحاضرة سارداً مسيطراً، لا تلجأ إلى ذكر أفعال الفخر بالذات وتضخيمها، بل على العكس من ذلك، كان يخفف من حدة هذا "التفاخر" بإشراك الآخرين معه في الأفعال التي تدعو إلى الفخر كأفعال العمل الحزبي والإبعاد عن الوطن على سبيل المثال.
إن نرجسية شقير في "تلك الأمكنة" كانت أكثر ذكاء من تقليدية الكتّاب الآخرين، ولعلها وجدت بالطريقة التي كُتبت بها السيرة، ووضحتها آنفاً، وهي الطريقة التي بنى فيها كتابه، لعلّ شقير قصد هذه الهندسية المنطقية التي جعلته في بؤرة الضوء، فكل الخيوط منبثقة من مركز واحد هو ذاته، وربما لم تكن مقصودة. ولعل شقير كان حذراً من الوقوع في الشرَك، لكن للكتابة منزلقاتها التي تأخذ القراء إلى تفسيرات وتأويلات لم يكن الكاتب يحسب لها حساباً أو يتوقّعها.