في تأمّل تجربة الكتابة
هوامش على كتاب "حليب أسود" للكاتبة إليف شفاق
فراس حج محمد/ فلسطين
ماذا يعلّمنا هذا الكتاب؟ ربّما أشياءُ كثيرة أهالتها علينا تركيبته السرديّة، عوالمُ واقعيّة، وأخرى خياليّة، لكنّها بالفعل كانت منسجمة تماماً. كم مثل إليف شفاق في عالم الكاتبات الرائعات، مع أنني لا أحب استخدام وصف (رائع) إلا نادرا عندما تعجز اللغة عن أن تمنحني فيضها السماويّ لأعبّر عن دهشتي بجمال ما. فأقول: رائع. فأتذكر أن الوصف مبتذل عند الكثيرين كالحبّ تماما، فأخرسُ تماما كشيطانٍ ساكتٍ عن الحقّ. ولا أدري أي وصف مناسب وقد فقدت لغتي!
الكتابُ الثاني لإليف شفاق أقرأه بنهم، بعد "قواعد العشق الأربعون"، إنه "حليب أسود". لم يكن أسودَ إلا بقدر ما فيه من حبر أبيض ليسطر فكرة إنسانيّة، أنثوية- ذكوريّة معا، إنها فكرة الأمومة. الفكرة بحد ذاتها جربتها مرتين؛ الأولى عندما كنت طفلا لأمي، والثانية عندما أصبحت أبا لأطفالي، وزوجا لزوجتي. ليست هنا المشكلة بالضبط، المشكلة بالنسبة لي، هي أنني أيضا أعاني من إرهاق الأمومة. كوني كاتباً. أرهقتني الأمومة على نحو مختلف؛ أبٌ لخمسة أطفال ويعاني من الأمومة! أيّ غباء هذا وأنا لم أقم برعايتهم أو تدريسهم بعد الدوام، ولم أطبخ لهم، ولم أسهر حتى وهم يمرضون، ولم أغيّر لهم بالتأكيد حفاظاتهم؟ زوجتي كانت تفعل ذلك عنّي بكل كفاءة وجدارة، بالإضافة إلى أعمال المنزل. ولكن كيف كنتُ أعاني من الأمومة وأنا أبٌ لا دعوى له بأبنائه؟
هنا تبرز المشكلة. في الحقيقة عانيت من الأمومة وأنا مع أبنائي صغارا، وكبارا، وها أنا أستعير تجربة إليف شفاق لأرى نفسي أمّا فاشلا، إذ إنني أضيق ذرعا بمشاكساتهم، الأختان الكبيرتان في صراع، الأصغران في لهو حينا وحينا في بكاء. وابني الأوسط في نزق وتذمر وعصبية طوال الوقت. وأمهم تحاول ما تحاوله من أمرهم. لكنهم يصرّون على جعلي أمّا، وأمّا فاشلة بامتياز، كيف عليّ أن أوفّق بينهم وهم خليط بين مراهقين وأطفال ما زال أصغرهم على حافة الثامنة من عمره؟
تبدو المسألة فيها نوع من الخيال، ربما، لكنها واقعية بالمطلق، أبنائي يقطعون عليّ أوقات خلوتي بقراءاتي وكتاباتي التي لا تنتهي. يرفعون أصواتهم، يردونني إليهم، أحاول أن أكون أمهم، فأفشل، أصبح أبا دكتاتوريّا، أسكتهم كما يسكت طاغية ودكتاتور شغب مسيرة سلميّة! يهدؤون، أهدأ وأبتسم، لكنهم يضمرون لي شرّا جديداً وهكذا. أستسلم لهذا القدر. أمتنع عن مشاكستهم مباشرة، أحرّض أمّهم عليهم. تحاول بطريقتها وتنجح. إنها أمّ أكثر منّي، لقد تدربت على فعل الأمومة وأنا ما زلت عصيّا على التدريب.
تعلّمني إليف شفاق أن أكون أمّا حقيقية، فأنتبه للتفاصيل الكثيرة حولي. أبعد الاكتئاب عني، أتصالح معي ومع أصواتي الداخلية، فأنا أيضا كأليف، كأي كاتب، كأي إنسان على وجه هذه الأرض، فيه أصوات داخلية كثيرة. سأستمع إلى أصواتي الداخلية المقموعة، وأعيشها كلها في وقتها، لا أتصارع معي ومع ذاتي المنقسمة إلى ذوات، ذاتي العمليّة، اللا مبالية، الجادة، الهزليّة، العابدة، المكتفية بقشور العبادة، ذاتي المهتدية، أو ذاتي الحاضرة الضالة ضلالا بعيدا. كلّها أنا كما تقول إليف شفاق. هذا درس مهم عليّ تعلمه من "حليب أسود".
درس آخر عليّ الاعتراف به هنا، وهو لعبة الأسماء، تأخذ فلسفة الأسماء في كتاب "حليب أسود" بعدا مهما، بدءا من العنوان اللافت للنظر، والصادم للذائقة، فمتى صار الحليب أسود إلا بنظر المكتئبين من الكتّاب وفي نظر إليف شفاق فقط؟ وحدهم ووحدها من رأت ذلك. وإن سبقها إلى هذا العنوان الشاعر الفلسطيني "المتوكل طه"، كتب حليبه شعرا، وأما إليف فكتبته سردا. هل كانت مجازية، أم كانت حقيقية؟ إنها كتبت حقيقتها بمجاز حقيقيّ. نعم إنه تعبير صائب تماما، وأنا هنا لا أحسن المراوغة والفذلكة في التعبير. إنها حقيقة لغوية بلاغية مهمة هنا.
للأسماء فلسفة إذن هنا في هذا الكتاب، تعلمنا إليف شفاق لعبة أو فلسفة اختيار الأسماء، وأهميّة الأسماء للكتاب والكاتبات، ثمة كاتبات غيّرن أسماءهن، حتى إليف شفاق تختار المقطع الثاني لاسمها بنفسها ضمن فلسفة ما. تنتسب لأمها فيه. كذلك فعلت كاتبات كثيرات لدواع وأسباب فلسفية كثيرة. وتختار اسم طفلتها "شهرزاد" واسم طفلها "أمير" بفلسفة ما. إنها "شهرزاد زيلدا"، وإنه "أمير زاهر". والاسمان ينتميان لفلسفة واحدة تنحو منحى الانحياز للكتابة.
إذن تعلمنا إليف شفاق درسا آخر في اختيار أسماء أطفالنا. أسأل الآن نفسي ما هي فلسفتي الخاصة في تسميتي لأبنائي الخمسة! يا للهول، أيعقل أنني بدون فلسفة في تسميتي لأبنائي؟ ربما. لا أريد أن أكشف عن جهلي تجاه ذلك. يكفي ما فضحتني به إليف شفاق.
نحن الكتّاب يمسّنا شيء من هوس الأسماء، بعيدا عن أسماء أطفالنا، سنجد ذلك الهوس في تسمية كتبنا، وعناوين قصائدنا ومقالاتنا حتى السياسية والنقدية. أول كتبي المولودة بالمناسبة كان "رسائل إلى شهرزاد" ليست شهرزاد زيلدا ابنة إليف شفاق. إنه يعود لشهرزاد أخرى مختلفة، ليست طفلة، إنها شاعرة ومعشوقة وعاشقة، لم يكن اسمها شهرزاد. أنا أسميتها بذلك. بل ربما هي من أسمت نفسها كذلك، ولعل الأصوب أننا اخترنا الاسم سوية.
تعلمنا إليف شفاق، وإن بطريقة غير مباشرة، أن نجنح نحو المجاز والتورية، ونحن نختار أسماء جديدة شاعرية قصصية لمحبوباتنا، ربما لنكون أقدر على الكتابة بحريّة لهن، لأننا سنضطر إلى مناداتهن ومناجاتهن في العلن دون خوف، أو دون أن نحدّ من قدرتنا على التدفق والحنين والحبّ وشهوة الوصال الحميم والانغماس بدفء مياههن الحليبية التي تمنحنا الشعور بالقوة والقدرة على استحضار الواقع من عمق ذلك الخيال البديع. إنها في النهاية أسماء مستعارة تجعلنا أكثر حريّة، وهذا ما قالته إليف شفاق بالضبط، لكنها ستغدو أعلاما يعرفن بها، ويصبح كلّ شيء مكشوفا وكأنه قد كتب بحليب أسود، لينتج أدبا رفيعا كأنه هو ما نريده وما نسعى إليه. كما فعلت إليف شفاق بالضبط في حليب أسود بلا أي مواربة أو كناية أو جملة مجازية. كأنّه كتابٌ "رائع" بل أكثر من هذا كثيراً.
حزيران 2020
من منشورات موقع صحيفة ليفانت اللندنية