في تأمّل تجربة الكتابة
ليس بعد الأسرِ إلا فجر مجدٍ يتسامى
فراس حج محمد/ فلسطين
كم كنت مسرورا وشاعرا بالارتياح عندما أبلغني الصديق حسن عبادي أن ما كتبته تحت عنوان "شيء عن أصدقائي الأسرى من الكتاب"، قد أخذ صدى واسعا سواء عند الأسرى عموما والأسرى الكتاب منهم، وعند الكتاب الذي تحدثت عنهم تحديدا باسم خندقجي وكميل أبو حنيش، وسامر المحروم وهيثم جابر. لقد دفعت تلك المقالة الكثير من الكتاب خارج السجن أن يتواصلوا مع الصديق حسن عبادي (صديق الأسرى) وأن يقدموا للأسرى كتبهم. كنت أشعر بأهمية الكتابة والاستمرار فيها، وكنت أرى الفرحة في حديث أصدقائي المعنيين؛ حسن والأسرى الذين كتبت عنهم.
يعتاد صديقي حسن عبادي كل يوم خميس منذ 30 تموز 2019 وحتى اليوم أن ينشر تدوينة عن الأسرى ضمن مشروعه العبقري "لكل أسير كتاب"، وكتبت تعليقا على إحدى تدويناته فرحا بهذا الجهد: "صرت أتشوّق كل خميس لقراءة هذه التدوينة (لكل أسير كتاب) لمعرفة ما هي الكتب التي ستكون من حظ إخواننا الأسرى، لأكتشف في ظل "كورونا" أننا نحن أيضا أسرى بمعنى ما نحتاج الجديد من الكتب، ونحتاج فضاء الحرية. عدا أن هذه الكتب المنتقاة في كل مرة هي كتب مهمة تفتقر إليها مكتبتي كذلك، فأشتاق للتدوينة هذه لأتزود بالعناوين، على الأقل، إلى حين الانطلاق إلى حيث هي للحصول عليها واقتنائها".
مشروع الصديق حسن عبادي بالاتجاهين من الأسرى وإلى الأسرى شجعني على أن أنبش في أرشيفي القديم، حيث ذلك الوقت الذي كنت أصادف فيه الكاتب حسن عبادي في المواقع والصحف، لست أعرف ذلك الكاتب حينها، كنت شغفوفا بالتعرف عليه، وتشاء الأقدار أن نلتقي، وليس فقط نلتقي بل نصبح أصدقاء، وأكثر. تزداد حماستي لمشروعه، فتعود بي الذاكرة إلى سنين خلت، عندما أرسلت للصديق قتيبة مسلم ديواني "أميرة الوجد"، وسعدت جدا برسالته التي بعث بها إليّ من داخل السجن فرحا بذلك الكتاب، فكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الوفي والصابر فراس حج محمد
حفظك الله ورعاك
تحية إسلامنا العظيم وإيماننا الراسخ وثورتنا الأبية، أطيرها لك مع ريح المساء تقتحم الحواجز والجدران، لتصل لك، وأنت رسول الأرض والحب والفقراء والصدق، داعيا الله عز وجل أن يبقى صوتك وكلماتك تنسج الأمل والتمرد والعطاء والعشق، فقد أخذتني برحلة، رغم السجن والألم والجوع وسنوات المعاناة الطويلة، بلا نصير، إلى عالم الحب والنقاء والتألق والإبداع، وكلما قرأت أعود من جديد، لأقرأ، لا أرتوي، وأشعر بروحك تحلق أكبر من كل الحدود والعائلات والنكبات، فنحن أبناء الجرح والألم، ننتمي للحق، ولا نخشى سوى الله.
أخي الحر فراس
هنيئا لك هذه اللغة، وهذا الإبداع، وقد حولت أشعارك إلى صديق يقتحم الزنزانة، ويرسم البسمة على شفاه المعذبين بالحصار.
اكتب يا أخي، لا تكتئب، فالحر لا يموت وإن ماتت كل الضمائر، والحق لن يغيب، وإن غابت القلوب الحية، فجر بقلمك الصمت، وازرع بالحب والعشق والانتماء كل الصحاري القاحلة، عيوننا وقلوبنا بانتظار كل ما هو جديد..
أخي العزيز فراس..
أسأل الله أن نلتقي على أرض تلفيت الواحدة الموحدة أرضا وبشرا وأن نرى رايات الحرية والنصر عما قريب.
لك تحيات كل الأسرى الذين عشقوا شعرك.. وسلامات خاصة من قاسم مسلم أبو رأفت
تحياتي لأسرتك الطيبة... لوالدك وذويك جميعا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سلامي للأخت سحر عكوب وللأخ محمد عواد*
أخوك / قتيبة مسلم أبو حمدي
سجن جلبوع/ قسم1
26/8/2015
الأسير قتيبة مسلم
لم يسرني شيء كما سررت بهذه الرسالة من الصديق الكريم قتيبة مسلم (أبو حمدي)، متحديا بنبضه وبنصه السجن وقضبانه والسجان وقوانينه! فكتبت في الرد على الرسالة السابقة هذه الرسالة:
كم سررت يا صديقي أن أشعاري حازت شرف ضوء عيونكم ودفق قلوبكم ودفء مشاعركم حيث البرد والصقيع والصحراء القاحلة، إن ما فاضت به رسالتك التي لم أكن أتوقعها قد جعلتني أكثر إيمانا بأهمية الكتابة في الحب قبل السياسة، لملامسة منطقة التوجس الإنساني الفطرية، فلعلها تكون ذلك الكأس النابضة حياة وأملا وفرحا وفرجاً قريبا.
صديقي العزيز أبا حمدي، صبركم وجلالة وقوفكم في معتقلات الظلم وصلابتكم متحدين المؤبدات والسنين المتطاولات يجعلنا أكثر صلابة وحبا ومقاومة، فالحب مقاومة يا صديقي، وهنا أستذكر ما كتبه الأستاذ المتوكل طه حول السجن في كتابه "رمل الأفعى"، خاصة تلك المواقف التي كانوا يتذكرون فيها الحبيبة والزوجة حتى التفكير غير البريء بالأنثى السّجّان!
أعدك يا صديقي أن تظل جذوة الحب مشتعلة تقبس من وهج أرواحكم النور والعزم، فإنني ما زلت مؤمنا بأن الحياة تستحق أن نعيشها وأن نردد ما قاله الشاعر يوما:
ولا تري للأعادي قطُّ ذلاً/// فإن شماتة الأعدا بلاءُ
تحياتي للجميع، ولكل من قرأ تلك القصائد من ديوان "أميرة الوجد"، من أعرفهم ومن لا أعرفهم، تحياتي للجميل الصديق أبي رأفت، وسلامي لكل زاوية وحجر تمردت على قدر السجن القاسي فاستمتعت لصوت فرحكم مهللين مع الشعر غصبا عن معتقلات الظلم الصهيونية.
مع أمل اللقاء قريبا تحت ظل الحرية والعدالة والنور والإنسانية نتفيأ ظلال الحب والغزل ونعانق الشمس في حارات تلفيت الأبية صانعة الرجال الأفذاذ والشهداء العظام.
دمتم بعزيمة لا تلين وصبر لا يوهن.
صديقك
فراس حج محمد
20/12/2015
في الحقيقة، وفي أعماقي فرحت جدا بهذه الرسالة، فرحا لا يوصف، فكيف أدخلت هذه القصائد الغزلية الفرحة في قلوب الأسرى، أتذكر أن عينيّ قد فاضتا بالدمع وأنا أقرأ وأنا أكتب رسالتي ردا على رسالة الصديق "أبو حمدي". وتأكدت أن أعظم الأعمال "سرور تدخله على قلب إنسان".
لم يكن كتاب "أميرة الوجد" هو الكتاب الوحيد الذي يدخل إلى الأسرى، ولذلك ومن خلال مشروع الصديق حسن عبادي حرصت أن تدخل كتبي إلى المعتقلات، فلعلها تفرح محزونا، وتبهج خاطر مهموم، فقد بعثت مجموعة من الكتب لكل من كميل أبو حنيش وباسم خندقجي وهيثم جابر، فصارت كتبي (في ذكرى محمود درويش، وملامح من السرد المعاصر، وشهرزاد ما زالت تروي)، بالإضافة إلى الدواوين (وأنت وحدك أغنية، وما يشبه الرثاء، ومزاج غزة العاصف) بين أيدي الأصدقاء الأسرى.
وإلى حين أن يتحقق المنشود القادم والأمل الموعود في تحرير الأسرى من محنتهم، سنظل أوفياء لقضيتهم نناضل من أجلهم بكل ما نستطيع، فكما قال الشاعر: "فليسعد القول إن لم يسعد الحالُ". وإن هذا لأقلُّ الواجب حتما ولازماً.
الحريّة لأسرى الحريّة، فليس بعد الليل إلا مجد فجر يتسامى.
______________________
* مديرا تربية وتعليم في تلك الفترة حيث أعمل (مديرية جنوب نابلس).