في تأمل تجربة الكتابة
للحبّ ذائقة مثل الكتب تماماً
فراس حج محمد
كنت دائما أفكر أنه لا يليق بي كتاب صغير الحجم سواء في قراءته أو في تأليفه، حتى المرأة التي عشقتها لم تكن صغيرة الحجم، كانت وما زالت مبهرة؛ تملأ العين جلالا وجمالا عندما تنتصب شامخة. كنت أحب دائما أن نقف معا لأرى ذلك منها. كل الكتب التي ألفتها كانت نساء ناضجات مكتنزات، وليست مجرد كتيبات صغيرة.
الكتب كالناس تماما، وكتبي شخصيا مثل حبيبتي، أحب الكتب التي تغري بالقراءة، أحب الكتب غير السهلة. حبيبتي أيضا تغري بالحب و"ممارسة الحب"، لكنها ليست سهلة. أحب الكتب التي تدفعني دائما لأعيد قراءة بعض فقراتها لأفهمها أكثر، وأرى ما لا يراه الآخرون من القراء وحتى الكاتب نفسه، أو تلك التي تدفعني لأكتب في هوامشها ملاحظاتي. كالمرأة التي أحبها تماما تدفعني لأتأملها جيدا، وألاحظ أدق التفاصيل في جسدها وتصرفاتها ومشيتها وملابسها، ورائحة عطرها، وتسريحة شعرها، وحتى نظارتها، أحب تلك المرأة؛ لأنها تدفعني للكتابة عن نفسي لأبني هُويتي الخاصة بي على هديٍ من أفكارها وتجلياتها. أحب متنها كما أحب هوامشها، كالكتب تماما لا فرق بين هامش أو متن، فكل الكتب التي قرأتها كنت أهتم كثيرا بالهوامش كما أهتم بالمتون، أقرأها وأستفيد منها، الهوامش لم توضع عبثا، وليست لتخدم المتون التي تشرحها، الهوامش جزء عضوي كامل للكتب، تماما مثل حبيبتي، لا شيء فيها هامشيّ، كلها متن جميل الحواشي، لذيذ، لا ينضب جماله.
الكتب التي لا تلفت نظري لا داعي لتقليبها بين أصابع يديَ الوحيدة، كالمرأة التي لا تعنيني لست مضطرا لتأملها مهما كانت جميلة أو يدّعي الآخرون أنها جميلة أو زعمت ذات غرور أنها "ذات حسن وجمال".
حين دخلت إلى عالم الكتب لم أدخل صدفة، كنت واعيا تماما. وعندما أحببت تلك المرأة أيضا كنت واعيا تماما، فأنا أحببتها وأنا على أبواب النبوءة بعد الأربعين، وكانت هي كذلك أيضا، وعندما أصبحت كاتبا صرت أكتب تعاليم الحب كما أُوحِيَت لي من لدن تلك المرأة ومن لدن تلك الكتب. صرت مهووساً بتأليف الكتب كبيرة الحجم والمكتنزة، لأن حبيبتي مكتنزة، تقاربني في الطول، ممشوقة القوام ومعتدلة، لا شيء فيها مائل أو يشير إلى عيب. أهتم بصدر الكتاب، لأنني أعشق صدرها النابض حيوية وإشراقا. كنت أهتم بالسلاسة والنعومة وأصوغ العبارات اللينة المعطرة، لأبني صدرا ناعما معطرا خاليا من الوعورة، محاكيا صدر حبيبتي الناعم الخالي من النتوءات. أتأمل الصدرين معا، لأنهما عندي صدر واحد في نهاية رحلة التأليف.
أدخل إلى عالم الكتاب وأنا مشبع بالأفكار كجسم حبيبتي المشبع بالجمال، وكلما كتبت جملة في ذلك الكتاب كنت أبني جسد محبوبتي في ذلك الكتاب. أستمتع بكتابة الكتاب بالنشوة ذاتها التي أستمتع فيها بجسد حبيبتي. كانت الفصول أعضاء مشابهة لأعضاء ذلك الجسم، متناظرة في كل التفاصيل ومشبعة بكل ذلك الوحي الذي يتوغل في ثنايا الورق، كأنه صورة تتماثل وتتطابق مع المثال الذي يسكن ذلك الجسم الذي ليس له مثيل.
ربما هي لا تعلم ذلك، وربما كانت تظن غير هذا، المسألة بالنسبة لي كانت مبدئية تماما، وحدها فقط القصائد كانت قصيرة، لأنني كنت أريدها قُبَلاً حارّة تُطبع على خدها أو شفتيها الناعمتين، لتحدث لديها نشوة الحب والقراءة معا، كنت حريصا على أن أصبح شاعرا جيدا لأعجبها، ليس امتثالا لنصائح درويش الشعرية، فلا نصائح في الحب، بل إنها التجربة، كنت أسعى لتكون قارئة جيدة لقصائدي، ولأحوز الاعتراف بجدارتي بلقب شاعر وعاشق معا في حضرتها وغيابها على السواء.
ها هو العمر يمضي سريعا، سنوات كثيرة مرت وأنا أعشقها، لم يغير الحب مبدأه، وظل مكتنزا، كما هي حبيبتي، وكما هي الكتب التي أقرأها أو أكتبها. مع أن الحياة وظروفها لا تساعدني على أن أكون مثلها مكتنز الجسم، فأنا نحيل جدا أكثر مما ينبغي، أشيب وهرم وطويل. ربما كنت أعوض هذا النحول بالكتب والحب معا، وأعوّض ما فيّ من نقص باكتمال الكتب لتأخذ صفة المحبوبة التي تتضح صورتها يوميا في كل صفحة أقرأها. فكلما كتبت صفحة في كتاب جديد شعرت بدماء الشباب تنطلق حُرّة في شراييني.
ولا يفوتني أن أقول إنني أحب اقتناء الكتب الكبيرة، فكل كتاب مكتنز مودع على رف مكتبتي الكبيرة المكتنزة له طعم خاص ويشبع مرآه مخيلتي ويمدّ ذائقتي بما يرضيها. وكم كنت متمنيا لو أنني أستطيع وضع صورة لحبيبتي بكامل عنفوانها في صدر مكتبتي، لأباهي بها المؤلفين أصحابي الذين تعرفت عليهم في كتبهم، لأقول لهم: حبيبتي مثل كتبكم تماماً، بل إنها الأجمل منكم ومن كتبكم. لا أقول ذلك بدافع أنها حبيبتي التي عشقتها بكامل الوعي والطاقة الحيوية المختزنة في روحي، ولكنها هي الكتاب الأكثر شهوة وشهية من بين كل تلك الكتب التي قرأتها أو ألفتها أو اكتفيت باقتنائها في مكتبتي. للكتب ذائقة كالحب تماما، بل ربما أكثر من كل ما سبق وقلته آنفاً. يا ليتها تعرف ذلك، وتقرّ به إن صادفت ذلك وقرأته، وهي تتجوّل بين آلاف الصفحات الإلكترونية.