الرسالة الثالثة والثلاثون:
أنا لست كاتب عرائض قانونية
الأحد: 27-1-2019
فراس حج محمد
عزيزتي: حبي وتحياتي الكبيرة الدافئة، جمّل الله أوقاتك بالسعادة، أما بعد:
لقد أسعدني جدا وصول الكتب إليك، وأبهج خاطري رؤية المغلف مختوما على طاولة مكتبك، ونغص عليّ تلك السعادة قولك في رسالتك المقتضبة: "شكراً. هل سأجد فراس هنا طي هذه البريد أم سأجد طيف رجل كنت أعني له ذات يوم شيئا؟". عليك أن تعلمي أنه لا شيء يعدل أن تكوني حبيبتي وإلى الأبد، ولكنه عهد قطعته من أجل ألا أوذيك فيّ أو أوذي نفسي فيك. أستميحك العذر في هذا، وأرجو أن تقبلي وتتقبّلي قراري.
والآن، فلنتجاوز هذه النقطة، ولتسمحي لي أن أحدّثك عما جرى معي في الفترة الأخيرة. أغرب حادثة حصلت لي على تويتير؛ شخص ما، ليس له إلا الاسم الأول، يدور بيننا حوار قصير، لكنه متقطع، يطلب مني أن أكتب له كتابا "سيرة ذاتية لشخصية اجتماعية وإدارية"، ويسألني إن كان لديّ وقت، وهل بالإمكان أن نتفق على إنجازه. هو يوفر لي المادة الخام وأنا أعيد صياغتها لقاء مبلغ من المال فقط، دون أن يكون لي أي حقوق فكرية أو معنوية أو أن يشار إليّ من قريب أو بعيد، يلخّص هذا العرض بهذه الجملة: "أنا سأوفر المادة، وأنت تقوم بصياغة المادة بقالب سردي على هيئة سيرة ذاتية".
دعوة وعرض خرافيان، صحيح أنني أعاني من ضائقة مالية، ويبدو أنها طويلة الأمد، ومحتاج لكثير من المال، لكن ليس لدرجة أن أبيع جهدي مقابل مال لن يعمّر في حسابي البنكي سوى سويعات قليلة ويتلاشى ليكون في جيوب الآخرين وحساباتهم، وصحيح أن لديّ وقتا وقدرة كافيين لإنجاز الكثير؛ رغما عن هذا الشتاء المجنون، ولكن لن أكرّر خطأ وقعت فيه قبل ما يزيد عن اثنتي عشرة سنة عندما أنفقت جهد ثلاثة أشهر في الإعداد لمساعد مدرسي للصف الثاني عشر (التوجيهي)، وبعته لأحد المعلمين التجار بثمنٍ، هو بخس مهما كان عاليا، لأن ذلك الجهد المضني ذهبت حقوقه الفكرية لغيري، وهذا ما أزعجني في هذه الدعوة الجديدة.
لقد كان ردي حاسما وقويا، ولم أمنح نفسي فرصة للتفكير، إذ إن هذه الدعوة تشبه حالة الأم البديلة التي تستخدم لحمل نطفة مولود، لن يكون لها نصيب في أمومته، فيتربى ويترعرع بعيدا عنها بعد أن أعطته من دمها وروحها. أيّ غباء هذا الذي يحصل في عالم رأسمالي لا يفكر إلا بالمال، وكيفية الحصول عليه، لاحظي يا عزيزتي كيف يحاول هذا الشخص أن يغريني بالعمل معه بعد أن عرف أنني كاتب ولديّ ثمانية عشر كتابا مطبوعا: "لو اتفقنا سنخرج مجموعة أعمال، لديّ أفكار ممتازة وذات ربحية، ولكن هذا العمل يختلف، سأبلغك لاحقا عن السبب". أرأيت كيف يفكر هذا الشخص ومثله الكثيرون، فهم أبناء عقلية رأسمالية تجارية؛ إن لديه أفكارا ربحية، متى كانت الكتابة مشروعا اقتصاديا للكاتب الحقيقي؟ يا إلهي كم يهين الآخرون الكتابة والكتّاب! لذلك لم أتردّد لحظة واحدة في أن أقطع معه هذا الموضوع المثير للسخرية والمحرض على الذكاء والمستفز: "يا صديقي أنا لست تاجرا، أنا كاتب. لست كاتب عرائض قانونية لأحصل على أجر مادي فقط، وأرجو أن تقدر هذه النقطة، فهذه الصيغة لا تعجبني، وأرجو أن تعذرني". أعرف أن كثيرين من الكتاب يتمنون أن يحصلوا على هذه الفرصة، فقد قال لي مرة معلم صديق: أنت تمتلك مهنة تطعمك الشهد. تخيلي كيف يفكرون، هل هؤلاء الكتاب والمعلمون قادرون على إنبات جيل يتمتع بالانتماء إلى القيم الحقيقية؟ أظن أننا في تردٍّ مخيف.
يا لهذا الشتاء ما أغربه! كتبه غريبه، صدفه غريبة، أفكاره غريبة، كل شيء فيه بدا لي غريبا، كأني لم أعش شتاء قبل هذا الشتاء، إنه ليس قارسا وحسب، بل إنه يحاول أن يجمع كل ما يؤدي إلى عدم احترام الذات والعمل والكتابة. بالتأكيد ستضحكين من غرابة ما أخبرتك به، لكن تأكدي أن هناك في الحياة مواقف يجب أن نقفها وإن كانت تضعنا على حافة الانهيار، لكنّ تمسكك بالقيمة الكبرى يمنحك انتعاشا وقوة وصلابة ودفئا. لعل هذا ما كنت أطلبه لأشعر بأهمية أن أكون كاتبا محترما بعيدا عن جنون التفكير بالمادة فقط، وماذا يضيرني لو أمضيت العمر كله فقيرا؟ إن هذا أفضل مائة مرة من أرى كتابا ألفته، وبذلت فيه جهدي، مطبوعا على الرفوف دون أن يكون لي حق أن أتبناه أو أن أضيفه إلى سيرتي الذاتية، كتلك الأم البديلة، كيف سيكون موقفها عندما ترى ابنها التي حرمت من أن يكون لها. الكتاب ليس أقل شأنا من ابنك أو ابنتك، بل إنه أهم منهما في أحيان كثيرة.
يا ليتك كنت معي الآن وأنا أعيش هذا الإحساس المختلط بين الشعور بالغرابة والاندهاش والنصر، واجتراح ضحكة ساخرة في مواجهة كل ما حدث.
وأخيرا عطفا على بدء. إن حدّقت جيدا في الكتب التي وصلتك سترينني كما يجب أن ترى كاتبة حبيبها الكاتب، وهي تفكك مقولاته التي أودعها في الكتب. ولو دققت جيدا سترين نفسك في تلك القصائد والرسائل المنشورة في الكتابين الآخرين. آمل أن تعوّضك الكتب عن رجل رحل، ربما إلى غير رجعة، مكتفيا بآخر ما لديه من قدرة على كتابة رسالة جديدة كلما برح به الشوق.
مع تمنياتي لك بدفء ناعم وشتاء خفيف الدم... قضيت الثلاثة أيام الأخيرة في الشمس أمام منزلي، كم كانت الشمس جميلة هنا!
فراس حج محمد