<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"جدول عادي"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-qformat:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-fareast-font-family:"Times New Roman"; mso-fareast-theme-font:minor-fareast; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin; mso-bidi-font-family:Arial; mso-bidi-theme-font:minor-bidi;} </style> <![endif]--><!--<!--
يومها استيقظ كعادته بعد الفجرية، حضن النخلة المجنونة، أراد أن يتسلقها كالفئران، يعرف أن الاقتراب منها مستحيل، عمه يوسف حاول منذ عدة سنوات والهواء خطفة من فوق المجنونة، وجدوه بين عيدان القصب، طويلة تقترب من السحاب، من النوع الرفيع.. نظر أسفل المجنونة.. البلدة كلها هنا، توهم أنهم ينتظرون سبايط البلح التى سينزلها.. جميعهم ينتظرون السبايط؟، حتى أمه كانت تتوسطهم.. ينظرون إليها، رقابهم متكئة للخلف، عيونهم فى السماء، تستقبل سحلية تصعد المجنونة، أشعة الشمس حارقة، اختفت السحلية من محيط عيونهم، الزعابيب شديدة، تساقط البلح فوق رءوسهم، المجنونة تتمايل بخفة، يصدر ساقها صوتًا.. "خخخخ".
أسقط البلح كله، بدأت السحلية تتراجع للأسفل، يهبط ببطء، اقترب منهم، مازالوا ينظرون للمجنونة، يتابعون بترقب حركة السحلية، عيونهم متلبدة.. اقترب من الأرض، مدوا أيديهم نحو المجنونة ليشكروها، تلقفوا السحلية، انزلوه أرضا، الصمت يخيم، صوت زعبوبة أمشير قاتلة، الأتربة تعمى الأبصار.. أمه غاضبة، تحتضنه بقسوة، أبوه جامح ثائرا، بالقلم يضربه، أحمر خده الصغير، هدأت الناس من روعة، أخذوه إلى البيت.. من يومها يدعى سحلية.
طفل صغير، صاحب ساقين تشبه عود الكبريت، لا مثيل لهما، رأسه مثل رأس أبيه، طوله كذلك، سريع البديهة والحركة، لا تتوقع رد فعله، لا يشبه من فى سنه.. مهفوف، مجذوب، مجنون.. عنيد.
يكره حصص الإملاء والحساب، كل خميس ينتظر الألعاب بفارغ الصبر، طلوع النخل أحب إليه من الحروف والأرقام، بعد الفجر يغسل وجهه بالماء الساقع، يلبس الجلابية المقطعة، السيالة سليمة، بيده شكارته الخضراء، أخذها من الحاج نور صاحب المخبز القبلى، بيده الأخرى منجله الصغير، نحو زراعات القصب يتجه دون حمار يحمله، يسير فوق ترعة الفؤادية، بصحبة ولاد سيد، يُعقد الطوب بالمياه الراكدة، السمك يجري ويتمايل بذيله.
يبحث عن "الكعروب" فى الغيطان فى مسيرة تنطلق من النساء والأطفال لجمع الغنائم المتروكة بعد حرق القصب، أو حشيش العليق.. المهم يعود بشكارته ويفيض منها الحشيش أو "الكعروب".
يبيع شكارته بجنيه ونصف، يعطيها لأمه، تفرح كعادتها، فتشترى الطماطم والباذنجان.. بالبيض تحضر الغداء لزوجها، العائد من رى البصل، قصير القامة، وجهه محروق كالح، لا يظهر منها إلا أسنان لامعة كالبرق، مرسوم عليه شنب صغير، لحيته مبعثرة شعرها، حصير من الحلف يجلس عليه، منتظر عيون البيض، بجواره يجلس السحلية، يغمض بعينه قليلا وينظر إليه من أسفلها، يخفى فرحته بشكارة الكعروب، أمه تشكره، الكعروب أوقد الكانون، وأطهى الطعام دون ضياع طعمه.
لم ينم القيالة، بشكارته ومنجله فى طريقه لجلب الكعروب، شعر بالغثيان، البول يحرقه، فى "السرابة" وراء عيدان القصب يشمر جلابيته المخططة القطنية، يشد لباسه الأبيض، يتبول، بوله أحمر، على الفحل جلس يداعب بطنه الصغيرة بيده، شهيق عال يخرج مع أنفاسه، ضربات قلبه تتسابق.. فى عجلة من أمرهم أنهى العيال شكارات الحشيش.. السحلية عاد كما ذهب، وضع شكارته فى جيب السيالة، يتمايل بجسده المتعب، نظره ضعيف لا يرى 10 أمتار أمامه، أوقفهم.. يشمر جلابيته، يتبول الدم.
وصل البيت مد السحلية جسده فوق شكارته، أمه على درجات السلُم تتدلي، بصرها يلمح طفلها، وجهها يتغير، يتبدل، يتلون، تخطو كالفهد، بصوت عال.. مالك يامى؟!
أمه فى الأربعين من عمرها، عيونها عسلية اللون، طويلة قليلا عن زوجها، تريدى جلابيتها القروية القصيرة، كلها رسومات من الورد بمختلف ألوانه، فى رجلها شراب أحمر منقوش بخطوط سوداء، وفى قدمها حذاء من البلاستيك شفاف يميل لونه إلى الخضرة.. كانت تبيع الجبن واللبن، تحلبه من بقرة اشتروها منذ عشر سنوات.
ألمه يزداد.. أرسلت لأبيه، حضر جارهم، وصل الطبيب.. دعوه يرتاح، لقد قتلت جسده النحيف، دمرته، نمل ينهش فى جسده، أحضروا الدواء.. يصرخ، الحقنة صعبة.. ادعو الله أن يستجيب ويشفى طفلكم.
الأهل والجيران.. كلهم يجلسون بجواره، الحصير المجاور للحريم، "الدكة" للرجال، وجوههم عابثة، يضعه أبوه فوق رجله، يحرك يده فوق شعره، بصوته الخافت، المتألم، يخرج الكلمات بصعوبة، كأن الحلق أغلق.. "إن شاء الله تخف".
عاد الصمت، ارتعش جسد السحلية، حرك يده، كان يريد النهوض ليتبول، جسده متعب، منهك، لا يقدر، البول يملأ السرير.. أمه تهمس: براحتك، تروح الحمام.. يهز رأسه، يشير بأصابعه، كأنها مسجونة فى صندوق ضيق..لالا.
الأب يدور بخياله كالنحلة، مصير ولده اقترب، الأم تحضر الطعام المسلوق، عادت لتحضر الماء، الأب يصرخ.. الأم تجرى، الدموع تذرف من الأقارب والجيران.. الأم تسقط على وجهها، الأب يحضنه.. شت عقله، يسترجع الشريط، شريط طويل، تدور مشاهده أمام عينه، يحتضن الحسين، الدموع متواصلة.. يصرخ ويقول: مقدرتش على البلهارسيا يا حسين، البلهارسيا موتتك يا ولدى.