نزلت من بيتى، الساعة الحادية عشرة تقريبا، الصمت له صوت من الرهبة والخوف، هالنى حجم وعدد الكلاب المتناثرة حول المبنى، الشارع خالٍ من المارة، كلاب هاجت، هاجمت، نبحت وجرت بعيدًا، أشجار عالية تغطى المبانى المنخفضة، لا ترتفع عن أربعة طوابق، ينطلق نعيق الغربان، وهديل اليمام، وتغريد العصافير، وأصوات طيور أخرى لا أعرفها، داهمنى شعور بأن المكان مستعمرة صغيرة بُنيت من مطلع القرن الماضى، أو هو قرية صغيرة هجرها أهلها بعد أن أحاطها الخراب، وطوّقتها قوى باطشة، خرافية وأسطورية مجهولة.

سرت فى الشارع وحيدًا، كان مبتغاى بقالًا فى أحد المجمعات، مازال يبيع الجرائد، كان الجو ربيعيًا، فى منتصف أبريل، حرارة الشمس قوية، إلا لماذا ارتديت غطاءً للرأس، وخلعت ملابسى الثقيلة منذ أسبوعين؟

فى الوسعاية خلف المسجد، لمحت عددًا من النسوة، متشحات بالسواد، يتجمعن أفرادًا وجماعات، كان الباب الخلفى للمسجد مفتوحًا، تشغله جمعية أهلية، توزع ما تيسَّر لها، يجلسن تحت مظلة واسعة يؤمُّها المصلون يوم الجمعة بعد ملء المسجد وباحاته.

ولمحت بقالًا يعمل، واشتريت جريدة الأهرام، تأملت المكان الخالى الذى كان، تشغله سيدة ريفية وزوجها يأتيان بخيرات الريف: من سمن ولبن وجبن وغيرها، لم تكن المحال أو المقاهى مفتوحة، لم يكن هناك شيء يعمل فى هذه المدينة الصحراوية، إلا البقال والصيدلى والخباز.

يوم الجمعة الفائت داهمنى الحظر، وتعاملت معه باستهانة فى بادئ الأمر، ثم كدحت فى البحث عن طماطم وليمون وزنجبيل وكمّون، ولهثت من سوق إلى آخر دون جدوى وتعذر علىّ احتساء طبقى المفضل من الصلطة أو الخضار، أو شرب كوب من الزنجبيل أو الكمون يومين متواصلين.

فى طريق عودتى إلى بيتى، رأيت عربة شرطة تقف بجوار المسجد، تفرّق صاحبات الحاجات اللواتى تجمعن حول الباب، وقلت لنفسى: علهن ينظمونهن على أساس من الحيطة والحذر، ونفيت من رأسى فكرة أنهن ربما يفرقونهن بكل السبل، أو يقتادونهن إلى القسم، أعطيت امرأة تكنس الطريق ما تيسَّر لى، خفت أن تلمحنى زميلاتها، فأشعر بالخجل لنفاد ما فى جيبى.

لمحت رجلًا يسير وحيدًا فى تلك الظهيرة، عكس اتجاهى، تعرفت عليه عند كشك الخبز المُدعّم، كان يسير بتؤدة وعجز، قلت لعله متعبًا أو ثقيل الحركة، ربما من الجلوس الدائم فى المنزل أغلب الوقت أو التنقل بـالعربة التى تحركه لشراء احتياجاته ومشاويره.

أشرت عليه بيدى، لم يلمحنى فى أول الأمر، هكذا تكررت إشاراتى، أخيرًا انتبه، فأشار بيده، وسألته: عن الصحة والأحوال، وأشار لى معبرًا عن امتنانه.

ما الذى أخرجه فى هذا المناخ الموبوء.. هل يبتغى مثلى الجريدة؟

ورفعت قدمى على الرصيف، وعاقدًا العزم على دخول بيتى، وتمهلت قليلًا، أفكر فى أمر كلاب متناثرة مستلقية فى استكانة أو قائمة على مؤخرتها أو تتقافز وتلعب أو تحاول إتيان الإناث منها، وتمهلت قليلًا، لأسمع أذان الظهر، ينطلق من عدد من المساجد القريبة، وسمعت الأذان واضحًا وقويًا: «الصلاة فى بيوتكم.. الصلاة فى رحالكم».

محمد رفاعى

كاتب

elsayda

بوابة الصعايدة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 190 مشاهدة
نشرت فى 31 مايو 2023 بواسطة elsayda

رئيس التحرير: أشرف التعلبي

elsayda
نحارب الفقر- المرض- الامية -الثأر... هدفنا تنوير محافظات الصعيد- وان نكون صوت للمهمشين »

تسجيل الدخول

بالعقل

ليس كافيا أن تمتلك عقلا جيدا، فالمهم أن تستخدمه جيدا