عَاشِقٌ شَقِيٌّ.
أَنَا عَاشِقٌ تُونسِيٌّ.
وُلِدْتُ مِنَ الجَمْرِ سَاعَةَ قَيْظٍ..
وَلَمْ يَلْفَحُونِي بِمَاءِ...
تُرِكْتُ وَحِيدًا قُرَابَةَ عَقْدٍ بِلاَ صَفْحَةٍ نَاصِعَة..
وَلَمْ يَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا سِوَى فَقْرَةٍ خَاوِيَة..
حُرُوفُهَا مَغْمُوسَةٌ فِي الدِّمَاءِ وَأَحْلاَمُهَا ذَاوِيَة..
وَأُمِّي وَقَدْ أَسْقَطَتْ حَمْلَهَا تَرَدَّتْ عَلِيلَة،
أَطِبَّاؤُهَا شَخَّصُوا وَضْعَهَا وَقَالُوا بِأَنَّهَا فَاقِدَةٌ وَعْيَهَا..
رَضَعْتُ حَلِيبًا مِنَ المُرِّ آمَالُهُ،
وَأَحْلاَمُهُ مِنْ طَنِينِ النُّخَبْ..
وَطَارَدْتُ ضَوْءً ضَئِيلاً بَوَاعِثُهُ مِنْ بِلاَدِ العَرَبْ..
فَغَابَ بِلَيْلٍ طَوِيلٍ وَتَاهَ بِصَحْرَاءِ نَجْدٍ،
وَشَقَّ العِرَاقَ مُرُورًا بمِصْرَ وَذَابَ كَطَيْفٍ هَفَا وَانْسَحَبْ..
أَنَا العَاشِقُ التُّونسِيُّ أُغَرِّدُ طُولَ اللَّيَالِي بِصَوْتٍ نَحِيلٍ،
وَمَا مِنْ مُجِيبٍ... وَمَا مِنْ سَمِيعٍ ...
وَمَا مِنْ حَبِيبٍ يُضَمِّخُ قَيْظِي بِعِطْرِ الأَدَبْ..
وَيَعْجِنُ شَوْقِي إِلَيْهِ بِمَاءِ الصَّبَابَةِ وَيَمْسَحُ دَمْعِي بِنَارِ المُحِبْ.
سَمَائِي سَحَائٍبُ مِنْ سُلْطَةٍ تَائِهَة إِذَا أمْطَرَتْنِي،
سَقَتْنِي دُرُوبًا منَ التِّيهِ شَقَّتْ فُؤَادِي بِوَيْلِ غَضَبْ.
وَأًرضِي رَمَادُ صَقِيعٍ تَنَاثَرَ فَوْقَ رُبَى ذِكْرَيَاتِي،
وأَوْرَثَنِي نَكْبَةً مِنْ شَغَبْ..
وَأَهْلِي لَهُمْ مِنْ دِمَائِي تِرْيَاقُ حُلْمٍ طَفَا مُدَّةً وَاغْتَرَبْ..
أَنَا العَاشِقُ المُغْتَرِبْ..
أَمُوتُ بِغَيْظِي فِي كُلِّ يَوْمٍ ثَلاَثِينَ مَرّة،
وَأَحْيَا بِلاَ نَجْمَةٍ فِي ظَلاَمِي تُنٍيرُ سَبِيلِي لِفَجْرٍ مُحِبْ..
دُرُوسِي تَدَاعَتْ بِفِعْلِ الضَّبَابِ إٍلَى بِرْكَةٍ مِنْ صَدِيدِ الطَّحَالِبِ،
فَأَلْقَيْتُ كُلَّ شَذَاهَا بِنَهْرِ العَطَبْ..
حُرُوفِي تَئِنُّ أَنِينَ اليَتَامَى أُرَاقِبُهَا مِنْ بَعِيدٍ وَأَتْرُكُهَا تَنْتَحِبْ..
أَنَا التُّونسِيُّ الشَّجِيُّ سَلِيلُ الجِبَالِ البَعِيدَة،
جُذُورِي بدجلةَ تُرْوَى بِسَيْلٍ مِنَ الغَمِّ خُصَّتْ بِهِ كَرْبَلاء،
وَفَرْعِي بِمصْرَ تَمَدّدَ هَمًّا قَدِيمًا لِيَبْلُغَ بَابَ السَّمَاء،
وَلِي ثَمْرةٌ منْ دِمشقَ تَجَافَتْهَا كُلُّ العُيُونِ،
وَأَرْدَتْهَا مَدْحُورةً فِي الخَلاَء،
وَأَمَّا الخَلِيجُ فَلِي عِنْدَهُ ذِكْرَيَاتْ طَوَاهَا بِفِعْلِ النُّخَبْ..
وَأَضْحَى يُغَنِّي بِصَوْتٍ خَوَاء..
أَنَا التُّونسِيُّ الشَّقِيُّ، حَسَاسِيَّتِي مُفْرِطَة،
تَرَعْرَعْتُ فِي القَيْظِ حَتَّى فَقَدْتُ الهَوَاء،
وَأَوْجَعَنِي الثَّلْجُ لَسْعًا مَرِيرًا سَرَى فِي دِمَائٍي،
فَأَوْرَثَنِي البُغْضَ....بُغْضَ الشِّتَاء..
فَلاَ تَسْمَعُوا صَوتِي- يا أَصْدِقَائِي - لِأَنَّهُ صَوْتُ النَّشَازِ،
يُعَطِّلُ سَيْرَ اللُّحُونِ بِبَحْرِ الحَيَاةِ وَيُفْسِدُ عِشْقَ البَقَاء...
صالح سعيد/ تونس الخضراء.