دور الأطباء في الاهتمام بصحة الناس لا يقتصر على تقديم الخدمات التشخيصية أو العلاجية في المستشفيات، بل هناك ما يُسمى بالخدمة الطبية الوقائية.
وهي التي تحاول في جهودها إعطاء النصائح والإرشادات حول أفضل وأدق ما يُمكن فعله للوقاية من الإصابة بالأمراض.
أحد أهم جوانب نجاح جهود الطب الوقائي، إدراك الناس ما هي الحالة المرضية، وما هي الأمراض الشائعة، لأن الإنسان إذا ما اقتصر اهتمامه الصحي، في نفسه أو أفراد أسرته، على الحالات التي يظن أنها (أمراض).
وأن ما يعرفه من أسمائها هو فقط ما يحتاج إلى الذهاب للمستشفى ومقابلة الطبيب وما عداها لا علاقة لها بالطب، فإنه سيُعاني من الكثير دون تلقيه لأي مساعدة طبية تُفيده وتخفف معاناته.
ومعرفة البعض ببعض الأمراض فقط، واعتقاده أن البقية، مما قد يعتري أي إنسان، مجرد (اضطرابات غير طبيعية) ولا تُعتبر من (الأمراض)، هو من الجهل المركب، كما يُصنف الفلاسفة أنواع المعرفة.
وذلك البعض يرتكب ثلاثة أخطاء، الأول، عدم معرفته أن تلك الأعراض غير الطبيعية هي مرض، والثاني، أنه يُصنفها على أنها ليست مرضاً، والثالث أنه لا يتوجه إلى منْ يُعالجها.
وعلى سبيل المثال، هناك مجموعة من (الأعراض غير الطبيعية)، التي قد تعتري أي إنسان، والتي تنتشر الإصابات بها أيضاً، قد لا يُلقي لها البعض بالاً، ولا يهتم بها كـ(أمراض)، وبالتالي لا يتوجه للطبيب لمعالجتها.
ودعونا نُراجع لهذا المثال جملة من (الأعراض غير الطبيعية)، لنرى ما يُمكن أن يكون الرابط فيما بينها، وما هو تصنيف وتعريف الطب لها.
وهي: المعاناة من صداع، أو من تهيج وجفاف في العين أو الأنف أو الحلق، أو من سعال جاف وحكة في الجلد، أو من غثيان ودوخة ودوار، أو من صعوبات في التركيز الذهني، أو من سرعة الشعور بالتعب والإجهاد المتواصل، أو من حساسية لبعض أنواع الروائح، أو من زيادة معدلات الإصابة بنوبات الربو أو ظهور الربو فيمن لم يكن يشكو منه من قبل، أو من تغيرات في الشخصية والمزاح، مثل سرعة الغضب أو الحزن أو البكاء أو الاكتئاب، أو من أعراض في الجهاز الهضمي تتشابه مع تلك المُصاحبة لحالات القولون العصبي.
والسؤال المطروح إزاء المعاناة من كل هذه الأعراض والاضطرابات، أو من بعضها، هو: هل من أمر صحي يجمع في ما بينها، وهل لدى الأطباء تفسير يُبرر لنا لماذا يشكو البعض من كل ذلك؟
قد يستغرب البعض أن ثمة حالة مرضية تُدعى (متلازمة مرض المباني) (Sick building syndrome SBS).
وأن كل الأعراض المتقدمة الذكر، هي في الحقيقة بعض العلامات المرضية لتلك الحالة الصحية. بل قد يشتد الاستغراب إذا قلنا أن منظمة الصحة العالمية أعلنت ، وقبل 22 عاماً، عن صدق وجود حالة صحية تُدعى (متلازمة مرض المباني).
ووضع الخبراء الطبيون فيها تعريفاً لهذه المتلازمة المرضية، وتحديداً للأعراض التي قد يشكو منها المُصابون بها، وتبريراً لأسباب إصابة البعض بها حال تواجدهم في بعض من المباني دون أخرى، وغير ذلك من المعلومات الطبية المتعلقة بتلك الحالة الصحية الشائعة.
وقد يستغرب البعض استخدام الأطباء لعبارة “شائعة” في وصف مدى انتشار الإصابات بهذه الحالة.
إلا أن الدراسات الطبية الإحصائية تقول لنا إن 30%، على أقل تقدير، من سكان المباني الجديدة أو المُرممة حديثاً، هم بالفعل مُصابون ببعض أعراض هذه المتلازمة المرضية.
وتعزو المراجع الطبية السبب الرئيسي وراء ظهور الإصابات بهذه الحالة، وانتشار المعاناة منها، إلى خلل في أنظمة التدفئة، والتهوية، وتكييف الهواء، أو ما يُسمى أنظمة هافاك، heating, ventilation, air conditioning (HVAC) systems.
وكذلك تعزوه إلى تلوث الهواء الداخلي في تلك المباني الجديدة، أو القديمة، بالغازات التي تبخّرت، أو المواد المتطايرة، عن أنواع شتى من المواد المستخدمة في البناء، وخاصة في (تشتطيب) المباني، مثل دهان الحيطان والأبواب وتمديدات الكهرباء والمياه وغيرها.
وقائمة الأسباب قد تشمل استخدام أنواع من الروائح الصناعية لتعطير الأثاث أو التنظيف، وسوء توزيع الضوء، وخاصة نوعية وانتشار الضوء الطبيعي، أو الصناعي، داخل الحجرات أو في الممرات.
وكذلك اختلاف التوزيع والتأثير الصوتي في داخلها، وعلى من يسكن أو يعمل فيها، بفعل كيفية البناء ونوعية الأثاث وأجهزة التكييف وغيرها. ناهيك عن تأثيرات العفن والفطريات وغيرها من ملوثات الهواء بمواد مهيجة للحساسية أو مؤثرة على الجهاز العصبي.
ولو استغرب البعض عدد ما ذُكر من الأعراض المتقدمة، فإن الأطباء يزيدونه من الشعر بيوتاً أخرى، بقولهم أن ما تتحدث عنه المصادر الطبية حول أعراض (متلازمة مرض المباني) يزيد عن 50 عرض أو علامة صحية، قد يشكو من بعضها، أو كلها، المُعانون من تلك الحالة المرضية.
ولأنها أعراض متنوعة، ولا يبدو أن ثمة شيئاً ما يربط فيما بينها، فإن الحالة المرضية، الجامعة لوصف أعراض مرض المباني، تُسمى طبياً (متلازمة).
كما لا يُشترط في تشخيص إصابة إنسان ما بتلك الحالة، ضرورة زوال كل الأعراض تلك عنه بمجرد مغادرته لذلك المبنى أو تركه الإقامة فيه، لأن التأثيرات العصبية، لبعض من المواد الكيميائية، قد لا تزول عن الجسم بسهولة، خاصة لدى الأشخاص الأكثر عُرضة للتأثر.
الثقافة الطبية، ولو بمستوى متدن، لم تعد اليوم شيئاً من الترف في المعرفة أو الثقافة، بل في غالب الأحيان ضرورة. وما تتحدث الأوساط الطبية عنه في قاعات المحاضرات أو المؤتمرات الطبية، وحتى في أروقة المستشفيات، أصبح اليوم متشعب في شموله كثيراً مما يُحيط بالإنسان في حياته.
ساحة النقاش