كانت تستهويني بشدة لعبة الشطرنج، أجد فيها متعة كبيرة وأنا العب وأفكر.!! أفكر كيف سأنقض على الملك وأنزله عن عرشه ـ وأفوز على منافسي، أقصد منافستي، وهي صديقتي أميرة جارتنا أو زميلتي صفاء. وأحياناً كنت ألعب مع أمي ـ فهي أيضاً تحب الشطرنج الذي تعلمته مني دون أن أعلمه لها، ودون أن تبدي رغبتها في تعلمه ـ حيث كانت تجلس بجانبنا حين كنا نلعب أنا وصديقتي أميرة في الأجازة .. أمي كانت شديدة الذكاء ـ وأي شئ تريد أن تتعلمه.. تتعلمه بسرعة مذهلة !! كان والدي يمقت تلك اللعبة .. الشطرنج أو أي لعبة أخرى يقول عنها أنها حرام... كنت أحاول أن أقنعه أن تلك اللعبة بعينها ليست حرام.. فهي يا أبي لعبة مفيدة ـ تنمي الذكاء وتقوي الذاكرة .. فيقول لي: أعرف ذلك .. لكن أعتقد أن قراءة كتاب ديني أو علمي أو أدبي ستستفيدين منه أكثر من تلك اللعبة التي يضيع معها الوقت هباءً.. فكنت لشدة حبي لوالدي واحترامي لنصائحه أحاول أن لا ألعب كثيراً.. خاصة في وجوده ـ ليس خوفاً .. لكن احتراماً واقتناعاً.. إقتناعاً بأن القراءة هي الأفضل لي والأمتع والأكثر استفادة.. لقد كنت صديقة حميمة لوالدي.. لذلك أخذت عنه عشق القراءة والإطلاع والإبحار الجميل في عالم القراءة الساحر..!!
* شيئاً فشيئاً أخذت أبتعد عن تلك اللعبة التي كنت أعشقها بشدة ـ وأعشق معاركها الرائعة بقطع الشطرنج البيضاء الجميلة ـ والسوداء كنت لا ألعب بها إلا ّنادراً ـ فقد كنت أتفاءل بالقطع البيضاء لأني كنت كثيرة الفوز بها ...
بإرادتي تركت الشطرنج.. حين بدأت أشياء أخرى تشغلني عنه .. كنت تقريباً في الخامسة عشر من عمري، حين صرت أسمع رأي مدرسيني في.. رأيهم الذي كان يحيرني للغاية !! هذا يرفعني إلى سابع سما.. وهذا يسقطني إلى سابع أرض..!! كان رأيهم يشبه إلى حدٍ ٍكبير مربعات رقعة الشطرنج.. مربع أبيض ومربع أسود !!( المربع الأبيض) حلم جميل.. وتحليق في عالم سحري ملئ بالأمنيات ..! ( المربع الأسود) كابوس رهيب يسحق الحلم الجميل.. ويحطم الأمنيات .. ويقتل النفس ويلقي بها في جب عميق ..!! هكذا كان إحساسي..وربما مازال..!! ـ مثلاً.. حين قال لي الأستاذ إبراهيم مدرس التربية الفنية: أنت يا عزة ليدكِ حس فني جميل وأتنبأ لكِ بأن تكوني رسامة كبيرة في المستقبل ..أطير فرحاً.. وأشبه حصة الرسم ـ بالمربع الأبيض( المربع الأول) في رقعة الشطرنج .. أما مدرس اللغة الإنجليزية الأستاذ رستم فكان رأيه يمثل لي المربع الأسود.. كان يقول لي:( يا بنتي إنتِ مش نافعة خالص..أحسن لك تقعدي في البيت ) .. كنت أخجل لإحراجه لي دائماً عند أي غلطة وكان ينتقد ملابسي وشعري وينهرني كي أرفع الشعر عن عيني حتى لا تنقلع كما يقول.. كنت أتحمل كلامه القاسي لأنه كان كذلك مع كل زميلاتي .. كثيراً ما كنا نضحك على كلامه.. بالطبع دون أن يرانا.. رغم ذلك نحترمه بشدة ونخافه لكننا جميعاً كنا لا نحبه لقسوته.!! الأستاذ محمود مدرس اللغة العربية كان يرفعني من سابع أرض تلك التي هويت فيها في حصة الأستاذ رستم الذي كان رغم شدته وقسوته علينا في الحصة يبدو طيباً على الحقيقة.. وكانت له ابنة جميلة معنا في المدرسة مثلنا في الصف الأول الثانوي... كانت سابع سما بالنسبة لي حين آخذ الدرجة النهائية في التعبير ـ وعندما يقول لي الأستاذ محمود: لديكِ يا عزة موهبة الكتابـة ـ وأتنبأ لك أن تكوني أديبة وكاتبة كبيرة في يوم من الأيام .. ويستمر في كلمات التشجيع لي.. لكني لم أسمع منه بعد ذلك شئ ـ فلقد توقف سمعي عند جملة ستكونين أديبة وكاتبة .. وأحلق بعيداً.. أبعد من سنوات عمري..!!
أما المربع الأسود الحالك السواد فكان حصة الأستاذ كمال مدرس الرياضيات، كنت أكره بشدة تلك الحصة.. أكره الجبر ولا أفهمه بسرعة .. وكنت أفضل عليه الهندسة .. كنت أحب رسم الدائرة.. أرى فيها وجه القمر الذي أعشقه بشدة.. وأغضب حين يضع عليها الأستاذ علامة غلط ! frown emoticon ليه يا أستاذ كمال غلط. ؟) يقول بهدوء ملئ بالغيظ : هذه الدائرة لا تمت لدائرتنا بصلة.. ويخبط بيده على كراستي ويواصل: هذه بطيخة.. بطيخة !! كنت أغضب بشدة لأنه يشبّه القمر بالبطيخة ... أحياناً كنت أرسم الدائرة ـ مائلة إلى الشكل البيضاوي مثل وجه زميلتي فوزية.. أيضاً غلط.. غلط !! يا إلهي.. ماذا أفعل؟! كنت أخجل منه حين يقول لي : ( أنا مش عارف إزاي نجحتي في الإعدادية ودخلتي الثانوية ؟..) ويمسك ذقنه الرفيعة بأصابعه الطويلة الرفيعة أيضاً وهو يقول لي frown emoticon أهي ذقني إذا خرجتي منها.. يقصد الثانوية.!.
* وتتوالى المربعات.. هذا أبيض وذاك أسود ... مادة التاريخ مربع أسود.. فقد كنت أكره فيه حفظ التواريخ.. وأكره سيرة الحروب والغزوات.. أحب فقط قصص الأبطال العظماء المشهورين ..! حصة الجغرافيا تمثل لي مربع أبيض.. فقد كنت أطوف معها بلدان العالم.. أحفظ كل البلاد وعواصمها وموانيها ومعالمها السياحية.. وتاريخها ومناخها و.. ! كنت في كل حصة للجغرافيا أسافر إلى بلد جديد..أشعر بدفئه إذا كان جوه دافئاً.. وأشعر بالبرودة إذا كان بارداً.. وأحياناً كنت أتزحلق على الجليد !! بلدان كثيرة.. هذه أمريكا الرائعة.. وتلك اليابان الهادئة النظيفة.. وهذه تونس الخضراء الجميلة.. وهذه باريس الساحرة ـ مدينة النور والجمال كما وصفها الدكتور طه حسين..!!
* وهذا أيضاً مربع أبيض.. حصة الدين ـ حيث القصص الدينية الرائعة.. وحفظ القرآن.. كنت أحب أن أحفظ القرآن والأحاديث النبوية الشريفة .. أحفظ كل السور المقررة وأكثر.. كنت أشبّه القرآن بالشعر.. لأن الآيات جميلة ومرتبة وموزونة..لكني كنت لا أقول هذا التشبيه لأحد ـ حتى لا يقولون لي هذا حرام.. ( ربنا يوديكي النار.).!!
* ما أحببت مُدرسة أكثر مما أحببت أبله سعاد، زوجة الأستاذ إبراهيم مدرس التربية الفنية .. فقد كانت تشجعني هي أيضاً وتمدح رسوماتي ولوحات الحائط التي كنت أقوم بعملها وتعلقها لي دائماً في أماكن بارزة جميلة ..!!
**** **** ****
*أتذكر طفولتي .. مربع أبيض..!!
و.. تسقط من يدي قطعة الشطرنج الذي تركته لسنوات.. لكنه لم يتركني.!
ويأتيني صوت ابنتي التي تجلس أمامي مباشرة ً..!!!
ـــ ماما.. إلعبي يا أمي .. آراكي تسرحين بعيدا ؟ !
ـــ لقد سرحت بعيداً.. بعييد.. أبعد مما تتصورين!!!
ـــ بعيداً إلى أين يا أمي.. إلى الملك ؟ ..
ـــ الملك .. أين الملك ؟ فأنا لا أرى أمامي سوى تلك المربعات المتناقضة .. مربع اللغة العربيةـ ومربع الإنجليزية ومربع الرسم والدين و...!!
كفى لا أريد أن أكمل الدور.. فقد استسلمت .. خذي الملك يا أمل!!
ـــ لا أصدق يا أمي أن تستسلمي بهذه السرعة.. رغم صبرك الشديد وقوتك!
ـــ ( إستسلمت لأجلك حبيبتي )..!!
ـــ كلامك غريب يا أمي..هل هناك ما يضايقك ..؟!
ـــ لا حبيبتي .. فقط أريد أن أستريح قليلاً..
ـــ كما تريدين يا أمي... !! هل ستكتبين ..؟
ـــ إحتمال !
ـــ إذن ستكتبين ..!
ـــ نعم.. فقد خطرت ببالي فكرة قصة ـ أثناء لعبنا الشطرنج الآن.. سأكتبها،
فقط سأكتب الفكرة.. وسآتي لنعد العشاء ـ فإخوتك قربوا على الانتهاء من المذاكرة ـ وسيطلبون العشاء ..!
ـــ لا .. لن نتعشى يا أمي قبل أن نكمل الدور..أو أعرف سبب تغيرك المفاجئ !!
ـــ اطمئني حبيبتي ـ سنكمل الدور وسنلعب دوراً جديداً.. فقط اتركيني الآن لبعض الوقت.!!أكتب بداية القصة أو على الأقل الفكرة ـ حتى لا تتوه مني !!
ـــ كم أنا متلهفة يا أمي أن أقرأ تلك القصة..!!
ـــ لا تتفاءلي هكذا.. ربما لا تعجبك .. وربما لا تفهمينها.. أقصد.!!.
ـــ تقصدين ماذا.. أنسيت أنني سأتم الرابعة عشر بعد أسبوع ،( يعني كبرت يا ماما ) .. وسأفهم القصة جيداًـ وحتى وإن كان المعنى في بطن الشاعر.. لأن بطن الشاعر .. وقلبه وعقله أعرفهم يا أمي يا حبيبتي ..
ـــ .......................!!
ـــ وأيضاً أنا خبيرة في قراءة ما بين السطور !
ـــ كفاك السطور حبيبتي .. كفاك السطور !!
ـــ ولماذا هذه التنهيدة العميقة يا أمي ..؟
ـــ ......................!!
************
ـــ ماما .. هل اخترتي عنواناً للقصة ؟.
ـــ محتارة جداً في العنوان..!! ما رأيك لو يكون.. أنا وابنتي والشطرنج.. أو حياتي وال...!! لا .. بل سيكون ( المربع الأخير )..
ما رأيك يا أمل .. في ـ المربع الأخير..؟
ـــ ...............؟!!!