جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
هناك ثلاث ملاحظات أوّلية عن هذه اللوحة. الأولى أنها أشهر أعمال الرسّام غونثالو بيلباو. والثانية أن اللوحة أصبحت منذ ظهورها بمثابة تحيّة ورمز للمرأة العاملة. والملاحظة الثالثة اختيارها لتظهر في فيلم "كارمن" المأخوذ عن أوبرا للمؤلّف الموسيقيّ الفرنسيّ جورج بيزيه.
أمّا المكان الذي يصورّه الرسّام فكان أوّل مصنع للتبغ تمّ افتتاحه في مدينة اشبيلية. وكانت شركة خاصّة قد افتتحت المصنع في بدايات القرن الثامن عشر، أي قبل رسم اللوحة بحوالي قرنين.
المعروف أن اشبيلية أصبحت منذ ذلك الحين مركز تجارة التبغ وذلك بعد أن لاحظ الإسبان أن سكّان أمريكا الأصليين، أي الهنود الحمر، يدخّنون النبتة.
في اللوحة ينقل الفنّان بطريقة واقعية جوّ يوم من أيّام العمل في المصنع. في المقدّمة، نرى أمّين ترضعان طفليهما وسط ابتسامات زميلاتهما، بينما تتابع النساء الأخريات أعمالهنّ الروتينية.
تفاصيل اللوحة وألوانها شديدة الواقعية كما هو واضح. الضوء يغمر الداخل من خلال الممرّ والفتحات الجانبية، وهناك تلاعب جميل بالمنظور. أسلوب مقاربة الرسّام للمنظور يسمح لنا بالنظر عميقا إلى داخل الممرّ حيث تعمل نساء أخريات.
من الأشياء اللافتة للاهتمام في اللوحة الملابس القشيبة المطرّزة للنساء والأزهار في شعورهنّ ونظرات الحنان الامومية والسعادة المنعكسة على الوجوه مانحة إحساسا بالحرّية والقناعة.
في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وفي العديد من مدن اسبانيا، عملت جماعات كثيرة من النساء في مصانع التبغ في الأندلس واشبيلية وقادش وبلنسية ومدريد واستورياس وغيرها من المدن.
وكان مصنع التبغ في اشبيلية هو أوّل مصنع يوظّف النساء بدءا من العام 1730م. وكنّ يعملن ابتداءً من سنّ الثالثة عشرة، ولم يكن هناك سنّ محدّد للتقاعد.
كما كان مسموحا للأمّهات العاملات بإحضار أطفالهنّ معهنّ لإرضاعهم ورعايتهم أثناء الاستراحة المخصّصة لذلك.
كان هذا المصنع من اكبر مصانع التبغ في أوربّا، وكان يعمل فيه أكثر من ستّة آلاف امرأة. كانت الرواتب آنذاك زهيدة للغاية. لكن كانت النساء يُمنحن إجازات ولادة وأمومة وتأمينا طبّيا وعلاجا مجّانيا وبدلات وحوافز أخرى.
في ما بعد، تمّ تغيير اسم المصنع إلى "كارمن" على اسم مسرحية جورج بيزيه. وكارمن هو اسم أشهر ماركة سجائر أنتجها المصنع. كما أنه اسم بطلة الأوبرا، وهي فتاة غجرية جميلة تفتن الرجال في إحدى الأساطير التي ارتبطت بمدينة اشبيلية من قديم.
المعروف أن بيزيه استلهم موضوع مسرحيّته الغنائية من آلاف النساء العاملات اللاتي رآهنّ يعملن في المصنع في القرن التاسع عشر.
كانت كارمن امرأة متحرّرة اقتصاديّا، ومن ثم متساوية في علاقتها مع الرجال. غير أن الطبقة البورجوازية كانت تربط بين عمل المرأة وتردّي الأخلاق. وقد راجت في ذلك الوقت أسطورة تقول إن تدخين سيجارة صنعتها امرأة يمكن أن يتسبّب في إثارة الرجل جنسيّا وقد يؤدّي إلى هلاكه.
لوحة بيلباو هذه هي واحدة من سلسلة من اللوحات التي خصّصها لصناعة التبغ في اشبيلية. وهناك من يقول إنه استلهمها من لوحة لاس هيلانديراس "أو أسطورة اراكني" لـ دييغو فيلاسكيز.
بشكل عام، تتحدّث صور بيلباو عن الأخلاقيات وعن الخصوصية المناطقية، كما أنها تحتوي على بعض الرموز. وهي في نفس الوقت تعكس اهتمامه واحترامه للطبقة العاملة التي تسهم بفاعلية في نهوض المجتمع والدفع بالاقتصاد إلى الأمام.
ولد غونثالو مارتينيز بيلباو عام 1860 في اشبيلية لعائلة موسرة. وفي بداياته تتلمذ على يد الفنّان خوسيه اراندا، ثم بدأ مزاولة الرسم وهو في سنّ العشرين. وفي تلك المرحلة بدأ استنساخ بعض لوحات فيلاسكيز وغويا التي سبق أن رآها في متحف البرادو.
لكن، وبإصرار من والده، درس القانون وتخرّج من الجامعة عام 1880. غير انه لم يمارس المحاماة لأنه كان قد قرّر تكريس كلّ وقته وجهده لدراسة الرسم والموسيقى.
ولأنه حقّق نتيجة جيّدة في القانون، أرسله والده إلى ايطاليا وفرنسا. وفي باريس زار عددا من المتاحف ومحترفات الرسّامين الفرنسيين والإسبان الذين كانوا قد تقاعدوا في العاصمة الفرنسية.
مكث الفنّان في ايطاليا ثلاث سنوات قضى معظمها في روما. كما سافر إلى عدّة مدن أخرى مثل نابولي وفينيسيا حيث رسم فيهما مناظر حضرية وريفية قبل أن يعود إلى اسبانيا.
غير أن شخصيّته المتقلّبة حالت بينه وبين العيش في اشبيلية، لذا كان يتنقّل من مكان لآخر بحثا عن طبيعة يرسمها. وكان مكاناه المفضّلان كلا من طليطلة وسيغوفيا.
وفي ما بعد سافر بيلباو إلى المغرب بحثا عن الإلهام ومكث فيها أشهرا، ثمّ عاد مرّة أخرى إلى باريس للبحث عن اتجاهات فنّية جديدة، ولكي يبيع اللوحات التي كان قد رسمها أثناء رحلته إلى المغرب.
وحوالي بدايات القرن الماضي، أصبح أستاذا للرسم في أكاديمية الفنون الجميلة في اشبيلية. ثم عُيّن رئيسا للأكاديمية.
كان بيلباو يعمل بجدّ ونشاط حتى وفاته. وقد كرّس حياته للرسم، وكانت له ارتباطاته وعلاقاته بعالم التبغ الذي رسمه بطريقة لا تخلو من رومانسية. كان ملوّنا عظيما تأثر بالانطباعيين، لكنه لم يتخلَّ عن أسلوبه التقليدي في رسم الطبيعة.
وبعض لوحاته الأخرى يمكن اعتبارها دروسا حيّة في حبّ الإنسان لوطنه ولعمله. وقد استفادت من أسلوبه الواقعيّ المميّز أجيال متتالية من الرسّامين الإسبان.
وعند وفاته في العام 1938 تبرّعت زوجته بمجموعة من أعماله لمتحف الفنّ في اشبيلية، وخُصّصت لتلك الأعمال صالة منفردة.
أما بالنسبة لمصنع التبغ، فمع مرور الزمن دخلت الآلة مجال التصنيع ما أفقد العديد من العمّال وظائفهم. ثمّ شيئا فشيئا بدأ الناس يفتقدون رؤية اولئك النساء بملابسهنّ الزاهية وبأزهارهنّ التي تميّزهنّ.
وفي بداية عام 2003، أعلن مصنع كارمن للتبغ عن إغلاق أبوابه نهائيا بسبب ما قيل عن انخفاض مبيعاته وتدنّي عوائده. وبإغلاقه انتهت حقبة ثقافية واجتماعية مميّزة من تاريخ اسبانيا امتدّت لأكثر من مائتي عام.